ملامح الدستوبيا ونقد التوليتارية في مجموعتي (براد الموتى) (تفو) للكاتب المسرحي علي العبادي/ حيدر علي الاسدي
الكاتب الشاب علي العبادي من الجيل الذي خيمت على مخيلته صور الحرب والدمار والفساد ، وكل ما عايشه ضمن معطف المدن الفاسدة (الدستوبيا) مدن الخراب، والفوضى والدمار، والقتل المجاني، والقبح فهي مدن مملوءة ببارود الحرب والكوارث البيئية والامراض وسحق كرامة الإنسان وكيانه ووجود، على المستوى (العمراني) وحتى الإنساني، فالخراب المهيمن ليس بمنحى مادي (عمراني) وحسب، بل خراب على مستوى التناقض بالمجتمع والسياسة والاقتصاد وحتى الفكر وغيرها أنه يقدم لنا شخوص تعيش وسط مدن تفتقد الرفاهية والجمال الحقيقي ووسط أنظمة شمولية فاسدة فكيف لا ينقم عليها ويصب جام غضبه بمفرداته وهو الذي لا يملك سوى هذه المفردات لتشكل وعيه وردات فعله إزاء ما يكتنفه من واقع مرير متناقض مملوء بالظلم والزيف والتوليتارية، إنه عاصر الدستوبيا بكل ملامحها المتمثلة بالبيئة العراقية فلم استغرب وانا اقرأ مجموعته المسرحية (براد الموتى) او حتى (تفو) بما فيها من حنق وانتقادية ورفض واضح لكل مستويات السلطة وكسر لكل مستويات التابو ، بفعل هذا الغضب الواضح بمفرداته التي تهيمن على مشاهده وتشبيهاته في اغلب هذه النصوص المسرحية .
سأفتتح المقال بقراءة العتبة ( للنص الموازي) غلاف مجموعته المسرحية (براد الموتى/ الطبعة الثانية الصادرة 2022 عن مركز كلمة شبابنا) في واجهة الغلاف المغطى باللون (الأسود) ثمة قدمان تشكلان علامة نصر باطنهما قبال وجه ( القارئ) (الموت ارحم من العيش وسط هذا الهراء والقبح) ( الموت نصر والحياة خسارة) ( ما يداس تحت الاقدام / مصير سيواجهك مباشرة/ حدق بما سيجري لك من مصير مشابه لمصائر تلك الشخوص في متن المجموعة) في نصه الأول (قيء) وضمن مرموز العتبة سيوحي لك انك تعيش منذ اول حرف وحتى اخر سطر بالمجموعة ضمن (الدستوبيا) دعونا ندخل لمكان قيء كما يقول الكاتب المسرحي علي العبادي ( خربة او عمارة تعرضت للتخريب بفعل الانفجارات ، يوجد أمامها حارسا بحوزته مظلة قد احكم قفلها على شكل عصا “كبار السن” واضعاً رأسه عليها /ص8) فهذا المكان والملامح الأخرى بهذا النص تجعلك تصاب بالغثيان وتمتلئ بالدهشة للقبح السائد والمهيمن بهذه المفردات ، ( على مدى شهر وانا أتقيء كل القيم الزائفة التي كانت قرانا لي ذات يوم كل شيء حولي ملوث) فالتلوث احد اهم ملامح المدينة الفاسدة ( الدستوبيا) التلوث على مستوى قبح الحياة الإنسانية وقيمها الزائفة وعلى مستوى تشكل التلوث على امتداد البيئة التي تحيط بالفرد ، فهو يقول ( لابد ان استحم لكن في أي جحيم والسنة اللهب تذرع محبتها على اجسادنا ،خراء في خراء) الحياة في هذه المكان ( الذي تعيش فيه شخصيات العبادي) يمثل ( جحيم ارضي) يحرق الأجساد، ومفردات (الخراء) وتكرارها تدل على نفور كبير من هذه البيئة المعاشة (نفور من تلك الشخصيات وحتى من الكاتب) الذي يستلهم ويستدعي تلك المشاهد والامكنة ضمن منظور الحياة وانعكاساته ، بيئة اقل ما يقال انها تمثل خراء يلتصق بجسد الفرد ولا يمكنه ازالته حتى بالماء ، انه قبح من نوع اخر يهيمن على شخصيات هذا النص المسرحي ويوحي بفضاء المدينة الدستوبية ، ((المراة: لان لا يوجد حمام يتسع لحجم هذا القيء/ الآن عرفت جحيم الأربعين عاما التي قضيتها في الوحل، لم يكن ماء بل كان وحلاً استحم به/ص9) تتكرر مثل هذه الأفكار على امتداد هذه المسرحية فالأعوام التي يشير لها هي أعوام الحرب والهيمنة المأساوية والأزمات التي حولت حياة الفرد العراقي الى جحيم ، فهو يتحدث عن أعوام قضاها في (الوحل) يفترض في ( الوطن) انه يشبه الى هذا الوطن ومجموع مدنه (بالوحل) وكذلك ضمن ملامح الدستوبيا الانفجارات والقتل المجاني والإرهاب الاعمى وهو يتمثل بهذا النص المسرحي (يسمع صوت انفجار قوي/ص11).
ورغم ان المؤلف هنا من حيث أسلوب اللغة والحوار دمج ما بين العامي والفصيح وهو ما افقد النص بعض قيمه ودلالاته وقوة بلاغة المه ، إن الموت لدى (العبادي) وشخوصه هو خلاص من (جحيم الوطن) (الحارس: لابد ان تحمدي الله لأنه انقذه من هذا البؤس/ ص12) وعلى وفق المعادلة الاتي : ( الابن يعيش في الوطن/بائس وحزين ومأزوم) (الابن يموت بالانفجار/ خلاص من بؤس حياته) انها صورة مغايرة ومعاكسة وسوداوية عن ما يعيشه الفرد العراقي إزاء هذا القبح وصوره المتنوعة بحيث يكون الموت ارحم من كل صور البؤس التي تخيم على الفرد العراقي والذي انعكس تماما على شخوص (العبادي)، ويتعمق الملمح الدستوبي اكثر في حوارية المرأة بهذا النص ( لا تعرف حجم اللوعة ، الأمهات اللواتي فقدن ابنائهن في حرب او مرض او موت طبيعي تكون شهيتيهن مفتوحة للبكاء على مدى اعمارهن/ ص12-13) ، وتتزايد هذه الملامح كلما تقدمت المشاهد وتزايدت حدة التوتر الدرامي : ( المراة: يضاجعني الخوف يوميا ،حينما اراهم يحيطون بي لينهشوا جسدي، ويحررّوا مناطق العفة فيه ، بعد ان احتلت مزابل شتى البقاع عقولهم الرثة/ص18) فهذا المجتمع الذكوري الميهمن على حرية المرأة والقامع له والذي يراها كسلعة ممكن التحكم بها ، وسط هذه الوحدانية والخوف الذي يتملكها جراء قسرها على ان تكون وحيدة في الشارع ( فضاء مفتوح للقلق والخوف لكيان المرأة).
تتجلى هنا قمة صور الدستوبيا التي تجعل المرأة بحالة قلق دائمة ومستمرة إزاء نظرة الاخرين لها ، والاوبئة والامراض هي الأخرى صورة واضحة لمدينة الديستوبيا وهو ما يتجلى في هذا النص المسرحي عبر التحولات التي تجري في الشخصيات وبطريقة ذكية من الكاتب (علي العبادي) كما في تحول الشخصية الى ( السياسي) : ( السياسي: انقاذكم ، المراة : “تقاطعه بالضحك” …من شنو؟ السياسي: من هذه الامراض والاوبئة التي عصفت بكم/ص20) ليست امراض تتصل بالجانب البيولوجي وحسب بل امراض تتصل بمجال المشاعر والرغبات التي تتملك الانسان إزاء أخيه الانسان وطرق التعامل اليومي في كل هذه الفوضى ، مما جعل مثل هذه السلوكيات الزائفة والمريرة تتحول الى ظواهر وامراض وبائية تنتقل من انسان الى اخر ، كما يكرر الكاتب من مفردة ( مراحيض) وفقاً لمبناها الدلالي والتطابقي ، على المستوى (العمراني / السيكولوجي) بما يومئ هذا المكان (المغلق) من رمزية في الادب، وعبر المعنى الفيزيقي والمعنوي ينتقل الكاتب لتمظهرات الوجع الإنساني فمثلاً حوار السياسي مع المرأة ( السياسي: عذبت كثيرا في المعتقلات ، المراة: المعتقل الذي انوء تحت رحمته كبير جداً) فالمعنى السيكولوجي اقسى واوجع على شخوص العبادي من مدلوله الفيزيقي المعماري ، فضلاً عن وسم النص بالعديد من ملامح الدستوبيا عبر هيمنة مفردات ( الفواحش ، الخراب ،القيء ، سفلة ، قاطعي طرق ، قوادين ، اللصوص، الجحيم، دم) كلها صور وملامح المدينة الفاسدة وما يتجسد فيها من احداث للإنسان.
وفي نص مسرحية ( براد الموتى) يتمظهر المكان برؤية دستوبية واضحة فالمكان الذي تجري فيه احداث مسرحية العبادي هو ( براد موتى يوجد في اعلى وسطه ساعة وسلة نفايات/ص50) وفي باحة البراد مجموعة من الجثث المنتشرة في ارجاء البراد ، وهو منظر يدلل على حجم الموت والقتل في البلد ، هي صورة ملتقطة من حياة الانسان العراقي الذي عايش تعايش مع برادات الموت لسنوات ولأسباب شتى، من دلالة (المكان الفيزيقي/ براد الموت/ ثلاجات الموتى) يتحول الى معنى اسمى واكبر واكثر قساوة ( الوطن) الوطن الذي يعيش فيه أبنائه ( اموات) الوطن المملوء بالضياع وقتل الاحلام ، والاوهام واللا شيء.
وفي مونودراما (حذائي) يتحول الحذاء الى (مكان يعيش فيه احدهم) وشخوص (العبادي) هي شخوص مجردة من عناوينها واسماؤها ، فهي مرمزات الى جماعات ومجتمعات عامة يحيل اليها الكاتب بدلالاتها العامة ، فالعفونة في هذا الحذاء افضل من عفونتهم كما يقول ذاك الذي اتخذ من حذائه منزلاً ، ( رغم عفونتها لكن افضل من عفونتكم / ص77) في خارطة بائسة تضم هذا الانسان ، ( تخيل بؤس الخارطة التي تصحرت بها ضحكات الأطفال كانت تلك القهقهات والابتسامات والضحكات دائما تداعب الموت المستشري في اجسادنا/ص79) (وطن شاخ فيه الوجع، جرحه يرتل بهمس حتى لا يوقظ الاخر/ص80) ولان الدستوبيا هي مدينة السفلة والشواذ فيرد هذا الحوار: (سفلة وشواذ وقوادون كل أولئك يتصارعون فيما بينهم على احقية حملة رسالتك ، ماذا بعد كل هذا النزاع ان افعل سوى الهجرة الى حذائي المسكين المتهرئ خوفا من تلك السيوف الداعرة التي نالت منك/ص81).
اما مجموعة (علي العبادي) الأخرى الموسومة (تفو) ضمن عتبتها الموازية صورة قبيحة لجماجم منشطرة ومتشظية ، تحيل الى عتبات أخرى ضمن عناوينها ملامح المدينة الدستوبية ومنها نص مسرحية ( مرحاض) ويقول الثاني في هذه المسرحية ( اوهم نفسي ان كائنا بشريا يعيش في غابة ، رغم شريعة الغاب اثقلتنا كواهلنا لكن أحاول جاهداً ان اوهم نفسي بكل ما اوتيت من وجع كي اتحمل هذه الضحالة/ ص26) فشريعة الغاب من ملامح الدستوبيا ، اذ يغيب القانون وتحل الفوضى وتكون الأغلبية بالحكم للأقوى فتصبح الحياة المدنية مثلها مثل الغابة يحكمها القوي وتتلاشى كل قيم القانون والحكمة في هذه المدينة التي يقدمها لنا (علي العبادي) في هذا النص ، والامر سيان في نص (مقبرة) حيث عشرات الجثث المغتسلة بالدم ، والأطفال الذين طالتهم السنة الحريق والمريض وكل تلك الصور تشكل للدفان الأول (الم/ لا يمكن تحمله) الملل والقوادة ، والاحتجاج والفقر ، البالوعة، الازمة ، والتشكيك بالنزاهة صور أخرى تحضر ضمن فضاء هذه الدستوبيا وانعكاساتها بهذا النص المسرحي لـ(علي العبادي)، ( لا اعرف ما الذي فعلته هذه البلاد كي تجني كل هذه القحط؟/ ص49) ويقول كذلك : (عثروا على جسدك في القمامة تتناسل فيه اثار التعذيب/ص55).
ختاماً انها مسرحيات جسدت الام واوجاع الفرد العراقي في حقب الموت المجاني واللوعة التي افترشت حياة الفرد العراقي منذ سنوات ولازالت ، ينجح (العبادي) وبلغته المسرحية المميزة لكي يوصل تلك الاوجاع عبر شحن شخوصه بالأحداث الدرامية التي ترسم لنا فضاء من الصور المتشابكة مع واقعنا المأزوم فنتعاطف مع تلك الشخصيات ونشاركها المها ووجعها ضمن فضاء مدينة مملوءة بالقبح والمأساة والخوف والموت المجاني ، انها مجموعة ناقدة للأنظمة الشمولية وحضورها في حياة الفرد العراقي ، على مستوى التأثير السلبي ومهيمنات الوجع الذي يتكون عبر تلك السلطة الشمولية والاوجاع التي تخلفها بالمجتمعات الإنسانية.
- حيدر علي الاسدي/ ناقد واكاديمي