عرض مسرحية (الراديو) ومسرحية (الميت مات) توجهات فكرية وخصائص فنية مشتركة/ حبيب ظاهر
تقديم 1- الفنون نتاج قيم وروح العصر، إذ تؤثر في الفنون والآداب مجمل العادات والأعراف والاكتشافات العلمية والتطورات السياسية والثورات والحروب وما يسمى بالهزات الحضارية، مما يدعو إلى حدوث تغيير وتجديد في بنية الفنون والآداب الفكرية والاسلوبية، وهذا هو السبب الرئيس والمباشر في ظهور التيارات الفنية ونشوء بنى جديدة والأطروحات فكرية ما كان الفنان يعرفها ويتصدى اليها سابقا، بل قد تكون بعض الأطروحات محظورة ومرفوضة وربما غير موجودة أساسا، إلا أن المستجدات والتطورات – ارتقاء كانت أم نكوصا – فرضت التعاطي معها.
تقديم 2- عند حضور مهرجان أو مؤتمر علمي – ربما – يتملك البعض هاجس البحث عن القواسم المشتركة بين هذه العروض المسرحية او تلك البحوث العلمية، لأنها حسبما يفترض وليدة العصر ونتاج البيئة المحلية، ولأن الفنان هو أكثر الناس حساسية لبيانات عصره ومشكلات وظواهر واقعه ومجتمعه فلا مناص من تغلغل الظواهر والمشكلات المحيطة به في روحه، وبالنتيجة يحاول إخراجها وبثها بصور فكرية مؤطرة بالجمال.
تقديم 3- اقام المركز الثقافي – جامعة البصرة فعاليات (أيام البصرة المسرحية) للفترة من 30/6 – 2/7/ 2022 ، وتضمن ستة عروض مسرحية، فضلا عن معرض للصور وقراءات لنصوص مسرحية وحفل توقيع كتب، وقد تم عرض مسرحية (الراديو) تأليف: النيجيري (كين تسارو- ويوا) اخراج: محمد حسين حبيب، وعرض مسرحية : (الميت مات) تأليف علي الزيدي وهي اول تجربة اخراج للمؤلف وقرر ان يصف مهمته (بالدراماتورج ) الذي يعني – ضمن ما قد يعنيه – المستشار والمفسر.
صورة مسرحية الراديو: تنبعث أصوات إذاعات كثيرة من الراديو، شخصيتان في سكن بائس، لا يوجد ما يسد الرمق، تأثث الفضاء بسرير ومنضدة وكراسي … المفردة الغريبة الموجودة هي (الميكروفونات ) المحيطة بالمكان، استخدمت الميكرفونات لإذاعة عبارات ذات أهمية في إيصال فكرة العرض، شخصية (باسي و الالي) تعيشان وسط الجوع والفساد والخراب، احداهما استضافت الاخرى في سكن لم يدفع مبلغ الإيجار لشهور، يباغتهم صاحب السكن للمطالبة بالأجور، ينسى قنينة البيرة على المنضدة ويغادر، ومن هذه النقطة تنطلق الأحداث نحو التصاعد، إذ يحضر بعد حين من يستبدل القنينة بجهاز راديو، يقرران بيع الراديو وشراء الطعام، يحضر رجل أمن مزيف يحاول ابتزاهم بتهمة عدم امتلاكهم تصريح جهاز الراديو، سرعان ما يكشفان أمره ويتخلصون منه، يجدون أنفسهم يغوصان في الضياع والبؤس: لأن (المواطن ليس مواطنا) اذن (يجب إعادة تنظيم حياتي) تلك الحياة التي حاولا تغييرها بزجاجة بيرة فارغة ولم يفلحا، يقرر (الالي) المغادرة ليبقى (باسي) وحيدا مع ضجيج الراديو.
صورة مسرحية الميت مات: شخصيتان جامدتان كل على مصطبة خاصة، عامل يقوم بتنظيف المكان والشخصيتين، تتحرك الشخصيتان ويتعارفان ويوضحان انهما بانتظار من يخلصهما من وضع الجمود منذ اكثر من الف عام، حوارهما مليء بالتكرارات والدوائر الكلامية دون حركة انتقالية من مكانهما، ومجرد محاولتهما للتحرك تسقطهما ارضا مما يستدعي حضور العامل ليعيدهما الى مكانهما، انهما ينتظران أي شخص يضفي معنى على الحياة ، كل منهما ينتظر الاخر ان يأخذ بيده لأنه قد يكون مقعد، عامل النظافة هو الشخصية الوحيدة المعاصرة اما الشخصيتين الجالستين على المصطبة فإن الغبار يغطيها وملابسها الرثة البالية ذات لون اقرب الى التراب ولديها رسائل ذات ورق اصفر متيبس، يدخل عامل النظافة مرات عدة ليمارس مهمته بوسائل مختلفة (المسح بقطعة قماش، رفع الغبار بواسطة جهاز دفع الهواء – البلاور- او بواسطة المكنسة الكهربائية) انه عامل غير مؤثر على حوارهما ولكنه يحافظ على بقاءهما في المكان المحدد، انه لا يسمع حوارهما ولا يتفاعل معهما ولكنه يتحكم بهما، إذ يجب ان يبقيهما جالسين على المصطبتين، ورغم ندرة تحركهما وميلهم الى السكون ولجؤهما الى الحوار وتكراره واستخدام المفردات والعبارات نفسها مرات عدة فإنهما يلقيان الضوء الساطع على عيون الجمهور بأسئلة مثيرة للجدل وعسيرة الاجابة، بل لا توجد اجابات قاطعة عن معظم الاسئلة، لدرجة انها تولد الاستياء لدى عدد غير قليل من المتلقين بسبب من التباس – ربما يكون مقصودا- من قبل المؤلف / الدراماتورج – في ايصال المفاهيم، يحسم أمر كل ما قد يلتبس صوت مذيع عندما يشير الى ان ادارة متحف الحضارات القديمة قررت نقل هذين التمثالين الى مكان اخر وايقاف عرضهما، انه متحف عصري ولكنه مختص بالحضارات القديمة.
جميع مؤشرات العرض دالة على الانتظار، وفي الآن نفسه تحرض في مجملها على الفعل الآن وهنا، وعدم قتل الزمن واستهلاكه بلا جدوى الأحاديث المملة، وتؤكد في محصلتها على المتلقي : إن لم تفعل، تستبعد من الحياة، ويكون مصيرك الاهمال و تنفى الى المخزن
إنهما ينتظران وسط المهزلة و (المهزلة ان تعيش وتنتظر الحياة لتعيشها ) هذا قولهم وهما يقتربان من النهاية ويقترح أحدهما على الآخر أن يموتوا وهما ميتان بالأصل انتظارا وهكذا يحل الدراماتورج غموض عنوان العرض (الميت مات) انهم ميت ونباللا فعل وثم جاء قرار بأن يغادروا حياة العرض المتحفي إلى الخزن الى أجل غير مسمى.
وبعد … يمكن حصر عناصر تشابك عرض المسرحيتين بالتالي:
أولا – تعامل العرضان – الراديو و الميت مات – مع مديات الحرية الفكرية والفنية في ضوء مسؤولية أخلاقية / فنية، لا تخلو من مماحكات ومشاكسات الفنان الباحث في (التنوير السوسيو/سياسي) وذلك بكسر جدران الجمود والخروج من الأطر العرفية الضيقة، والانفتاح على لغة الزمن العصرية، وربما أثار هذا الامر نوعا حادا من الإثارة الفكرية لدى شريحة من الجمهور ودعاهم إلى الحوار مع العرض، ومن الممكن ان يفهم هذا الحوار على أنه من معطيات العرض ونتاجاته لأنه يندرج في اطار التفاعل الايجابي البَنّاء وهذا – على ما يبدو – أحد الأهداف التي حرص على بلوغها المخرج محمد حسين حبيب و الدراماتورج علي الزيدي.
ثانيا – تبدأ مسرحية الراديو بضجيج الإعلام وذلك بالبحث في موجات البث واختلاط أصوات المذيعين وتضارب الأخبار، وتبدأ مسرحية الميت مات بعملية تنظيف روتينية لشخصيتين جامدتين/تمثالين يغطيهما الغبار، يقوم بالتنظيف شخصية العامل الذي لم ينطق بأي كلمة طوال العرض إلا أنه يقوم بعمله بدقة كما يبدو. البدايتين تمهدان للدخول في فكرة العرض ولا تشيان بأحداث العرض، ولا يتم الربط بين مشهد البداية ومجريات الأحداث إلا في نهاية العرض:
- تنتهي مسرحية الراديو: حالما يقرر احدهما المغادرة نهائيا، لأنه تأكد من لا جدوى بقائه، ليعلو من جديد صوت الراديو كما في البداية.
- تنتهي مسرحية الميت مات: حالما يتقرر خزن التمثالين ليعودا الى حال اقسى من حال الجمود الماثل أمام المتلقي وهو الإخفاءإلى أجل غير مسمى.
ثالثا – أسماء الشخصيات لا دلالة لها بالنسبة للمتلقي في كلا العرضين ، إذ كانت أسماء شخصيات مسرحية (الراديو) اجنبية ولم يعرف المتلقي لها معنى، وكانت شخصيات مسرحية (الميت مات) بلا اسماء، مما يوحي بأنها بلا هوية، ومما يؤكد انعدام هويتها وانتمائها لزمان ومكان محدد هو أن الشخصيات تتحدث اللغة الفصحى وبين الحين والآخر تنطق باللهجة المحلية العراقية رغم ان طبيعة سلوكها لا يوحي بأنها عراقية، إنها تومئ الى المحلية، انها تعيش في بيئة تشمل العالم كله لأن انتمائها وخطابها موجه للإنسانية جمعاء.
رابعا – (الراديو) نص اجنبي تمت معالجته بروح محلية، والميت مات نص محلي تمت معالجته بروح عالمية، وفي الحالين ثمة ارتقاء في المعالجة بعدم التقوقع في المحلية وعدم السير في ركاب النأي عن الروح المحلي والتحليق في فضاء يصطلح على تسميته بالعالمي، وبهذا يشهد المتلقي توازنا في قيم العرض والرؤية الاخراجية التي عالجت هذه المعادلة الصعبة إلى حد ما.
خامسا – التوجه الفكري الأهم هو: إدانة الواقع الذي يعيشه أبطال مسرحية (الراديو) إذ تكررت مفردة (الفساد والجوع) كثيرا. وفي مسرحية (الميت مات) تكررت العبارات الدالة على انتظار لمن يحرك الشخصيات، ويغير وضعها الجامد. تناولت كلا المسرحيتين حالة تذمر الشخصيات من محيطهم ومحاولة استبداله دون جدوى مع الميل الى ايضاح عبثية تفاصيل حياتهم، ونبذ السلطة المتمثلة بصاحب السكن في (الراديو) والسخط على صاحب المتحف في (الميت مات)
الخصائص أخرى مشتركة:
- اعتمد كلا العرضين شخصيتين محوريتين.
- ذكورية شخصيات العرض وحتى الكادر الفني جميعا
- التقشف بعدد المشاهد ( مشهد واحد منظر واحد)
- زمن العرض 50 -60 دقيقة.
- في عرض (الراديو) اثاث قديم دال على الفقر. وفي عرض (الميت مات) متحف وبالنتيجة الشخصيات نفسها قديمة وتعاني من قدم الانتظار وعليها طبقة من الغبار. وفي كلا العرضين الازياء قديمة بالية رثة.
- تم عرض المسرحيتين في أكثر من محافظة ولمرات عدة.
- ينتمي المخرج محمد حسين حبيب والدراماتورج علي الزيدي إلى توجهات تتصف بالابتعاد عن التقليدية والخروج عن العادي، وهذا تجسد في العرضين عبر اختيار النص والحوار والإلقاء والحركة وبناء الشخصيات المحكم والثيمة التي تركز على عبثية الانتظار والسكون والجمود وتحرض على التحرك والتمرد والتطلع للتحديث، والدفع باتجاه تثوير كل شيء بدءً من الإنسان نفسه عبر تحريك نفسه ومن ثم الوصول الى تحريك الآخر، وهذا ما استفز المتلقي، وجعله شغوفا يتطلع لزمن العرض الآتي.
توصية:
في الختام أرى ضرورة ان يصار الى دراسة المشتركات الفنية والفكرية بين عروض الموسم او العام او حتى الجيل بغية التوصل إلى مخرجات كاملة وعامة حول ما تم ادخاله من البيئة الاجتماعية والسياسية في الوجدان الفني والوقوف عند ما تم إخراجه كمعطى تاريخي وذلك انطلاقا من أن الفن خير ما يجسد روح العصر ووعي المجتمع