مقياس الفوضى وتحولات الجسد في العرض المسرحي الإيمائي الظلّي (انتروبيا)*  للمؤلف والمخرج علي العبادي / حيدر جبر الاسدي**

يمنح الجسد عبر الركح تحولات علامية تكثف المعنى، بوصفه _ أي الجسد_ صورة المعنى المتحقق عيانياً والوارد من الاختزال الذهني، في تصوير  حادثة أو حالة ما، فالجسد بحسب (نيتشة) هو قبل كل شيء ” جسد متمرس بالحياة ”  بدلا من كونه خاضعا للمعرفة العلمية، وكما يرى (كانط) يرى نيتشه كل معرفة أنما تصدر عن الاحساس وتقوم به، لذا فإن الجسد بوصفه لغة تواصلية نستطيع من خلاله استنطاق المسكوت عنه والغور في الجماليات التي تترجم الحياة التي أشار لها (نيتشه) وفق سياقات جديدة، تعبر عن عمق الحدث بكل تجلياته المعروفة.

 

لا يتوفر وصف.

ومن هنا يدعو (مرلوبونتي ) إلى أن ينفتح الإنسان على عالم الأشياء اعتماداً على وساطة الجسد، أي أن حضور الإنسان داخل العالم حضور متجسد، من هنا عمد الكاتب والمخرج (علي  العبادي) إلى توظيف الجسد في خلق عرض يستعرض فيه  مجموعة ثيم ضمن لوحات خاصة ، وهذه المرة بصناعة سيناريستية، ضمن إطار المونتاج ليخلق لنا في كل لوحة عالم هو في نفسه الظاهري افتراضي، لكنه متسق بالواقع اتصالاً فكرياً ومادياً، وفي ذات الوقت وظف مفهوم ( انتروبيا ) وهو مصطلح اغريقي يدخل في نسق كيمياوي ويعني بالتحول الحراري، وله مفهوم أخر في قياس الفوضى، واعتقد أن (العبادي) اعتمد المفهوم الأخير ليشير عبر  ركحية الجسد إلى الخراب الذي يشير له في لوحاته التي صنعها بطريقة ملفتة للنظر .

لا يتوفر وصف.

فالنص اعتمد على قطع مونتاجية بدون الإشارة إلى التفاصيل أو التقسيمات المعروفة في السيناريو، من حوار مع صورة وصوت الخ، وإنما اعتمد على مقاطع وصفية صامته، وهي عملية قص ولصق حركة الجسد بوصفة علامة متحركة في نسق العرض عبر فضاء مقترح من قبل الرؤية الإخراجية وهو فضاء (خيال الظل)، ويمكن تحديد اللوحات على النحو الاتي:

اللوحة الأولى/  وهي اللوحة التي تصف الانتخابات، بمعنى أن الحدث كائن ومتحرك في مركز الاقتراع، حيث يقوم الشخص بالدخول إلى غرفة الاقتراع ويحاول أن يضع يده في الحبر الموجود على المنضدة وبطريقة ايروتيكية، ومن ثم يخرج يده بصعوبة بعدها يلحظ بوجود رصاص على المنضدة، فيأخذ واحدة ليرميها في المرحاض فتخرج صراصر منها ثم يقوم بحمل الصندوق خارجاً، وهو بهذا الفعل حول هذا المكان إلى مرحاض وأعطى علامة أن كل ما في الصندوق هي قاذورات علينا التخلص منها، وإن هذه العملية لن تقود إلى الحياة والعمل الديمقراطي، وإنما إلى التقاتل والموت من أجل السلطة، بمعنى أنها عملية انتحار جماعي، على الرغم من أن الكاتب وضح في حركة الشخص بأنه بذل جهداً كبيراً للوصول إلى المكان ، ولكن في الأخير، إشارة إلى ان هذا المكان هو بؤرة للنجاسة والانحراف والموت الجماعي،  لذا فإن من الضروري التخلص منه .

أما اللوحة الثانية/ فهي تصف الطفولة  عن طريق دخول الشخص وهو يقفز  على حصان بلاستيكي، وصفه الكاتب في العاشرة من عمرة داخل حديقة  زاهية، ثم يتحول إلى رجل  كبير بعدها يصف الكاتب واقعة سبايكر على ضفة النهر، والقتل الجماعي  للشباب،  وقد تحول بهذه اللوحة الى مرحلة دخول داعش وما حدث من انتكاسات كبيرة حلت بالبلد، وهو يصور مراحل عيش الإنسان إلى إن يصل إلى هذه النهاية المؤلمة، وهي إدانة واضحة لكل ما يجري من انتهاكات لحقوق الإنسان، ومايتعرض له الإنسان العراقي من (موت وقهر وجوع وضياع وتشرد وتهجير) اختزله في لوحة عبر إنشائية الجسد بوصفها لغة تعبيرية.

ثم ينتقل الكاتب الى اللوحة الثالثة حيث لعبة (التماهي) ما بين (التمثال) و(الإنسان) عبر توصيف عملية هدم التماثيل في المتحف وهي إشارة إلى ما قام  به داعش في الموصل، والمتحف هنا إشارة إلى تاريخ ومنجز أمة والأشخاص هم حاضر هذه الأمة،  وإن عملية التهديم بالمعاول تعني تدمير هوية هذا البلد، بوصفه صاحب أعرق حضارة  في الوجود .

بعدها ينتقل الكاتب الى اللوحة الرابعة، وقد افترض لعبة المنضدة من خلال حركة الشخصيتين يميناً ويساراً في  المسرح، ليبدأ اللعب لكنه أنتهى بانفجار، فالعلامة الأولى، أكدت على وجود الصراع من خلال المساحة الموجودة في المنضدة وبشكل ساخن، والعلامة الثانية، أنهي الصراع بانفجار، وهو نتيجة حتمية لطبيعة الصراع المعلن وهو مشهد يتكرر يومياً .

ثم ينتقل إلى اللوحة الخامسة واصفاً تحت نصب الحرية مهزلة الحرية في هذا البلد من خلال صراع شخصيتين  وهما يمارسان عملية الدف بطريقة إزاحة وركل الآخر، ثم يأتي شخص ثالث ليسيطر عليهما، وهنا أوجز الكاتب وبشكل فانتازيا طبيعة الحرية الخارجة عن الأعراف والقيم والقانون الإنساني،  وما آل  إليه من تردي ونكوص في البنية المجتمعية للبلد، ثم ينقلنا الكاتب الى اللوحة الأخيرة وهو يلخص المعركة الأخيرة وهروب البعض وربما يستشرف  نهاية كل من صنع هذا الدمار بأن نهايته ستؤول الى هذه النتيحة، أما الهروب أو الموت.

بعد هذه الأفكار المرسلة من قبل الكاتب جاءت الرؤية الاخراجية من ناحية الركح وصناعة الديموقراطية والتحولات السياسية في البلد مطابقة مع النص، فقد بحث المخرج في صياغاتها الجمالية لتأثيث اللوحات عبر إنشاء فضاء فقير في تكويناته إلا إنه عميق في دلالاته، فاستخدم السكرين والداتشو وأعطى للعلامة سعة في الوظائف، فاستخدم السكرين بوصفه جداراً خلفياً لجميع المشاهد،  كل بحسبه وفي ذات الوقت استخدم خيال ظل ، لذلك أحدث حالة من التنوع والدهشة والانبهار، ثم استطاع المخرج أن يوظف تقنية المونتاج في العرض عبر استخدام ما يسمى (بالافكتات)، في المونتاج وهي قفلة المشاهد، أي -إنهائها بالفيد-  وهي تقنية مونتاجية،  ففي المسرح تستخدم عبر الإضاءة، أما في هذا العرض استخدم عبر الممثل وجسده حيث بنهاية اللوحة يذهب الممثل إلى عين الكاميرا بوصفها عين الرائي، كما أن المخرج قدم لنا بحسب تصوري من خلال المونتاج وزاوية النظر/ الكاميرا والمنظور، عرضاً يقترب إلى السينما والتلفاز أكثر من اقترابه للمسرح فعناصر السينما موجودة كما عناصر المسرح موجودة، لكن ثمة غلبة للرؤية السينمائية بالعرض على المسرحية، من جانب آخر اتصفت المنظومة الأدائية بـ(الأداء التعاقدي)، بمعنى أن حركة الجسد والعلامات المشكلة منه هي تعاقدية مع المتلقي، لم يحمل الممثل جهداً كبيراً للمتلقي لفك شيفرات النص، فإنشائية الحركة رشيقة واضحة اتصفت بالاتزان والجمالية وكانت محسوبة بعيدة كل البعد عن ما يسمى بـ(فائض التعبير)، لذلك فكان نسق الأداء قد جُبل على تحقيق أهدافه، وقد صنع هذا الثراء في الأداء والتوازن في المشاهد انسيابية التقنيات التي لعبت بتقديري دوراً محورياً في إنتاج العمل وتعضيد فعالياته الجمالية والمعرفية. ويمكن اًن نوضح بعض المؤشرات على النحو الاتي:

لا يتوفر وصف.

اولا/استخدم الكاتب ما يسمى بالسيناريو المسرحي، ولكن من خلال (المايم خيال الظل) ، لقراءة واقع مزري عبر تحولات زمنية واضحة.

ثانيا/ شكل (الكاتب / المخرج) نسقه التواصلي عبر فضاء (السكرين) و(الداتشو) كتقنية سينمائية لتعزيز الثيم المركزية والفرعية.

ثالثا/ أدخل (الكاتب/ المخرج) تقنية (خيال الظل) وبنى عليها منظومة العرض بالكامل، وزاوجها مع الأساليب الأخرى.

رابعا/  عبر عن الفوضى بلوحات جمالية فلسفية مستعيناً بمفهوم (الانتروبيا)، كإعارة  فقط لمفهوم (الفوضى)، ولكنه أصبح مقياساً لتلك الفوضى بلحاظ الأحداث الجارية عبر زمن حدده (الكاتب/ المخرج).

خامسا/ لم يلتزم الكاتب بتفاصيل السيناريو، وإنما ركز بوصف المشهد ليظهر الفكرة ويختزل المعنى ، دون تعقيد أو اشتباك مفاهيمي.

وختاماً، يرى (رولان بارت) بأن النص جسد، أي بنية رمزية وتاريخية، وهو ساحة عمومية متعددة الأصوات، وهو باب سعيدة تتساكن فيها اللغات جنبا لجنب، من غير أن تكون هناك لغة أصلية ولغة ثانوية.

إن المشتغلين في هذا العرض حسب بروشور العرض (الفلولدر) جاء على النحو التالي: الأداء الظلي: (إبراهيم العكيلي، علي العبادي، علي هادي الفتلاوي)، والتقانة الرقمية: (سعد حسين)، والإدارة المسرحية: (علي الفتلاوي، احمد خضير الربيعي، مسلم الجبوري).
لا يتوفر وصف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قدم هذا العرض على خشبة مسرح قصر الثقافة والفنون في كربلاء، بتأريخ (7/9/2018)، وقدم مرة ثانية بتأريخ (2/5/2019)، شارك هذا العمل في مهرجان (بلد الصمود الدولي أون لاين 2022) وحصل على جائزة لجنة التحكيم، وكتبت عنه عدة مقالات نقدية.

 

** حيدر جبر الأسدي، ناقد ومخرج وباحث اكاديمي عراقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت