كتاب الخميس (الحلقة الواحد والثلاثون)/ عرض و قراءة: حسام الدين مسعد

اسم الكتاب : “ الإيقان والارتياب أو يوريبدس الجديد” 
الكاتب: فهد الكغاط
الناشر: دار توبقال للنشر

*****************************

ميكانيكا الكم مابين الإيقان، والإرتياب اويوربيدس الجديد 

قراءة في نص الكاتب المغربي /فهد الكغاط

لا شك أن التطورات العلمية التي حدثت خلال القرن العشرين أثارت إعادة التصور العميق لطبيعة الواقع لاسيما أن “ميكانيكا الكم “قد أنتجت نقلة نوعية مذهلة في وضع إطار لتحليل الأداء الحي من خلال المفاهيم الثلاثة :
الهوية، والملاحظة، واللعب، إذ تبرر استخدام النظريات العلمية الفيزيائية في تطوير نهج للكتابة يتبني الممارسات الثقافية في الروابط التاريخية بين العلم،والمسرح، مع الفكر اليوناني الكلاسيكي، والفكر الطبيعي، ويدافع عن التفاعل طويل الأمد بين الثقافتين في صياغة ميكانيكا الكم للوعي والتي تستخدم بعد ذلك في تحليل النص الدرامي، ومن ثم العرض المسرحي الناتج عنه. في حين أن تلك المفاهيم الواردة في ما بعد الحداثة هي بالتأكيد متشابهة، وفي بعض الأحيان متطابقة مع الأفكار التي تمت مناقشتها فيما يتعلق “بميكانيكا الكم”.
ويلاحظ “ديفيد هارفي” في حالة ما بعد الحداثة، أن هناك خطر في تصوير “العلاقات المعقدة على أنها الاستقطاب البسيط ، عندما يكاد يكون من المؤكد أن الحالة الحقيقية للإحساس ، هي الحقيقة، ويكمن “هيكل الشعور” في كل من الحداثة، وما بعد الحداثة في الأسلوب، حيث يتم تصنيع هذه التناقضات الأسلوبية. لكن ربما “الكم”يقدم النموذج الميكانيكي لطريقة التفاوض ليس فقط بين الحداثة وما بعد الحداثة ، ولكن أيضًا بين الذهني والجسدي والفرد،والمجتمع .
يحدد David ER George عددًا من ميزات “ميكانيكا الكم “التي تتناولها جميع العناصر الثلاثة التي تشكل المسرح”، و إعادة تعريف دور المتفرج
– عدم تحديد الواقع وتعدده ؛ هذه هي الأفكار التي تم استكشافها في مجال دراسات الأداء ، والتي غالبًا ما تتناول طرق المعرفة وإعداد التقارير والاستنساخ، مما يوحي باحتمالية عدم تحديد وتعدد الواقع.
إن الإشتغال علي” ميكانيكا الكم”أو نظرية المسرح الكوانتي المعتمدة علي فيزياء الكم هو تحدٍ لوجهة النظر السائدة في دراسات الآداء بإستخدام النظريات العلمية لتطوير منهجية لتحليل التمرين وممارسة الأداء كما يتم استخدام النظريات المناسبة في الأنثروبولوجيا وعلم النفس، والفلسفة .
إن اختياري لقراءة نص ” الإيقان، والإرتياب،او يوربيدس الجديد” للكاتب المغربي “فهد الكغاط” لم يكن اختياراً عشوائيا،بل هو محاولة لقراءة منتجة لمشروع، وتجريب في بناء نص عربي، إذ يمزج كاتبه بين العديد من الثنائيات أهمها ثنائية الموجة ،والجسيم، إذ ينطلق النص من مبدأين رئيسيين في الفيزياء الكمية، فالمبدأ الأول هو مبدأ الارتياب Principe d’incertitude لهايزنبرغ، وقد خلق المؤلف بنية النص كلها تتأسس على الارتياب واللايقين. علاوة على ذلك، فإن إستدعاء يوريبدس، ثالث رواد التراجيديا الإغريقية، الذي يمثل النموذج المبدع الذي ارتاب في كل اليقينيات يشكل جمالية ما بعد حداثوية للممارسات الثقافية في الفكر اليوناني، ولذلك تم استدعاؤه في هذا النص. وأما المبدأ الثاني الذي اشتغل عليه مؤلف هذا النص فهو ثنائية الموجة/الجسيم Dualité onde/corpuscule والتي تخص المادة والضوء معا. إنها من أهم مبادئ الفيزياء الكوانتية، او الكمية ، ووظيفتها في هذا النص مجازية بالأساس، إذ إنها المعادل المجازي للثنائية الأخرى الروح/الجسد.
لقد جعل المؤلف شخصية يوريبدس تتشظى إلى جزئين: يوريبدس الجزء الموجي (الروح) ويوريبدس الجزء الجسيمي (المادة) ،
[الممثل 1/يوريبدس الجزء الموجي )
يوريبدس ج.م. ( ما الكائن إلا موجة أخف من شعلة نار.
الممثل 2/يوريبدس
الجزء الجسيمي(يوريبدس ج.ج). أخف من حبة غبار. ُ ما الكائن إلا جَسمي
يوريبدس ج.م. الصفر والواحد نقيضان.
يوريبدس ج.ج. وبينهام ما لا ينتهي من أعداد حقيقية.
يوريبدس ج.م. السالب والموجب نقيضان.
يوريبدس ج.ج. وبينهام ما ليس بسالب ولا بموجب.
يوريبدس ج.م. الثابت والمتحول نقيض]
لذا نلحظ من خلال رصدنا للمفردات اللسانية التي أوردها المؤلف في حوار يوربيدس المتشظي أنه حاول أن يميز بين بين الشخصيتين (الموجة/المادة ) و أظهر من خلاله نوعا من الصراع بينهما. إن هذا التشظي في الواقع يهم يوريبدس الجديد، والذي يعتبر قرينا ليوريبدس الإغريقي، إنه التشظي الذي يمتد في الزمان والمكان والذي يرمز للعالم الواقعي (يوريبدس الإغريقي) من جهة، والعالم المتخيل (يوريبدس الجديد) من جهة أخرى …
ويستحضر أيضا مؤلف هذا النص ثنائية الموجة/الجسيم،مرة أخري سابقة علي ذاك الحوار من خلال مفارقة الحياة والموت، بتوظيفاً شعرياً في الرقصات الكوانتية التي يقترحها في نصه الإرشادي .
إن ثنائية الموجة/الجسيم الذي يعتمد عليها “الكغاط” في نصه الدرامي الذي يستهله باللعب المسرحي المكشوف من خلال إستقبال شبه إحتفالي من المخرج لجمهور العرض المفترض في البهو الخارجي للمسرح إشارة دالة للعب المسرحي، والتمثيل داخل التمثيل،فمن اللحظة الأولي يسعي المؤلف الي تحفيز ملكة الملاحظة لدي متلقيه، ففي الحالة الأولي الموسومة “الجمهور يرفع الستار”
[مخرج العرض /المخرج َ. يصفـــق بيديـــه لإثـــارة انتبـــاه الجمهــور. ،ِيصعـــد علي مصطبة والجمهور يتحلقـــون حولـــه] يشير وقوف مخرج العرض علي المصطبة الي حركة التفاعل بين السالب المتفرج ،والموجب المؤدي، والتحول من السالب للموجب لذا فإن “الكغاط” يساعد المتلقي علي التفاعل الإيجابي، والمشاركة، وقبل الدلوف الي قاعة العرض بأن وضع في هذه الحالة عامل محفز كبعض الممثلين المتواجدين في البهو  الخارجي للمسرح بملابسهم الواقعية، وليست ملابس التشخيص، ليثير لغط، وجدال حول منع العرض، او تنفيذه، ليقود متلقيه الي قاعة المسرح ليفاجأ هذا الجمهور الي تغيير وضعيته التي جُبل عليها في فضاء التلقي الذي انتقل اعلي الركح في مدرج علي يمين ويسار الركح
المخرج:[أيها السادة… نرجوكم أن تصغوا إلينا لحظة. نستقبلكم الليلة في بهو  هذا المسرح. غـــدا قـــد نســـتقبلكم في بـــاب هـــذا المـســرح… أو في الســـاحة التـــي يطـــل عليهـــا هـــذا المسرح. هناك… قد ترفعون الستار!.. أو قد لا ترفعونه ! تستطيعون !.. أو لا تستطيعون…..
المثل 2 (يخـــرج مـــن وســـط الجمهـــور ويقـتــرب مـــن المخـــرج) إذن… لنرفـــع الســـتار ولنبـــدأ العـــرض. من ذا الذي يجرؤ أن يمنعنا.]
لقد” نجح فهد الكغاط ” في الحالة الثانية الموسومة “يوربيدس بعرض جديد ” أن يخلق علاقة جديدة مع الجمهور، هي في الحقيقة علاقة كاشفة، وفاضحة للمستور في صناعة وإنتاج العرض المسرحي ويتضح ذلك من حديث المخرج للجمهور
[(المخرج من مكانه الي الجمهور) ربما كان بعضكم أول مرة يلج هذا المكان. هذه القاعة خاصة بالتدريب. في هذا المكان نهيئ عروضنا… وفي هـــذا المــكان نهيـــئ عرضنـــا الجديـــد : »الإيقـــان والإرتيـــاب… أو يوريبـــدس الجديـــد.]
لكن هل العلاقة التي أرادها الكغاط يمكنها أن تتحقق ويتحول السالب الي موجب؟ لقد أصبحت الهوية مزعزعة بشكل متزايد في عدم اليقين في ثقافة ما بعد الحداثة. فالادعاءات المقلقة لمجتمع “ما بعد النسوية” تسببت في أزمات الثقة التي تحاول جعل المسرح وسيلة تحاول من خلال خطابها، إعادة فرض الهيمنة الثقافية، واستعادة التاريخية والوطنية، لكن يمكن النظر إلى الجذور على أنها حرجة وغير نقدية ؛ في تأكيد المواقف الراسخة، أو لتوضيح البحث عن أشكال جديدة للهوية “، لذا فإن المزج بين المألوف، والغير مألوف الذي صنعه الكغاط في محاولات العثور علي اللغات المسرحية التي تعبر عن غموض الهوية هو نهج محمود للبحث عن أشكال بديلة للتلقي في المسرح العربي ،إذ يمكن للمتلقي مشاركة ممثلي العرض في الإرتياب، والشك، وملاحظة التشظي والتحرك صوب الممثلين، وصوب نظرائه من المتفرجين، وفقا لمبدأ تراكب الحالات فمن الممكن لنظام كوانتي ما أن يوجد في حالات عدة في الوقت الواحد، وكل حالة منها قد خُصِّصت باحتمال ظهور أو حدوث. فهو يُقوِّض اليقينيات الحتمية التي تحكم كل ظاهرة فيزيانية. ومن ذلك ينطلق الكغاط في إستلهام هذه الظاهرة لبناء حبكة مسرحية تفاجئ المتلقي،وتدهشه من خلال ترجيح احتمال الحالة، فالمشاهد في نص الكغاط المسرحي جزء لا يتجزأ من الفعل المسرحي، يتحرك مع الممثلين، ويتنقل في القاعة بل وحتى على المسرح؛ لكنه، في نفس الوقت، يحاول ألا يكون عنصراً حاسماً في الحبكة، تاركا للممثلين أمرها وتسلسلها، وفقا للفعل الدرامي .
[يوربيدس (مخاطبا نفسه ) ُ( يوريبــدس… يا ســادة… مــن كان في نفســه مثقــال ذرة مــن الإيقــان بمسرحنــا، فليواصــل العــرض معنــا، ومـــن كان في نفســـه مثقـــال ذرة مـــن الإرتيـــاب بمسرحنـــا، فليواصـــل العـــرض معنـــا، ما جئتم الي المسرح إلا طلبا للمسرح ]
لقد ظل السؤال الذي يشغلني طيلة زمن القراءة كيف يستطع الكغاط الربط بين الراهن، وما استدعاه من هويات كمومية، واسماء في شخصيات تاريخية في هذا النص واستوقفني ذكر اسم ابن زاكور… [تذكروا هذا الإسم جيدا. محمـــد بـــن زاكـــور… ربـمــا كان أول مـــن ألـــف مسرحيـــة مغربيـــة، في أول العشرينيـــات.] والذي ورد ذكره في الحالة الثانية، ولم يأتي مصادفة فهو محمد بن قاسم بن محمد بن الواحد بن زاكور الفاسي لكن توفي عام 1708، وله ديوان شعر أسماه الروض الأريض، وله: «المعرب المبين بما تضمنه الأنيس المطرب وروضة النسرين »، «أيضاح المبهم من لامية العجم – خ» «عنوان النفاسة في شرح ديوان الحماسة لأبي تمام »، «الروض الأريض، ولم يكتب المسرح لأنه توفي قبل استيراد مارون النقاش للمسرح،لكن اعتقد أن ذكر اسمه في الحالة الثانية هو من قبيل الإرتباط والشك الذي أطلقه الكاتب لمتلقيه، قبل أن يغوص في الحالة الأخيرة الموسومة “من منكم علي دين يوربيدس ” والتي أبرز فيها الكغاط الدهشة بإقتحام المسرح من الإسلاموفوبيا أو المتطرفين المسلحين مع قائدهم “ابو قال”، واللذين سببوا حالة من الذعر اليقيني للجمهور
[أبو قال: افتحوا الأبواب… أخلوا المكان حالا… ) منكلا بالمخرج،
ويوريبدس( وحدها الرؤوس تهمنا… وحدها الرؤوس تهمنا….. الجمهور يغادر المسرح مذعورا].
إن الإيقان الذي بلغه القارئ المتلقي لهذا النص الدرامي هو أن ما يهمهم في هذا العالم هو رؤس المبدعين، والمفكرين لا يعنيهم هولاء الذين باتوا مهمشين ينتظرون قوت يومهم . لقد قرأت نصاً دراميا مسرحيا انطلق كاتبه من فرضية علمية هي ميكانيكا الكم،في صراع الثنائيات (الموجة/ الجسيم، الإيقان/الإرتياب، السلم/الفزع، الحياة/الموت……) في حبكة درامية، وحوار مسرحي مزج بين القديم والحديث، وفي واقع متعدد،وزمن هو زمن العرض الراهن .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت