أسئلة الدراما وتحديات العصر / أ.د مجيد حميد الجبوري

لو أستعراضنا تاريخ المتغيرات الحضارية الكبرى في العالم؛ لوجدنا أن الشعوب نهضت بحضاراتها؛ بعد أن أفادت من تجارب الحروب التي مرت بها وتحدت ظروفها الزمنية؛ وميزت نفسها كحضارات حفظها التاريخ ، فهل أفاد المثقفون والفنانون في العراق؛ من تجربة الحروب الثلاث التي مرت عليهم خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ بل هل أفادوا مما صاحب تلك المتغيرات من ظروف وأستطاعوا أن يتحدوا عصرهم؟ وبصيغة أخرى : هل بإمكان المثقفين والفنانين العراقيين إقامة مشروع ثقافي أو فني يتحدى عصرهم ويقوم بتغيير جذري للبنى الفكرية والحضارية فيه؟!

إن المتغيرات الحضارية الكبرى التي شهدتها حركة التاريخ أبتداءً من سومر وبابل وبلاد النيل وحضارات الشرق القديمة؛ وبلاد الإغربق وليس أنتهاءً بيومنا هذا؛ وما أعقب تلك المتغيرات من حضارات؛ يشير الى أن الشعوب نهضت بعد أن أفادت من دروس الحرب؛ والأمثلة على ذلك كثيرة جداً وهي ترتبط بإغلب المتغيرات الحضارية – التي ربما سنخصص لها دراسة موسعة لاحقا – وسوف نأخذ أمثلة شهيرة عليها ؛ نقتبسها من الدراما ؛ ونحاول فحص كيفية أستطاعة الدراما – بوصفها فنا جميلا – أن تتحدى عصرها؟ وأول تلك الأمثلة نأخذه من الإغريق الذين شهدوا نهضة ثقافية وفلسفية كبيرة؛ بعد خوضهم للحرب مع الفرس؛ وبعد خوضهم لحروب داخلية مثل (الحرب البولونيزية) وغيرها؛ حين ظهرت أسماء لامعة كبيرة على صعيد الفلسفة مثل : سقراط وإفلاطون وأرسطو؛ وأسماء فارقة على صعيد الدراما أمثال: الثلاثي التراجيدي الأشهر(أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس) والكوميدي العملاق (أرستوفانيس) وسواهم ، فقد أستطاعت مسرحيات الأخير (أرستوفانيس) مثلا: أن تطيح بحاكم أثينا القوي (كليون)، وأن تسخر أحدى مسرحياته من البرلمان الأثيني الذي كان يُعد أنموجا مثاليا للديمقراطية في العصور القديمة؛ وذلك بمسرحيته الشهيرة (المجلس القومي للسيدات) ؛ وكانت تلك السخرية بمثابة تحدٍ واضح للعصر؛ بل وبحسابات العصور القديمة؛ يمكن أن يُعد أول تحدٍ ثوري وصارخ للمجتمع الذكوري.

ولو أجرينا فحصاً عميقا ومتأملاً للمسرحيات التراجيدية الكبرى؛ لأمكننا ملاحظة تحديات تلك المسرحيات لعصرها؛ فـ(سوفوكليس) في مسرحيته الشهيرة (أوديب ملكا) يلاحظ أنه سخر سخرية كبيرة من الآلهة حين جعلها تعاقب ثلاثة أجيال متعاقبة لمجرد خطأ أرتكبه الجد (لايوس)؛ إذ أن المتأمل لهذه المسرحية يجد أن الآلهة لكي تحقق عقوبتها وتوقع قصاصها على الخاطئ؛ فأنها تبدأ بنشر طاعون يشمل مدينة (ثيبة) بأكملها وتجعل شعب (ثيبة) البريء؛ يعاني من هذا الداء القاتل مبررة فعلتها بوجود رجس داخل المدينة؛ ثم  تنتقم من الأبن (أوديب) وتجعله يرتكب خطايا؛ بل جرائم أخلاقية شنيعة تمثلتبقتلهلأبيه وزواجه من أمه؛ ولا تكتفي بذلك؛ فأنها لغرض أشباع رغباتها الأنتقامية تسعى للقضاء على جيل الأحفاد (بولنيسيس وأيتوكليس وأنتيجونا وأسمينا) حين تجعل الأولين يذبح أحدهما الآخر؛ وتعاقب (انتيجونا) بالدفن حية على يد خالها (كريون)؛ وأن تجعل الفتاة الصغيرة (أسمينا) مشردة ومفجوعة وهي ترى أمامها أشد الأهوال قسوة ومنها: فقء أبيها (أوديب)  لعينيه وأنتحار والدتها (جوكاستا) بعد أكتشافها لزواجها المحرم من أبنها؛ ورؤيتها لأخويها وهما يقتلان أحدهما الآخر بسبب التنافس على الحكم؛ وأنتحار أبن خالها وخطيب أختها (هيمون) بعد أكتشافه قتل خطيبته على يد أبيه… فأي آلهة هذه التي تتفرج على كل هذه النكبات ولا يهتز لها طرف؟ بل أي آلهة هذه التي تنزل إبادة جماعية بشعب بريء لا ذنب له بحجة وجود رجس دخل مدينته؟ .. إن الباحث يعتقد أن (سوفوكليس) في ثلاثية (أوديب ملكا؛ وسبعة ضد طيبة وأنتيجونا) وضع الآلهة موضع السخرية وجعل شغلها الشاغل هو الأنتقام من البشر الأبرياء لمجرد خطأ أرتكبه أحد أباءهم ، ويرى الباحث أيضا: أن الآلهة –وكما أظهرها سوفوكليس في هذه النصوص– قد تخلت عن وظيفتها الأساسية التي تتمثل برعاية البشر والرأفة بهم وأنزال الرحمة بينهم؛ وقامت بوظيفة هي الأبعد من الرحمة والرأفة. وبذلك فإن (سوفوكليس) هنا وقف موقف المتحدي لعصره ومعتقدات عصره الدينية والأخلاقية والأجتماعية وأقدم على تجريم الآلهة التي يتعبدها أبناء عصره. ألا يُعد ذلك خرقا للتابوهات الدينية والمعتقدات السائدة آنذاك؟ وألا يمكن أن يُعد موقف (سوفوكليس) هذا؛ موقفا ثوريا سواء بحسابات عصره أو حسابات عصرنا الحالي؟. هذه الأسئلة التي تثيرها نصوص (سوفوكليس) ذات الثورية المبكرة؛ يمكن أن تشكل جدلية للثقافة والفكر تستحق من التأمل والدراسات الكثير.

أما المثال الدرامي الآخر الذي يمكن أن يجري في السياق نفسه؛ فيمكن أخذه من عصر النهضة الأوربية وتحديدا في إنكلترا ؛ إبان الفترة الذهبية التي عُرفت بـ(العصر الأليزابيثي)؛ حين نجحت الملكة الشابة(الأليزابيث الأولى) التي تصدت للحكم وهي لما تزل فتاة لا يتجاوز عمرها الثمانية عشرة؛ وأستطاعت حكم بلاد ضاجة بالحركة والنشاط؛ تملؤها المؤامرات والدسائس من كل صوب؛ لتنهض بها – تلك الفتاة – وتجعل منها قبلة لأوربا والعالم بمساعدة ثلاثة عوامل أساسية؛أولها:أسطولها التجاري والحربي الفتي الذي أستطاع إيقاع أكبر هزيمة بأسطول أسبانيا التجاري والحربي المسيطر على مياه العالم القديم وأن يكسر أرادته وسطوته في موقعة (الآرامادا) الشهيرة؛ ليسيطر الأسطول الأنكليزي الفتي؛ على تجارة العالم ويصبح البديل عن الأسطول الأسباني ؛ والعامل الثاني هو ظهور أجتماع موفق بين نظريتين فلسفيتين متعارضتين ، هما فلسفة العصور الوسطى التي تميزت بالشمول والخيال والواقعية البسيطة والفكاهة الخالصة ، وفلسفة عصر النهضة ذات الرؤية الكلاسيكية التي كانت تحترم وتقدس النظام والتقاليد والقوانين، وتعمد إلى تقديم الحلول البارعة والفذة لمشكلات الحياة والفرد ، وتتميز بقدرتها ومهارتها باللعب البارع بالألفاظ والنظم الشعري. أما العامل الثالث فهو ظهور ثلة من الأساتذة الجامعيين والكتاب والمفكرين الكبار الذين أسهموا في صنع حضارة أنكلترا ليجعلوها مركزا ثقافيا وفكريا مميزا أمثال الفيلسوف (فرانسيس بيكون) والكتاب الشعراء (كريستوفر مارلو وتوماس كيد وبن جونسون) وسواهم .

في ظل تلك العوامل وبمساعدة منها ظهر شاب يافع؛ حقق نجاحات وشهرة سريعة ليضع أسمه بين عمالقة الثقافة والأدب الإنكليزي الذين سبقوه وعاصروه؛ بل أصبح عنوانا عالميا للأدب الإنكليزي فيما بعد؛ ذلك هو (وليم شكسبير) الذي اصبح بعد فترة قصيرة من ظهورهشاعر البلاط الإنكليزي الأول ومديرا للفرقة الملكية المسرحية التي تحظى برعاية مباشرة من الملكة (أليزابيث الأولى) نفسها ؛ ومع كل ما حظي به (وليم شكسبير) برعاية رسمية وشهرة اجتماعية وفنية ؛ غير أن نظرة فاحصة للمسرحيات التي كتبها؛ يمكن أن تجعل المتلقي لها يرى حجم السخرية الكبيرة التي ضخها (شكسبير) في تلك المسرحيات؛ مستهدفا بها عصره ونظام الحكم السائد فيه ؛ وسخريته الناقدة لطبقة النبلاء التي أختار منها نماذج أبطاله ؛ واستعراض لنصوص (شكسبير) المسرحية أبتداءً من سلسلة مسرحياته التاريخية لسلالة (ريتشارد) وسلالة (هنري) وسواهم من الملوك الذين تعرضت لهم نصوصه؛ ومرورا بمسرحياته التراجيدية الكبرى (الملك لير وعطيل ومكبث وهاملت ويوليوس قيصر) ومسرحيته الرومانسية الأشهر (روميو وجولييت) ؛ فإن الأستعراض لتلك النصوص سوف يبين ذكاء (شكسبير) العبقري وقدرته اللافتة  في تحدي عصره وسخريته الكبيرة منه ومن طبقته الحكمة ومن يحيط بها من طبقة النبلاء ؛ بشكل مقنع وغير مباشر في الوقت نفسه. فحيوات الملوك الذين عرضتهم مسرحياته؛ أظهرت حجم فساد هذه الطبقة  الحاكمة؛ التي كان همها الأول المؤمرات والدسائس للأستئثار بالسلطة بواسطة أشد الوسائل والطرق وحشية وخسة؛ وفي الوقت نفسه فإن نصوص (شكسبير) الدرامية أظهرت فساد طبقة النبلاء ولا أخلاقياتهم التي كانوا يتميزون بها ؛ بل أن نظرة متفحصة لسلوكيات وتصرفات تلك الطبقة الواردة في النصوص أعلاه؛ تبين بأن تلك الطبقة لا تستحق سمة النبل التي وصفت بها؛ إذ كيف يتسنى لملك نبيل أن يقتل أخاه الملك بتسهيل من زوجة الملك القتيل؛ لينصب نفسه ملكا بديلا عنه بتلك الوسيلة البشعة؟ وكيف يتسنى لأبنة أن تطرد آباها الملك وترميه في العراء بعد أن تنازل لها وأختها عن العرش؟ وكيف يمكن تبرير ما وصل إليه ملك مثل (لير) من نهاية مزرية بسبب حماقة أرتكبها دون مبررات مقنعة؟ ولماذا يذهب شاب وشابة في عمر الزهزور ضحية صراع بين عائلتين نبيلتين؟ وكيف يُقدم قائد عسكري يكنُ له الملك والبلاد كل الأحترام والتقدير على قتل من أسدى عليه الفضل والتكريم والجوائز؟ .. إن كل جرائم القتل التي تحفل بها مسرحيات (شكسبير) ؛ تظهر للعيان حجم السقوط الأخلاقي الذي تميزت به العوائل الملكية وطبقة النبلاء.

لذا فإن الباحث يرى أن (شكسبير) في مسرحيات تلك تحدى عصره ، وكان يتنبأبأنيهار النظام الملكي وسقوط طبقة النبلاء؛ وهو ما حدث فعلا بعد وفاة (شكسبير) بثلاث وثلاثين سنة ؛ حين أقدم (البيوريتانيين) على الأستيلاء على الحكم وأسقاط النظام الملكي ونفي الملك خارج البلاد.

والأمثلة على ما ذهب له الباحث كثيرة جدا؛ ومنها ما هو قريب في التاريخ الحديث للعراق؛ إذ عُدت مسرحية (أنا أمك يا شاكر) للكاتب العراقي الرائد( يوسف العاني)  أحد العوامل الرئيسيةلقيام (ثورة14 تموز/يوليو) التي أسقطت النظام الملكي؛ وأقامت النظام الجمهوري في العراق عام 1958 ؛ ومع أن المسرحية المذكورة عُرضت عام 1956؛ على قاعة (المسرح الملكي) آنذاك والمعروفة بقاعة مسرح (الشعب) حاليا؛ إلا أن المظاهرة النسوية التي حدثت بعد عرض صباحي للمسرحية؛ خاص بالنساء؛ والتي أخترقت شارع الرشيد آنذاك؛ كانت كفيلة بتحريض الجماهير العراقية رجالا ونساءً ومن كافة فئات الشعب على التواصل بالمظاهرات طيلة سنتين متتاليتين لتتوج بقيام ثورة الرابع عشر من تموز/يوليو؛ التي غيرت وجه العراق وأحالته من بلد يخضع للأحتلال البريطاني؛ الى بلد حر مستقل .

إن السؤال الأكثر أهمية الذي يمكن أن يوجه الى فئة المثقفين والمفكرين – في زمننا الراهن وفي ظل الظروف المتشابكة والمعقدة التي يمر بها العراق وبعد حروب ثلاث قاسية تحمل جورها الشعب العراقي بكل فئاته– هو كيف يمكن للمفكر والمثقف والفنان العراقي ان يكون له موقف متفاعل أزاء ما يحدث حوله؟هل يستكين ويستسلم للضغوطات التي تمارسها عصابات الفساد والظلم والإرهاب ضده؟ أم يجد طريقا لنقد ومحاربة تلك العصابات وما أفرزته ممارساتها من إساءات لحضارة العراقيين وأخلاقياتهم؟!! … سؤال يحتاج من المثقفين والمفكرين أن يجتمعوا ويضعوا خارطة طريق واضحة لإستعادة وجه العراق الحضاري الذي قدم ثقافة وفكرا متفردا أغنى الإنسانية جمعاء بالحكمة والعلم والدروس الإخلاقية.

                                                             أ.د مجيد حميد الجبوري

               

**   أ.د مجيد حميد الجبوري /  البصرة 11/8/2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت