الساكن والمتحرك… في فكر المسرح / د. فاضل خليل
بيتر بروك، الاسم الأكبر في عالم المسرح المعاصر، الروسي الأصل الذي توغل بعمق في المسرح الانجليزي، الذي قال يوما لأحد طلابه العرب، الذي انطلق بسيل من المديح العربي، المشهود له بتكوين الدكتاتوريات في السياسة، والثقافة، وكافة المجالات الابداعية. الذي راعه خجل ( بيتر بروك ) من طوفان مديحه هذا، فقال ( بروك ) مبديا استغرابه من الاعجاب الذي بالغ فيه صديقنا العربي، أنه لم يفعل شيئا يستحق كل هذا الاطراء، وببساطة ـ قالها بروك ـ أنه فقط أراد أن يكسر السكون، والمألوف الذي يكتنف عمل المسرح المعاصر، فأراد أن يخرج عنه الى البحث عما هو خارج المألوف. من هنا انطلق ـ أنا بروك ـ الى كل ما هو يحمل بين طياته الغريب والعجيب في عام المسرح. الأمر الذي جعله في احدى محاولاته أن يقدمها بكل لغات العالم فكانت موضوعا غير اعتيادي استقاه من خارج المعروف من مألوفية الطرح المعتادة، فكانت موضوعا مشاكسا لواحد من أهم عروضه المسرحية. أو حين اختار ساحل البحر في مدينة ( شيراز ) الايرانية، موقعا مسرحيا يبعده عن العلبة المألوفة، لتكون مسرحا لملحمة ( أورجست )، مستثمرا فيها ساعة الغروب، واللون الأحمر القاني الذي يطغى على لون الشمس، ساعة المغيب، لونا يعبر عن لحظات الغياب الحزينه، كي تكون البداية التي يستهل فيها العرض المسرحي، كما أرادها أيضا للتعبير عن دموية الاحداث، وما يتبع ذلك حتى نهاية العرض. أو عند تفكيره، باخراج مسرحية ( مؤتمر الطيور ) التي عالج تقديمها بـ 3 مراحل، الأولى/ عندما تستيقظ الطيور صباحا، وهي بمنتهى الراحة، لتتهيأ الى الانطلاق الى العمل. والثانية/ الطيور بمنتهى النشاط والعمل في نهاراتها السعيدة، وما يتبع ذلك من اصواتها العالية. والثالثة/ عندما تأوي الطيور الى أعاشاشها، بعد يوم من العمل الشاق المضني على كائنات بضئالة الطيور حجما.
هو ذات المنطلق الذي انتهجه مبدع كبير آخر هو ( برتولت بريخت ) عندما أطلق العنان لأفكاره في استخدام ( التغريب ) في الخروج عن المألوف، وله في ذلك مجموعة من الحكايات الكبيرة، التي اعتمدها من الواقع الملئ بتلك االحكايا الغريبة، التي تبعد الناس كثيرا عن الواقع المألوف. فما بالك عن حكاية من واحدة من مسرحياته التي تحاكم الضحية، ولا تحاكم المجرم، كما في مسرحيته ( القاعدة والاستثناء )!!. أو في طروحاته الشهيرة التي أوردها في مسرحيته، ( دائرة الطباشير القوقازية )، التي يدعو فيها الى قبول الرأي الغرائبي، في أن ( الارض لمن يزرعها، وليست لمالكها ) و( العربة لمن يقودها، وليست لصاحبها ) أو أن ( الابن لمن يحسن تربيته، وليس لأمه أو ذويه ). وهكذا تجد أن مثل هذه القامات المسرحية جهدت طويلا كي تبحث عن أفكارها ومشاكساتها في المسرح. وليس غريبا، أن يعتمد برتولد بريخت، التراث الانساني الاسلامي موضوعا، لأهم مسرحياته، حين لجأ الى احدى الحكايات الشهيرة، التي تروى من سيرة الامام علي بن أبي طالب (رض).
من أجمل ما يروى من سير الإمام علي (رض)، حكاية أخذها الكاتب الألماني الشهير برتولد بريخت وكتب منها اجمل نصوصه وهو مسرحية [ دائرة الطباشير القوقازية ] . محتوى النص أن الحق حق ، حتى لو لم يرض الآخرين ، ومنطق العقل هو الذي يجب أن يسود ولا يسود المنطق التقليدي المتداول .
المربية : لا يا مولاي لا تفعل، لتأخذه هي ( تقصد المرأة المدعية الأخرى).
فقال لها الإمام (رض) : ألم تدعي أنه ابنك ؟
المربية : نعم ابني، لكني لا أريد له التقسيم، سيموت يا مولاي.
فما كان إلا أن يأمر به لها ( للمربية )، مكافأة لها عن خوفها عليه وحرصها على سلامته، وحياته، في حين أن الأمرأة الأخرى ( أمه )، التي لم تحرك ساكنا وكانت راضية بالحل الذي اقترحه لهما وهو أن تسحب كل واحدة به الى جهتها.
أما التصرف الذي ابتدعه برتولد بريخت فيذهب ابعد منها ، حين يحتكمان إلى ابسط الناس في ابن تتركه أمه في أحلك اللحظات وأدقها ، فتهتم بجمع ملابسها وحليها وتترك ابنها في ظرف الحرب لتهتم به خادمتها تضمه وتعتني به حتى تهدأ الأمور وتعود الأوضاع إلى سابق عهدها ،فتعود ألام لتدعي بابنها . فيقرر الحاكم أن تضعا الابن وسط دائرة طباشير رسمها هو ، لتمسك كل واحدة منهما بذراع فتجذبانه وأي منهما تستطيع سحبه من الدائرة يكون لها . وهكذا تبدأآن بالشد حتى تتركه المربية خوفا على قطع ذراع الطفل الصغيرة الغضه، صارخة :
المربية : لتأخذه لا أريده، فقط أن يظل سالما.
فيحكم القاضي بالطفل لها. ومن هنا ذهبت الحكاية مثلا من خلال الحقائق التي تركتها في : أن الطفل لمن يحسن تربيه. والعربة لمن يقودها. والأرض لمن يزرعها.