فاضل خليل ظل أمينا على العمــــل فكرةً وأثراً/ يوسف العاني
سنتين منذ
حين عاد قاسم محمد من موسكو .. ومعه السفر المسرحي (النخلة والجيران) – ان جازت لي هذه التسمية – عاشت فرقتنا (المسرح الفني الحديث) في حالة الاستنفار الفني المسؤول : لان تكون على قدر المهمة التي اخذتها على عاتقها ، لتقدمها على المسرح عام 1969م .. المسرحية عمل كبير .. كبير في كل مكوناته .. منذ الرواية ثم الاعداد المسرحي الى ما قدمته المسرحية من اجواء عراقية اصيلة .. وحتى رؤى المخرج الحميمة فيها ..
واخيراً وليس آخراً ..مجموعة الشخصيات التي قاربت الثلاثين شخصية من مجموع من يقف على المسرح ليؤدي دوراً يتباين في زمن الحضور .. لكنه يظل مهما وله التأثير في سياق الاحداث .. لقد اشرت الى هذا الجانب تفصيلا عند تناولي (قاسم محمد) مخرجاً عملت معه .. الامر هنا وانا اقدم (فاضل خليل) الشاب الجميل الوديع كالنسمة وهو يتقدم بثقة العارف بما يراد منه وبما يريده هو .. وبما يريده المخرج من متطلبات تصل الى (النأمة) كما نقول والصدق في الاداء ، حد الصدق الكاذب !! .. احياناً .. امور يدري من وقف على مسرحنا امام حشد من رواد وشباب متفتحين بحثاً عن تجربة جمعت كل عضوات واعضاء الفرقة ليقفوا في صف الاجادة والابداع وعمق التأثير .. في وسط هذه الحالة .. او الملحمة الفنية الكبيرة المتزنة الخالية من سفاسف سهلة ومتوفرة عند من يريد ان يمر بها فيضحك ان اراد .. وربما ان يبكي المشاهد ان اراد ايضا .. لا .. لم تكن امام المجموعة بملحمتهم الفنية تلك الا العمل الفني المصان من كل التأثيرات السطحية الميسورة والتي تخرج عن اطار الفنية الحالية الحبيبة للنفس والذهن معاً : هكذا برز (فاضل خليل) .. من بين تلك (الخلية) النظيفة الشريفة .. والتي قبل كل ممثل أو ممثلة فيها .. حضوراً حتى لو بلغ زمنه دقائق قليلة على المسرح .. لكنه يطل حاضراً في الخاطر لا يغيب .. مع هذه الخلية .. والتي حملت اسماء لها ثقلها الفني الكبير والتجربة الاكبر .. مثل زينب ، خليل شوقي ، ناهدة الرماح ، يوسف العاني ، عبدالجبار عباس ، آزادوهي صموئيل ، زكية خليفة ، مقداد عبدالرضا ، سامي عبدالحميد ، مجيد الفراتي ، فاروق فياض ، سليمة خضير ، عبدالواحد طه .. واخرين واخريات .. مع اصحاب هذه الاسماء وقف (فاضل خليل) يمثل دور (حسين) الشخصية التي تدور اهم الاحداث حوله وتنبع منه ليكون موقعاً مهماً مع المجموعة التي اشرت الى بعض اسمائها .. فماذا عليه ان يكون؟
في اول رواية عراقية كبيرة للقاص المبدع (غائب طعمة فرمان) والمخرج (قاسم محمد) .. هناك عرفته عن قرب .. بل عشقته ممثلاً واعداً يقول لمن يتابعه على المسرح .. (هذا أنا !) وتعلقت به .. وكنت حين لا يكون لي حضور على المسرح اتابعه باهتمام كبير من بين الكواليس لأنه بالنسبة لي لم يكن مجرد ممثل في مسرحية (النخلة والجيران) بل شريحة من مسرح قادم هو مسرح العراق المتألق والعميق .. ومن هذه التجربة وما بعدها .. صار عند (فاضل خليل) مسألة لا تمر هكذا دون ان يكون لها شأن خلال الآتي مما تقدمه فرقتنا أولاً .. وبما سيقدمه المسرح العراقي مستقبلاً : وكان فاضل في ذات الوقت يعمل من اجل ألا يكون ممثلاً حسب .. بل (رجل مسرح) بكل ما تعنيه هاتان الكلمتان .. وان تكون الاستزادة هدفاً والدراسة الرحبة غاية تنقله الى عوالم اكثر سعة ومعرفة .. ليدرس المسرح في بلغاريا بإشراف أستاذ مسرحي كبير هو (فيليب فيلي بوف) .. كنت قد تعرفت عليه عام 1959م وانا ازور المسرح البلغاري آنذاك .. لأكتشف فيه ، أي (فيليب فيلي بوف) مدرسة مسرحية كبيرة .. هكذا كانت البداية مع الممثل المتألق فاضل خليل .. لأخوض معه عدة تجارب مسرحية وتلفزيونية وأُسعد بها من خلاله ، ويعود الينا الدكتور فاضل خليل محملاً بزاد المعرفة الفنية الجديدة ..وهو عضو الفرقة منذ عام 1968م .. وبعودته معنا عاد يحلم من جديد وكنا ننصت اليه .. فإذا به يقول بصوت عالٍ : ( أريد أن اخرج مسرحية – خيط البريسم) ضحكنا أول الأمر .. لأن (خيط البريسم) تمثيلية تلفزيونية طويلة قدمت عام 1979م .. ونحن الان في عام 1987م .. قال وهو يضحك ساخراً : (أدري ، ودوري فيها لا انساه طول عمري..) ، واردت ان اغير موضوع الحديث .. لكنه أصر على طلبه هذا واضاف طلباً آخر .. (أن اعيد كتابتها – مسرحياً- وانسى كما سينسى هو – المخرج- ذاك النص التلفزيوني) .. ولم يمضِ كبير وقت إلا وانا اكتب النص ذاك الى المسرح وكأنني اكتبه من جديد ..
وهذه كانت اول تجربة لي مع (فاضل خليل) .. ورحنا نلغي كل حالة تجرنا الى الصيغة التلفزيونية .. وتبلور العمل وتغيرت الاسماء .. التي كنت – اعني الممثلين – وصارت شخصية الحائك الشاب الذي مثله (فاضل) نفسه .. وصار (رياض الباهلي) . ورحنا بحماسة كبيرة نضع كل حالة بصيغتها الجديدة .. حتى التمثيل نفسه افرغنا منه بعضاً من تصور سابق .. والمخرج فاضل خليل يعمل بلا ادعاء وبلا (استاذية) ظاهرة .. بل بدقة متواضعة .. وروح من الصداقة والمحبة والتواضع .. وكانت المجموعة كلها تشعر انها تتعامل مع واحد من الاسرة الواحدة ، الكبار يحسبونه (ابناً) والصغار (اخاً) .. والاخرون (صديقاً) .. لتأتلف المجموعة وامامها حالة من (السلب) النسبي .. ان المشاهدين قد يعودون بها الى رؤيتهم لها يوم كانت على (شاشة التلفزيون) .. لكن فاضل ظل مصّراً على ان الامر مختلف .. وانه مسؤول .. عن كل ما ستقدمه المسرحية الجديدة .. وكان مصّراً على ان امثل دوراً قصيراً أظهر في نهاية المسرحية .. فقبلت .. وسارت الامور على حالة من الصدق والطبيعة .. الامر الذي جعل الدكتور علي جواد الطاهر (رحمه الله) .. يشيد بالمسرحية .. ويعتبرها واحدة من اعمال (فرقة المسرح الفني الحديث) الجادة والجيدة والممتعة .. وانتظرنا جديد فاضل خليل .. بعد أن قدم أعمالاً مسرحية ناجحة في كلية الفنون .. فإذا به يأتينا بمفاجأة جديدة وغريبة ..؟ يعيد تقديم مسرحية (الشريعة) التي كتبتها وقدمتها فرقتنا (المسرح الفني الحديث) في 26/5/1971م .. اي بعد ستة عشر عاماً على تقديمها من قبلنا .. وان يقدم المسرحية للفرقة القومية .. ويتولى اخراجها .. وان أمثل فيها نفس الدور الذي مثلته اول مرة .. وهو دور (دعبول) البلام ! بقينا لفترة بين أخذ و رد .. ورحنا نضع سلبيات هذه التجربة وايجابياتها : فالمسرحية – عرضاً – ليست جديدة .. وقد قُدمت في وقتها بمستوى عال من الحضور المبدع حين أخرجها قاسم محمد وصاغ ديكورها (كاظم حيدر) .. وسوف تحفز المشاهدين على عقد مقارنة بين العرضين .. وكان رد فاضل : (هذا ما اريده) الايجاب في الاعادة .. ان تتولاها ادوات جديدة من الممثلين والفنيين وان تكون هناك صيغة جديدة .. فالمسرح دوار .. والديكور مختلف كلياً . والممثلون عدا ممثل دعبول البلام .. مختلفون عمن مثل اول مرة .. واقنعني ..
وبدأ العمل مع (الفرقة القومية) .. وحدثت إشكالات تبدو بسطة اول الأمر .. فـ (الفرقة القومية للتمثيل) فرقة – الدولة – ورقابة الدولة تدخلت في حذف عبارات هنا وهناك .. وأوشكت ان تتأزم لو لم يكن المخرج فاضل خليل .. وعرضت المسرحية .. في تموز 1987م .. وقد تحقق ما كنا قد توقعناه .. فراح النقاد ولفيف من المشاهدين يقارنون بين العرض الاول والثاني .. ولا سيما في وسط الجمهور .. والبيت البغدادي بتفاصيله والمقهى .. والطيور .. ثم مقارنة بين هذا الممثل وذاك وهذه الممثلة وتلك .. وكان فاضل قد تناسى فعلاً .. ما كان .. وراح يرسم ما بمخيلته إلا بالقدر الذي يجب ألا يغيب من حيث الاداء الجيد بالرغم من تفاوت (طباع) الممثلين وما اعتادوا عليه سيما في المواقع او المواقف الكوميدية : اما بالنسبة لي .. فان المخرج فاضل خليل ظل أميناً على العمل فكرةً واثراً وانه راح يغدق من عنده الكثير من اجل إبعاد اللا مقبول من البعض .. فهو – أي فاضل – كان واحداً من الممثلين الذين ابدعوا في مسرحية (الشريعة) . وابناً باراً .. فكنت أرقبه .. أو ارقب (عشقه) للأعمال التي يشارك فيها او يخرجها .. ومعاناته المخلصة في ان يكون او لا يكون .. مع الاعتزاز بكل ما قدم سواء كنت مشاركاً معه ام بعيداً عنه .