الغياب والحضور للمسرح المدرسي / مجيد عبد الواحد النجار
لا يختلف المعنيون في شؤون المسرح عن الدور الكبير الذي يلعبه المسرح في تعليم وتثقيف وتسلية الجمهور، ولا يزال صدى مقولة ارسطو عن المسرح ترن في اذهان المسرحين، عندما قال: “المسرح هو من ربى الشعب الاغريقي”، ويقول شلر ” ان المأساة الاغريقية عملت على تهذيب، وتربية الشعب الاغريقي” طبعا لم يفكر ارسطو كثيرا بما قال، وكذلك شلر؛ لأنه الواقع، الواقع الذي عاشه الاغريقي والروماني والايطالي والفرنسي وكل الدول التي دخل لهم هذا الزائر الجميل، والذي ازدهر بها لِما تركه هذا الزائر من اثر كبير في وعي ومخيلة الجمهور.
لذلك لم يبخل المسرحيون ان يكون للطفل حصة من هذا المعلم الذي يزق الفضيلة للأخرين ويقربهم من الحياة ويعطيهم الدروس والمواعظ والعبر، فكان الوليد الشرعي لمسرح الكبار، والذي استظل بظله وترعرع تحت رعايته، متمسكا بكل النظم والقوانين التي وضعها المنظرون واصحاب الشأن، والمعرفة.
لذلك راحوا المسرحيون يعرضون اعمالهم في الحدائق العامة والمتنزهات، تقربوا من الطفل بأنفسهم، ذهبوا الى مكان تواجده، وقدموا له هدية جميلة لم يألفها ولم يتعلم عليها، والتي اصبحت فيما بعد جزء مهم في اهتماماته واهتمام أولياء أمره ،كانت التجربة جميلة وممتعة، عندما قُدمت مسرحية (خليج الاعراس) في اسبانيا عام 1657م بحديقة الامير (فرناندو ابن فيليبي الرابع ملك اسبانيا)، حيث الفائدة الكبيرة للجمهور الحاضر من الاطفال واهليهم، الكل وقفوا احتراما لما قُدم، وتشكروا من الذين اجهدوا انفسهم في تقديمه من اجل المتعة والتسلية والفائدة التي يحصل عليها الطفل المشاهد دون ان يعرف انه في درس او في محاولة لتعليمه من قبل الاخرين.
لم يتوقفوا المسرحيون الذين تبنوا هذا المسرح عند حدود معينة بل راحوا باتجاه تطويره ووضع اسس وقوانين يشتغلون عليها، واختاروا لهم المذهب الواقعي الذي هو اقرب الى عقلية وفهم الطفل، ليدخلوا بعدها الى المسارح المغلقة، وهذه المرة تركوا الاختيار للجمهور من الاطفال ان يقصدوه ليحققوا بذلك انتصارا كبيرا فيما قدموه في الحدائق والمتنزهات، هذه المرة زاد الطفل انبهارا لما شاهده من ديكور واضاءة وازياء، وزاد عشقة لهذا العالمُ الجميل، وزاد معرفة، فالمعنيون على العروض طوروا ادواتهم واهتموا بمواضيعهم واكثروا من رسائلهم وتوجيهاتهم.
ولم يكن الطفل العربي بعيدا عن كل هذا ، فعندما دخل المسرح له زائرا لظروف ما، تمسك به وأحتضنه واحاطه حبا وكرما، فهيئ له كل مستلزمات العمل الناجح ، وقدم عروضا مسرحية لم تزل في الكتب تدرس وفي الذاكرة يتناقلها المسرحيون فيما بينهم، حيث قدم للأطفال كل ما يبهجهم ويسليهم، ويمنحهم العلم والمعرفة، ولم يتوقف في القاعات بل كان يذهب في اماكن تواجدهم اينما كانوا، وكان تطوره يسير عكس الاتجاه، ففي الغرب ولد مسرح الطفل في الحدائق وعند العرب خرج بعد ان وثقوا المسرحيون بما يقدون للطفل من عبر ومواعظ، وحكم وادخلوا من خلاله التراث العربي، والموروث الشعبي وبذلك حققوا الغايات السامية والنبيلة لتي من اجلها كان مسرح الطفل.
لقد قُدم للطفل انواعا مختلفة من العروض المسرحية، وبطرق مختلفة ومتعددة ايضا، وكلها تلائم عقلية الطفل من خلال تحديد الفئات العمرية لكل عرض مسرحي، وهنا لا اريد ان اذكر ظهور بعض الظواهر المسرحية الموجهة تاريخيا، ما يعنيني هوا الفائدة التي اكتسبها الطفل من العروض المسرحية التي قُدمت له، وما اشتغل عليه المعنيون من اساليب وطرق في ايصال الرسائل التي ارادوا توجيهها للطفل، لذلك قدموا له عروضا مسرحية من خلال:(مسرح خيال الظل)، و(مسرح الدمى)، (مسرح العرائس) وطبعا هذا النوع من المسرح هو قديم جدا كان يقدم في الصين وفي اليابان، لكنه لم يزل لهذه للحظة تقدم الكثير من العروض له، لما فيه من متعة، وتبقى هذه الانواع من المسارح محل إيثاره ومنفعة للطفل، كما تبقى نسبة الاستحسان بالنسبة له نسبية، فلكل طفل رغبة واستحسان لما يشاهده من هذه الاصناف، فأين ما يجد المتعة والاثارة والفائدة تجد الطفل متواجدا، وطبا غالبا ما يفضل الطفل العروض الاكثر اثارة ومتعة قبل كل شيء.
وللأهمية الكبرى التي اكتسبها مسرح الطفل لدى المعنيون والتعليميون على حد سواء، قاموا بإدخاله الى المدارس، بل كانت المدارس الشغل الشاغل لهؤلاء المسرحيون المهتمون في مسرح الطفل، ولان المدرسة تظم عددا كبيرا من لأعمار المختلفة التي من الممكن ان يشتغل عليه المسرحيون، وقد ساندهم في ذلك الكوادر التدريسية في تقديم عروضا مسرحية تحتوي على الكثير من القصص الخيالية والواقعية المفيدة، بعدها استغل المدرسون المتخصصون في مجال الفنون بان يستفادوا من هذا المسرح بان يعتبره وسيلة تعليمية من خلال تقديم مادة الدرس من خلاله، وذلك بتحويل مادة الدرس الى عرض مسرحي، وهنا ظهر لدينا نوع جديد من مسرح الطفل، ولكن هذه المرة مخصص للطالب فقط، استخدم المسرح ليكون وسيلة تعليمية، شأنه شأن (الخرائط، والسلايدات، والصور، والاذاعة)، كان المعنيون بهذا الشأن حريصون بان تكون مادة الدرس هي الاساس دون اللجوء الى النصوص المسرحية الواقعية او الخيالية– وطبعا لي كتاب في هذا الخصوص صدر حديثا عنوانه: (المسرح المدرسي وسيلة تعليمة) حاولت في هذا الكتاب قدر الامكان فك الاشتباك بين مسرح الطفل والمسرح المدرسي ، ووجدت العديد من الفروقات بين الاثنين- وقد حددوا اماكن العروض في ساحة المدرسة او الحديقة او داخل الفصل الدراسي حسب ما يمليه عليه موضوع الدرس، كما حددت الفئة العمرية والتي شملت كل المتواجدين في الفصل الدراسي الذي اخذت مادة الدرس منه، وليس الفئة العمرية التي خُصصت لمسرح الطفل .
لم يأخذ المسرح المدرسي الحيز الكافي والحقيقي في العروض المسرحية، فقد شاهدت وقرأت عنه الكثير وما افاجئ به انني لا ارى مسرح مدرسي بل مسرح طفل لان مقومات مسرح الطفل واضحة للجميع من خلال عناصر عرضة، فهو يحتاج الكافة العناصر التي يعرض بها مسرح الكبار، واقصد هنا( الاضاءة والازياء والديكور والإكسسوار ….الخ)، بينما المسرح المدرسي لا يحتاج الا لما موجود في داخل الفصل الدراسي، كما ان المسرح المدرسي وهذه اهم ميزة يمتاز بها لا يتعامل مع الموهوبين فقط، بل مع جميع الطلبة الموجودين في الفصل، لان اهدافه تتعدى تعليم مادة الدرس، لتصل الى تحسين النطق عند بعض الطلبة وتخلص البعض من الخجل الذي يلازمهم، وكذلك يوجد فوائد عديده لا اريد الخوض فيه العدم اتساع المجال لذلك.
وهذا يدفعني للقول بان المسرح المدرسي يبقى على الدوام حاضرا غائبا، بسبب قلة فهم البعض، وتقديمة وكانه مسرح طفل، يختار له القصص الخيالية او المكتوبة، ويقدم البعض نصوصا مسرحية عالمية، وعربية لاعتقاده ان كل ما يقدم داخل المدرسة هو مسرح مدرسي، او كل ما تنتجه المدرسة هو مسرح مدرسي، او كل عمل فيه عبر ومواعظ هو مسرح مدرسي، لا يعلم البعض من هؤلاء ان المسرح المدرسي معني بمادة الدرس فقط، وطبعا قسم اخر يعتقد ان (مسرحة المناهج) تعتبر مسرح مدرسي، فأقول هنا ان (مسرحة المناهج) فعل كتابي وليس فعل مسرحي، بمعنى انها تحويل المنهج الدراسي الى نص مسرحي ، طيب وماذا بعد؟، كذلك اوجه سؤال ما هو الفرق بين (المسرح الشعري) و(مسرحة الشعر)، وما هو الفرق بين (مسرح الجريدة) و(مسرحة الجريدة)، وهناك امثلة اخرى من الممكن دراستها للوصول الى حقيقة المسرح المدرسي.
طبعا كل ما ذكرته عن المسرح المدرسي ومسرح الطفل هو ناتج عن تجربة فعلية في المجالين، بمعنى انا لم اشدد على التمييز بينها بهذه الطريقة الا لكوني وجدها من خلال العمل الفعلي، فأنا عملت في مسرح الطفل، كممثل وقدمت العديد من العروض المسرحية داخل القاعات وخارجها،لأكثر منْ أربعونَ عاما، كما عملت لهذا المسرح مصمم ومنفذ للأزياء والديكور، كما صممت ونفذت العديد من الاقنعة والماسكات لكثير من الاعمال المسرحية او البرامج الترفيهية التي كانت تقدم للطفل ، والتي عملت ايضا في هذه البرامج وقدمت الكثير منها، واتذكر انني عملت ما يقارب (12) قناع لمسرحية (ليلى والذئب)، اما فيما يخص تجربتي مع المسرح المدرسي،فقدْ امتدتْ ما يقاربْ الثلاثينَ عاما، عندما عملت مشرفا في مديرية النشاط المدرسي لتربية البصرة، وكذلك استلمت ادارة هذه الدائرة لفترة من الزمن، ومارست وراقبت الفعل المسرحي وحاولت تصحيح المسار وابعاد المسرح المدرسي عن مسرح الطفل، من خلال المحاضرات والاعمال المسرحية داخل المدارس، كان بودي ان تكون استقلالية تامة لكل منهما، وكان بودي ان يفهم القائمون عليهما التمييز بينهما، من اجل الفائدة العامة ومن اجل ان نبعدهما عن بعضهما ، كما الاستفادة من بعضهما فيما يقدم على خشبة المسرح، فالمسرحِّين هدفهما الطفل بغض النظر عن درجة العلمية وفهمه الخاص ، وهنا المعني هو التلميذ او الطالب وما يحتاجه من مادة الدرس.
وتبقى امنيتي ان يفهم البعض المصر على ان المسرح المدرسي هو مسرحة المناهج، ان يعيد قراءاته ويعيد بحثه، وان يدخل في تجارب عملية، لكي يمسك القول فعلا، عندها نكون قد قدمنا خدمة كبيرة للتلميذ والطالب،-وهنا لا اقول الطفل، لأنه لديه مسرحه الخاص (مسرح الطفل)- من خلال تطوير وسائلنا التعليمية ، ولقدمنا فائدة كبيرة في تبسيط المناهج الدراسية وقدمناها بطريقة يكون فيها التلميذ، او الطالب هو من يقدمها لا المعلم او المدرس، فهؤلاء الاساتذة سيأخذون دور المشرف او الملقن او المخرج للعرض، ومن ثم يترك التلاميذ هم من يديرون الدرس من خلال التمثيل، ولو فعلنا ذلك لرأينا حجم السعادة التي هم فيها، ولرأينا كم التلاميذ والطلاب تحولوا الى قادة ، يتمكنون من تحويل العابهم الى فائدة يبنون بها انفسهم ويطورون عقولهم.