بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة..بيانات لما بعد الجائحة (البيان الثاني)/ عبد الكريم برشيد
البيان الثاني
بيان الأسئلة المستجدة في الاحتفالية المتجددة
“ إن الرسائل التي تحمل حروفا جافة ومحنطة لا تهمني، والرسائل التي لا تحمل إلا الطابع البريدي وحده، لا قيمة لها عندي، وإنني أتعجب، كيف أن كثيرا من الناس، يسودون الأوراق، من غير أن يقولوا شيئا، ومن غير أن يضيفوا للمعاني معنى .” ساعي البريد في ( الرحلة البرشيدية)
الأسئلة البسيطة في المسائل المركبة
وبخصوص هذه الأسئلة، وبخصوص معنى التساؤل، يقول الاحتفالي ” لقد رأيت، واقتنعت، بأننا ـ في حياتنا اليومية ـ نتعامل مع الأسئلة بوعي انتقائي، ونكون في هذه الحياة عادة، كما يكون الطالب أمام أسئلة الامتحانات، فهو محاصر بين حدين قاطعين، الأول تمثله الأسئلة، والثاني يمثله الزمن المحدود، والذي لا يرحم، ولهذا فإنه ـ رغما عنه ـ ينحاز إلى الأسئلة السهلة والبسيطة، ويترك الأسئلة الصعبة، على أمل أن يعود إليها في زمن لاحق، ولكن هل تسمح الأعمار المحدودة والمحددة بذلك؟) (1)
ويؤمن الاحتفالي بأن ” أصدق الأسئلة ـ وأكثرها خلودا وبقاء ـ هي التي يأتي بها المبدع من المستقبل وليس من الماضي، وهي التي تكون نبوءة وكشفا، وليس مجرد استرجاع آلي لما في الذاكرة، وبهذا يجدد المبدع أسئلته، ويجعلها أطول عمرا من عمره، حيث يمضي هو وتبقى هي من بعده، وبهذا يكون انتسابها إلى الحقيقة أكبر وأخطر من انتسابها إلى الواقع، وتكون مرتبطة بالقيم أكثر من ارتباطها بالمعلومات، وتكون منحازة إلى الإنسان ـ في شموليته وكليته ومطلقيته ـ أكثر من انحيازها إلى شخص من الأشخاص، أو إلى أية جهة من الجهات) (2)
هذه الجائحة نعتت نفسها بأنها أساسا ثورة فكرية وجمالية وأخلاقية، وأنه (في هذه الثورة غيرة على الحياة وعلى الحيوية وعلى التحرر وعلى المدينة والتمدن) (3)
ولقد هذه الجائحة، بالنسبة للاحتفالية، امتحانا عسيرا، وشكلت تحديا خطيرا لكل الأفكار التي آمن بها الاحتفاليون على امتداد قرون من الزمن، ولقد وجد المناضل الاحتفالي نفسه في مأزق صعب، محاصرا بالخوف والرعب، ووجد أن كل قيمه وأفكاره واختياراته موضوعة على كف عفريت، ووجد أن ذلك الأساس الذي بنيت عليه الاحتفالية، والذي هو ( إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة) قد أصبح مهددا، وأن الرؤية العيدية قد أصبحت مهيأة لأن تنهزم أمام الرؤية المأتية والجنائزية و( في صدر الاحتفالي أسئلة كثيرة، ومن يشرب ماء هذه الاحتفالية لن يزداد إلا عطشا، لأنها أخت البحر ) هكذا قال ذلك الاحتفالي، والذي لا يشرب إلا من ماء البحر، مع معرفته أن ماء البحر مالح، ولعل هذا هو ما يفسر عطش الاحتفالي الدائم إلى ماء المعرفة وإلى ماء الحياة وإلى ماء الحرية وإلى ماء الحق والحقيقة وإلى ماء الجمال والكمال، والأصل في هذا العطش الرمزي أنه عطش أبدي وسرمدي، وهذا ما يفسر رحلة الإنسان الاحتفالي السندبادية والحلاجية بحثا عن الضائع والمضيع وعن المفقود وعن المنسي والفردوسي وعن الممكن الوجود، وهي في سندبادتها تسافر عبر الزمان والمكان، وفي حلاجيّتها تسافر داخل الروح والوجدان
وفي هذا البدء الجديد، من هذا البيان الجديد، أرى من الضروري أن نتساءل:
وهذه البيانات الاحتفالية الجديدة، في هذا الزمن الجديد، والذي هو زمن ما بعد الوباء، ماذا تعني؟
ومن، وما الذي أوجد هذه البيانات الآن هنا؟ وتحديدا في هذا التاريخ، وفي هذه الجغرافيا، وفي هذا المناخ النفسي والوجداني والاجتماعي العام؟
وما الداعي لوجودها أصلا؟
وما الجديد فيها؟ وما الجديد في مسار الإنسان والإنسانية؟ وفي مسيرة الحياة والحيوية؟ وفي مسيرة هذه المدنية المهددة بالوحشية وبالآلية وبالأمراض والأوبئة القاتلة ؟
وهذه الاحتفالية، باعتبارها حركة في التاريخ، أين كانت بالأمس؟
وأين هي اليوم، وهل تغيرت بتغير الواقع والوقائع؟ وما طبيعة هذه التغيرات؟ وما هي درجاتها في سلم الوجود والحياة؟
وإجابة على هذه التساؤلات نقول ما يلي: هذه البيانات هي أساسا كتابة أخرى، قامت معاناة وعلى معايشات وعلى مشاهدات وشهادات، ولقد تمت بنفس العين الاحتفالية، وبنفس الرؤية العيدية والاحتفالية دائما، وهي كتابة عاقلة وفاعلة ومتفاعلة، وما في هذه الكتابة البيانية إلا السؤال الصادق والشفاف والهادئ والبرئ، وما في هذا السؤال شيء آخر إلا الشغب العلمي والمعرفي والجمالي، وفي اعترافات الكاتب الاحتفالي يمكن أن نقرأ ما يلي:
” إنني قبل أن أقول كلاما، أسأل نفسي ماذا أقول، ثم من بعد يأتي السؤال الآخر، والذي هو،كيف أقول، وأختار لغتي، وأختار أبجديتي، وأختار كلماتي، وأركب صوري المتكلمة، وأنطق بها وفيها، وأخطر كل الصور عندي هي تلك التي لها ظلال، ولها خلفية، ولها صوت وصدى، ولها عمق عميق، ولها إطار حقيقي، ولا يهمني أن يكون هذا الإطار خشبيا أو ذهبيا:والمهم هوأن يؤطر المنظر، وأن يساعد العين على الرؤية والنظر ..)” (4)
” مما يدل على أن دور البيان هو التبيين، وهو التبليغ المبين، وهل يأتي فعل التبيين إلا مع وجود شيء من الغموض ومن الالتباس؟ وهذا الزمن اليوم، بكل أمراضه وأعطابه السياسية والاجتماعية والفكرية، يحتاج إلى قراءات أخرى جديدة، قراءات تكون أكثر جدة وجدية، وأكثر صدقية ومصداقية، أكثر علمية وأكثر شعرية، ونحتاج بهذا إلى كتابات أخرى، تقرأ في الواقع منطقه، وتقرأ في كتاب الأيام ما كتب في السطور وما هو موجود فوق السطو وما هو موجود تحت السطور. وما هو موجود خلف السطور، وبالنسبة للاحتفالي، فإن أخطر كل الأسئلة هو سؤال الوجود، أي نكون أو لا نكون؟ وهو سؤال الهوية أيضا، أي نحن من نحن؟ وأين نحن الآن هنا؟ ومع من نحن في هذا العالم الجديد؟ وأية صورة يمكن أن نقدم للآخرين هناك عن طبيعة هذه (النحن) الجديدة والمجددة والمتجددة؟
هذه الاحتفالية اليوم، ليست احتفالية جماعة، وليست احتفالية مجتمع محدود، ولكنها احتفالية كل الناس، وقبل هذا، فهي احتفالية نفسها، وقد يتغير الاحتفاليون في عالمها وكونها، ولكن روح الاحتفالية باقية ومتجددة على الدوام ” نعم، هي احتفالية نفسها، وليست احتفالية أي إذ، وكما أنه لا يجوز للكائن الحي أن يقول (أنا الحياة) فإنه لا يجوز للمناضل الاحتفالي أن يقول (أنا الاحتفالية) ولو قالها فإنه سيكون مغرورا ومجنونا” (5)
الاحتفالية إذن، أكبر وأصدق وأطول عمرا من كل الاحتفاليين، وهي نظام وجود أولا، وهي منظومة فكرية وجمالية وأخلاقية تسعى نحو الاكتمال ثانيا، ولهذا فنحن في هذا البيان لن نعطيكم الاحتفالية، أو صورتها النهائية، ولكننا فقط سنعطيكم الدرجة التي وصل إليها الاحتفاليون في أبحاثهم وفي تجاربهم وفي أفكارهم وفي أسئلتهم وفي قراءاتهم للواقع التاريخي الجديد، هذا فقط وليس أكثر
ويبقى السؤال الأساسي والمحوري التالي:
كيف وصل الاحتفاليون الحقيقيون إلى الاحتفالية الحقيقية؟
وكيف يمكن تحقيق الاحتفالية الحقيقية في واقع كاذب ومزيف ومريض وغير حقيقي؟
ولقد وجد هذا الاحتفالي الصادق نفسه متورطا في هذا الواقع الكاذب، ووجد نفسه مضطرا لأن يقول ” ومن غير أن أدري، وجدت نفسي احتفاليا في عالم غير احتفالي، ولو كان هذا العالم احتفاليا، بشكل تام ونهائي، فهل كان ممكنا أن أنفق عمري كله في البحث عن الزمن الاحتفالي الحقيقي؟ لا أظن” (6)
وما يميز السؤال الاحتفالي هو براءته وشفافيته، وهو سؤال لوجه العلم والمعرفة والفن والجمال والحق والحقيقة، وليس لأي شيء آخر، أي أنه لا يبتغي مصلحة أو منفعة، وما يحركه هو الفضول العلمي المشروع، وماذا يمكن أن يكون المسرح ـ في تلصصه على حيوات الناس ـ سوى أنه فضول جميل ونبيل،
المسرح الاحتفالي حي في الواقع المأتمي
وهذا المسرح الاحتفالي لا يأتي بالأسئلة الجديدة، ولا يزعم أنه قد أنى بها من الفراغ المطلق، ولكنه فقطـ في علمه وفكره وفنه، يجدد نفس الأسئلة القديمة، ويجدد نفس المسائل الوجودية والاجتماعية والفكرية الأساسية والجوهرية في التاريخ، ولعل أهم وأخطر ما يميز هذه الأسئلة هو أنها أسئلة مشاغبة ومشاكسة ومستفزة، وأنها مؤثثة بشيء غير قليل من النقد ومن الشك ومن الغرابة ومن الاختلاف، وترى الاحتفالية أن عيب المسرح العربي هو أنه ـ في أغلبه ـ إتباعي ونمطي وشكلاني في (اجتهاده) وأنه سطحي براني في رؤيته، وانه يراهن على الكائن أكثر من رهانه على المكن، ويراهن على الجانبي في مقابل المحوري، وعلى الجزئي في مقابل الكلي، وعلى القريب في مقابل العيد، وعلى السهل في مقابل الصعب، وعلى المتغير في مقابل الثابت، وهو حين ينظر إلى مرآة المسرح، يرى الآخر الغربي والأوربي ولا يرى نفسه، وهو يهتم أكثر بما عند الآخر من أقوال ومن أفعال ومن أفكار ومن اجتهادات علمية وفكرية وجمالية، وهو يثق في هذا الآخر أكثر مما يثق في نفسه وفي ثقافته وفي تاريخه، وهو معجب بما في المسارح العالمية أكثر من اهتمامه بما عنده، والتي يمكن أن يكون جادة وأن تكون جديدة، وأن تكون مجددة، ولهذا يكون من حقنا ـ أو من واجبنا ـ أن نقول ما يلي: إن هذا المسرح العربي قد عرف اجتهادات كبيرة وكثيرة وخطيرة جدا، ولقد قدم بعض الرواد المسرحيين فيه مشاريع أساسية ومهمة، ولكنها ظلت صيحات في زاد، ولم يتم قراءتها، ولا الإنصات إليها، ولا مناقشتها، ولا تطويرها، ولا تحيينها، ولا تجديدها، ولا تكملتها، ولا نقدها، ولا نقضها، ولا إعطاء بدائل عنها، والأصل في هذه المشاريع الفكرية والجمالية هو أنها مجرد جزء فقط، من للمشروع المسرحي العربي الكبير، والذي هو بدوره جزء من المشروع النهضوي العربي الكبير، والتي يمكن أن نجد لها تمظهرات متعددة في الفلسفة وفي علم الاجتماع وفي الرواية وفي لشعر وفي السينما وفي كل الآداب والفنون المعاصرة المختلفة، وبالنسبة للاحتفالية، فإن فعل عدم التنظير لهذا المشروع هو خيانة أساسا، وقد يكون انتحارا فكريا وحضاريا، وبخصوص هذه الخيانة يقول الاحتفالي:
“فما الذي حدث إذن، حتى خان هذا المسرح نفسه، وحتى تنكر لمشروع وجوده الكبير والخطير، وتخلى عن مدنية الدولة لفائدة العسكر، ولفائدة فقهاء الظلام، وفرط في حيوية الحياة وفي إنسانية الإنسان وفي مدنية المدينة وفي حرية الفن المسرحي وفي حرية الفنان المسرحي وفي وحدة المسرح ووحدة المسرحيين؟
وهل يمكن أن يكون أقصى ما يطلبه المسرحيون اليوم هو أن يهربوا إلى العموميات وإلى المجردات وأن يجددوا في الشكل المسرحي وحده، وأن يجربوا التقنيات والآليات الجديدة تحت مسمى التجريب، وأن يبحثوا عن الجماليات البصرية المدهشة والمبهرة، والتي قد يكون لها وجود سابق في المسرح الأوربي والغربي الحديث والمعاصر، وذلك بعيدا عن إنتاج الأفكار الجديدة والجريئة والحية، وبعيدا عن إنتاج التصورات الحديثة، وعن إنتاج الاختيارات الصادقة، وذلك في سياقات هذا العالم الذي ضيع الصدق، وضيع المصداقية، وربح التكنولوجيا وخسر إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة) (7)
لقد قام المسرح الاحتفالي على القناعة المبدئية التالية، وهي (أنه لا وجود لشيء يسمى (المسرح) وأن ما هو موجود، في كل الثقافات والحضارات واللغات العالمية، هو الحالة المسرحية، وهذه الحالة الاحتفالية والعيدية هي التي صنعت مسارحها عبر العالم، وبهذا فقد أمكن أن نقول ما يلي: قبل وجود فن المسرح، كان هناك فعل سابق مؤسس يسمى التمسرح، وكان هناك هذا الإنسان المتمسرح بالفطرة، والذي يحكي ويحاكي، والذي لا يتكلم فقط، ولكنه يرقص ويغني ويعبر بكل ما في وجهه من ملامح، وبكل ما عليه من أزياء، وبكل ما لديه من أشياء، وبكل ما على وجهه من أقنعة) (8)
وهذه الحالة العيدية، هي روح وجوهر المسرحية الاحتفالية، وهي روح وجوهر اللغات المسرحية، وهي روح وجوهر الظاهرة المسرحية، وهي روح وجوهر الفلسفات الاحتفالية، والأصل في هذا الذي نسميه المسرح أنه حالات احتفالية وعيدية، متعددة ومتنوعة ومتجددة ومتحولة
ويؤمن الاحتفالي الحي، في التاريخ الحي ( بأنه لا جديد في الحياة ولا جديد في الطبيعة ولا جديد في التاريخ، وأن الشيء الحقيقي الوحيد الموجود هو فعل التجديد، أي تجديد ما هو موجود أولا، وما هو قديم ثانيا، وما هو محافظ عليه ثالثا، وهذا ما يفسر أن يكون لفعل التجديد في الثقافة المسرحية العربية معناه الحقيقي، والذي هو مقاربة نفس المسرح العالمي، والنظر إليه من زوايا متعددة، فكريا وجماليا وأخلاقيا) (9)
وهذا المسرح لم يكتشفه الإنسان بلا معنى، ولكن من ( أجل أن يتحرر من قيوده، وما أكثرها، ومن أجل أن يحيا بشكل أصدق، ومن أجل أن يرى العالم بأكثر من عين واحدة، ومن أجل تأسيس مدينة حقيقية جديدة، مدينة روحها وجوهرها التمدن الحضاري، عمرانا وفكرا وأخلاقا، وأيضا، ومن أجل بناء إنسان مدني حر، ولقد كان لهذه الحرية أكثر من معنى وأكثر من بعد وأكثر من وجه وأكثر من درجة) (10)
الاحتفال والواقع : التحدي والتجاوز
إن الأصل في الاحتفال أنه فعل استثنائي فوق واقعي، وأنه حالة وجدانية استثنائية أيضا، وذلك في فضاء هذا الواقع اليومي القديم، وبهذا فهو دائما فعل متعدد ومتمدد وجديد ومجدد ومتجدد، هو فعل لا يشبه ما يسبقه، ولا ما يحيط به من أفعال ومن أقوال ومن أحوال قديمة وروتينية معروفة، ولعل هذا هو ما يجعل الاحتفال المسرحي فعلا سورياليا بالضرورة، ويجعله مثيرا ومدهشا ومستفزا وممتعا ومقنعا ومدمرا ومؤسسا ومشاغبا ومشاكسا ومستفزا، فكريا وجماليا، ويجعله موقفا نقديا من الأحداث ومن الناس ومن العادات ومن المؤسسات، وهو بهذا فعل حقيقي إضافي جديد لا يحكي ما كان، في يوم من الأيام أو في زمن من الأزمان، ولكنه يؤسس ويبني ما يمكن وما ينبغي أن يكون في فراغ هذا الكون، وفي زمن من الأزمان الممكنة الوجود، والذي قد يأتي أو قد لا يأتي واقعيا، وبهذا فهو فعل نقدي لا يحاكي الواقع، لأنه أساسا فن من الفنون الجميلة، والمعروف عن الفن أنه فعل انقلابي بالضرورة، هو فعل تجديد وفعل تنوير وفعل تثوير للحياة اليومية الفاسدة والراكدة والراقدة.
إن اللحظة الاحتفالية هي أساسا لحظة إبداع، وهي بهذا لحظة ثقافية بامتياز، لحظة من إبداع الإنسان، ومن وحي إبداعه وخياله وهذيانه وجنونه، وهو فعل لا يكرر وقائع هذا الواقع، ولكنه يتحداها، ويقفز عليه، ويكون في الواقع خارج الواقع، ويكون رهانه الجمالي على ما هو أبعد وأصدق وأجمل وأكمل وأنبل من صورة الوقائع اليومية المحدودة والمحددة
ونفس هذه العلاقة، الجدلية والنقدية بالواقع والوقائع، هي ما يؤسس علاقة المسرحية الاحتفالية بالتراث وبالتاريخ وبالحكاية الشعبية وبالأمثولة وبالحكمة وبالخرافة
والماضي، في وجدان المبدع الاحتفالي، هو دائما مجرد صورة، أو مجرد ذكرى، وأن هذه الصورة المتخيلة لا يمكن رؤيتها إلا في المرآة، والموجودة أمامنا وليس خلفنا، وهذه الاحتفالية لا تهتم بالماضي (الميت) وما يعنيها أكثر هو المستقبل الحي، وذلك في الأرواح الإنسانية الحية، وهي تراهن في إبداعها على الغد الآتي، وتؤكد على أن الغد يبقى غدا إلى ما لانهاية
إن العالم الاحتفالي هو عالم مفتوح من كل الجهات، وهو منفتح على المنتظر وعلى المتوقع وعلى اللامتوقع وعلى الغائب وعلى البعيد وعلى الغامض وعلى السحري وعلى الغرائبي وعلى العجائبي وعلى المتخيل وعلى الممكن وعلى المحال وعلى الحلمي وعلى الأسطوري وعلى الخرافي
الفلسفة الاحتفالية والاحتفالي المتفلسف
وهذه الاحتفالية هي أساسا فلسفة، وذلك بالمعنى العام للفلسفة، أي أنها أسئلة ومسائل وتساؤلات وتأملات وفرضيات واستقراءات ومقدمات نظرية، وما يميز الأسئلة فيها هو أنها لا تعكس وجهة معينة من المعرفة، ولكنها تحيل فقط على عشق المعرفة، وعلى محبة الحكمة،
وبخصوص علاقة هذه الاحتفالية بالفلسفة، يقول الاحتفالي في كتاب ( عبد الكريم وخطاب البوح ـ حول المسرح الاحتفالي) ما يلي ( في زمن اضطهاد الفلسفة والفلاسفة، كان صعبا على المتأمل أن يقول ( أنا فيلسوف) لأن هذه العبارة كانت تعني التفكير في الممنوع والمحرم، أما اليوم، وقد تغير الزمن، وتغير معنى الفلسفة، وأصبحت شيئا عاديا ومألوفا، وأصبحت مطروحة معانيها في الطريق العام، فقد أصبح بإمكان أي واحد أن يقول هذا القول، خصوصا وقد تم إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض، ولم يعد الفيلسوف هو من يقيم في الأبراج العاجية، متفرغا فقط للتأمل في المعاني المجردة، ولعل هذا هو ما قرب بين الشعر والفلسفة في القرن العشرين، وبين الفن والفلسفة أيضا، وجعل سارتر وكامي وعبد الرحمن بدوي وعزيز لحبابي يفكرون ويتفلسفون من خلال المسرحية والرواية، ومن خلال الشعر أيضا) (11)
وفلسفتي الاحتفالية ـ كما يقول الاحتفالي ـ هي (من روح الشعر، ومن روح الموسيقى، ومن روح الرقص، ولغتها قريبة من لغة الصوفيين، وفيها حس وحدس، وفيها تربية جسدية وروحية، وفيها ذوق وعشق، وهي تعلي من شأن العقل، ولكنها لا تؤلهه، وتؤكد على أن الإنسانية الحقيقة لا تدركها إلا المجتمعات السعيدة في المراحل التاريخية السعيدة، وإذا كان أفلاطون قد أقام جمهوريته بدون شعراء، فإن المدينة الاحتفالية لا وجود فيها إلا للشعراء والحكماء) (12)
يقول الاحتفالي على لسان شخصية من شخصياته المسرحية ( في الفن كل شيء ممكن يا أحبائي، ويجوز للفنان ما لا يجوز لغيره) (13)
والعالم المسرحي هو عالم شفاف، يمكن أن تراه من جميع الجهات، وفي معجمه لا وجود كلمة مستحيل، وكل شيء ممكن ومحتمل الوجود والأصل في هذا الذي نسميه الفن أنه مرآة سحرية عجيبة وغربية، وهو بهذا مرآة ماكرة وساخرة ومشاغبة وضاحكة على كل الأجساد الساكنة والمتحركة، وبهذا يمكن أن نقول بأن هذا الفن لا علاقة له بالطبيعية ولا بالواقعية، لأنه فعل فوق طبيعي وفوق واقعي، ولهذا نسب العرب الشعر قديما إلى الجن، وهذا نفس ما تقوله عيشة قنديشة الجنية في الاحتفالية المسرحية التي تحمل اسمها، والمسرحي لا يصور ما نراه، ولكنه يصور ما لا نراه وما لا نسمعه وما لا نعرفه وما لا ندركه، وفي هذا المعنى يقول الطيب الصديقي ” إن مفهومي للمسرح أيضا هو قناعتي بأن هذا المسرح هو أكثر الفنون سريالية، فالبطل الخائن يقتل، ويسقط صريعا، بعدها تنزل الستارة بعد نهاية المسرحية، بعدها يرفع الستار، وينهض الميت حيا ليؤدي التحية للناس والجمهور، ويصفق الناس على هذا الميت الحي. إن المسرح هو هذا التباعد وهذا التغريب بين الواقع والانفعال، بين الحقيقة الوهمية والحقيقة” (14)
هذه النزعة السوريالية، القائمة على التحدي والتجاوز وعلى الغرائبية، وعلى الإدهاش الممتع والمقنع، هي التي جعلت الاحتفالي يقول ( إنني لا أقدم هذا العالم كما يعيشه ويحياه الساكن المقيم فيه، ولكن كما يبدو في عين الراحل والمسافر والسائح الجوال، وبهذا كانت رسالتي غريبة، قليلا أو كثيرا، وكان كل شيء في عين كاتبها المغترب جديدا ومدهشا ومثيرا المنفى حررني من المألوف والمعروف، والغربة جعلتني أعيد اكتشاف نفسي واكتشاف الناس من حولي وتجديد هذه الكتابة الني تحملني وتحمل دهشتي وهذياني وجنوني، ولأن العين العاشقة ليست بريئة ولا محايدة، فإنني أخلع رداء الوسامة على هذه الدنيا، فهذه الأيام جميلة لولا غدرها، وهذه المدن ساحرة وفاتنة لولا أنها تطحننا وتقتلنا) (15)
بالنسبة للاحتفالية، فإن هذا الواقع يخفي الحقيقة دائما، وقد يصادرها في حالات كثيرة، وقد يخدعنا ويعطينا ما يشبه هذه الحقيقة، ويجعلنا نقتنع بأن صور هذا الواقع، أو ظلاله، أو مسخه، هي نفسها روح الواقع، وتراهن الاحتفالي على تجاوز الكائن دائما، بحثا عن الممكن ( انطلاقا من الإيمان بان الآتي هو الأجمل والأكمل دائما وان هذا الواقع مسكون بالزيف وأن الحقيقة تحتاج إلى الكشف والمكاشفة، وتحتاج إلى المعاناة الوجودية الصادقة) (16)
الاحتفال المسرحي : الاستثناء والقاعدة
والزمن المسرحي هو زمن عيدي واحتفالي بامتياز، وهو الأصل والقاعدة، وإن كل شيء، أو فعل، أو كل حالة، لا تتوافق مع هذه القاعدة الوجودية، فهو مجرد استثناء عابر وظرفي، أو هو مجرد نشاز في معزوفة الوجود والحياة.
وما يميز هذا الفعل المسرحي، المفتوحة واجهاته على كل الجهات؛ الظاهرة والخفية، والكائنة والممكنة واللاممكنة أيضا، أنه حاضر دائما، وأنه جديد ومتجدد، وأنه متمدد في النفوس وفي العقول وفي الأرواح الحية، فهو منفتح على الماضي الذي كان، والذي نظن أنه زمن كان ومضى وانتهى، ولكنه في الحقيقة لم يمض، وفي المسرح لا شيء يمضي بشكل كلي، ولا أحد يموت بشكل نهائي، وبهذا فقد كان هذا المسرح فنا خالدا بخلود الحياة، وكان متجددا بتجدد الأحياء فيه، وهو بهذا علم الحياة والأحياء، وهو فقه الوجدان الإنساني عبر التاريخ) (17)
إن هذا الإنسان ـ كما تراه الاحتفالية ـ هو أساسا حياة وحيوية، وهو حرية وتحرر، وهو حركة وطاقة محركة، وهو عقل وتعقل، وهو خيال وتدبر، وهو أحلام وشطح وعربدة وسفر وترحال، وهو بهذا غير قابل لأن يعتقل بين الجدران العالية، وهو أكبر من أي سجن، وأٍرحب من أي منفى، وليس ضروريا ـ بالنسبة لهذا الكائن الاحتفالي ـ أن يكون احتفاله مرتبطا بمكان محدد أو بفضاء معين أو بوجود الآخرين، أو حتى بوجود مناسبة، والأساس هو حالة التمسرح، والتي يمكن أن يعيشها ويحياها الإنسان خارج كل الأمكنة، وخارج كل الأزمنة، وخارج كل الظروف والسياقات، ولقد جسدت الاحتفالية هذا المعنى في مسرحية (الناس والحجارة) والتي استطاع السجين فيها أن يحتفل مع الناس، رغم غياب الناس، ورغم شرط الفرح، ورغم أن جسده كان معتقلا، فإنه روحه ظل حرا، وخياله ظل حرا، وفكره ظل حرا، واستطاع أن يعيد بناء العالم بشكل مختلف، وأن يعيد اكتشاف المدينة، وأن يعيد اكتشاف أخلاق الناس فيها، وكان هذا معناه أن أفكار المفكرين لا تحدها الحدود، تماما كما هو الخيال، وكما هي الأحلام، ولهذا نقول بأن الاحتفالية كانت أكبر من سجون الجائحة، وأنها كانت دائما حاضرة، وظلت تمارس فعل الحياة وفعل التفكير وفعل الاحتفال وفعل التعييد المشروع، وظلت مؤمنة بالحياة وبالحق في الحياة، وبالإنسان وبعبقرية الإنسان، ومقتنعة القيامة اليوم ولا غدا، ولقد سبق للاحتفالية أن أوضحت هذا المعنى في مسرحية (الدجال والقيامة)
إن الاحتفالية إذن، لم تكن في يوم من الأيام غائبة، ولقد ازدادت إشعاعا في ظل قانون الطوارئ، وحافظت على حقها في الوجود وفي الحضور، واستطاعت أن تخرج للناس رغم منع الخروج من البيوت ومنع الحضور ومنع التلاقي ومنع التقارب بين الأجساد
إن الأصل في الفعل المسرحي هو الخروج إلى الفضاء العام والمشترك ( وزيادة على أنه الخروج من الأنانية الفردية إلى (النحنية) الجماعية، فهو الخروج أيضا، من البيت الخاص، إلى البيت الجماعي العام، والذي يسع الجميع ولا يمكن أن يضيق عن أي أحد، هذا البيت المسرحي العام والمشترك والمقتسم، هو الذي كانت الثقافة المغاربية، والعربية بشكل عام، في حاجة إليه، تماما كانت في حاجة إلى الزمن المسرحي، والذي هو بالأساس زمن الحضور وزمن التلاقي العام، وهو زمن الاختلاف العاقل، وهو الحوار القائم على الإقناع والاقتناع، وهو أيضا زمن الاحتفال الجماعي بكل تأكيد، ولهذا فقد كان العيد الاحتفالي هو روح المسرح، وكان هو المؤسس لفعل التمسرح في أي مجتمع من المجتمعات) (18)
لقد اقتنع الاحتفالي بأن (أجمل وأنبل وأخطر ما في هذا المسرح، هو أنه عيد شعبي، مثله مثل الكرنفال وحفلات التنكر، ومثل كثير من الاحتفالات الشعبية العربية (الفطرية) والتي أسسها الإنسان الشعبي في الساحات العامة وفي الأسواق، والتي أعطى فيها لنفسه الحق في التعبير الحر، ونعرف مثل هذه الاحتفالات الفطرية والتلقائية، والتي اعتبرها بعض الباحثين إرهاصات مسرحية أو مقدمات مسرحية أو أنها ما قبل المسرح) (19)
وهذه الاحتفالات الشعبية لم تلتفت إليها الثقافة العربية العالمة، وأدرجتها في خانة الفلكلور، (وبهذا فهي لم تستعد اعتبارها إلا مع المسرح العربي الحديث، والذي أعاد تمثلها وقراءتها ومقاربتها فنيا وعلميا في ضوء الثورة العالمية للمسرح العالمي الحديث والمعاصر، والتي اهتمت بالمسرح الأنتربولوجي لدى كثير من الشعوب الأسيوية والأفريقية واللاتينية ) (20)
و ما الذي يحتاجه المسرح العربي؟
إن القبض على الفن المسرحي الحقيقي ـ بحسب الاحتفالي ـ (يحتاج إلى جرعة أكبر من الصدق والمصداقية ومن الحرية ومن الجرأة، ويتطلب معرفة الذات أولا، في هويتها المتعددة والمركبة والمتحركة، ومعرفة الآخر ثانيا، وذلك في علاقة هذه الذات بذلك الآخر، وهذه العلاقة لا يمكن أن تكون إلا صدامية، بغير عنف وبغير عدوانية، وهذا شيء طبيعي، مادام أن ذلك الآخر له فكره وله علمه وله فنه وله صناعته المسرحية المختلفة والمخالفة، وله سياقاته التي ساقت فكره وفنه وعلمه، كما أن الأمر يتطلب معرفة هذا الحاضر الكائن ثالثا، بكل أبعاده ومستويات ودرجاته وزواياه؛ الكائنة والممكنة، والظاهرة والخفية، وبالتأكيد فإن هذا الحاضر لم يأت من فراغ، وأنه أيضا لن يذهب باتجاه الفراغ، أو باتجاه العدم، وبهذا فهو ـ رابعا ـ تنبؤ أو هو توقع أو هو استشراف الزمن الآتي غدا، والممكن الوجود، وهذا الماضي ـ خامسا ـ له لغته الخاصة، وله أبجديته، وله معجمه، وله بيئته ومناخه، وله طقسه الخاص، وله أسراره الخفية، وله ألواحه وأسفاره التي ينبغي قراءتها من جديد بشكل جديد، وذلك في ضوء العلوم والفنون والصناعات الجديدة، ويعرف الجميع أن مقاربة هذا الجديد، في العلم المسرحي، يحتاج إلى تحديد (طبيعة ) هذه الذات،المبدعة والمتأملة والمجددة والمتجددة، وأن تكون هذه العلاقة الجديدة أكثر علمية وأكثر واقعية، وأن تكون في المقابل أقل إيديولوجية، وأن تبتعد بالقدر الذي تستطيع عن الشعبوية، وعن الشعوبية، وعن تمجيد الذات بالحق وبالباطل، كما يتطلب الأمر معرفة (طبيعة)علاقاتها بذاتها، وطبيعة علاقتها بالآخر سابعا، ومعرفة ثقافاته ولغاته وأعيده واحتفالاته ومؤسساته المختلفة، وكل هذا، بغير إحساس بالدونية أمام الآخر، وبغير جلد الذات، كما نجد لدى كثير من الباحثين والنقاد، وأيضا بدون عقد أمام الماضي الذي مضى، والذي أن نحمله أكثر مما يحتمل، أو أن نضيف إليه قيما قيمة مضافة ليست له
وبحسب الاحتفالي فإن المسرح هو أساسا فعل وانفعال وهو فاعلية زتفاعل، هو فعل الممثل الذي يخرج من جلده، ويخرج من ذاته، والذي يملك أن يتعدد أمام مرايا المسرح، ولأن يتمدد أمام مرايا التاريخ، وأن يتجدد أمام مرايا الواقع، وأن يكون أمامها وفيها وخلفها، وأن يتعدد بالأدوار الذي يلعبها، والمسرح أيضا هو الخروج من البيت، والذي قد يكون سجنا، أو يكون غربة، أو يكون منفى، وهو استعراض الجسد كذلك، وهو البوح الصادق، وهو المشاركة والاقتسام، وهو الحضور والتلاقي، وهو الكشف والاكتشاف وهو فعل المكاشفة، وهو اختراق الجدار الرابع، وكل الجدران الوهمية الأخرى، لمعرفة ما خلفها، وهو رفع الستار عن الأشياء وعن الأحداث وعن الأجساد وعن المواقف وعن الحالات الغامضة، وهو وضع كل شيء في دائرة الضوء، وهو التفكير الجماعي، وبصوت مرتفع، وهو المناجاة والحوار مع الذات في المونودراما، وهو الحوار مع الآخرين ومع المجتمع في الدراما) (21)
عن الاحتفالي وشبيه الاحتفالي
وهذا الاحتفالي، الجديد والمتجدد، والعاشق لفعل التجديد، هو الذي قال ـ ويقول دوما ـ مع أبي منصور الحلاج:
إني يتيم ولي أب ألــوذ به قلبي لغيبته ما عشــت مـكروب
أعمى بصير، وإني أبله فطن ولي كلام ـ إذا ما شئت ـ مقلوب (22)
والشعر، باعتباره عيد اللغة، أو هو الاحتفال باللغة، هو الكلام المقلوب في هذا العالم المقلوب دائما، والشاعر فيه هو ذلك الساحر الذي له عالمه الخاص، والذي يجوز له ما لا يجوز لغيره، وهو عالمه الشعري والسحري يعيد ترتيب الناس والأشياء، ويعيد ترتيب الأفكار والصور والحالات، ويعيد لها نظامها وجمالها وتناسقها وتناسقها وغرابتها وكل الأشياء الضائعة والمضيعة فيها، والأصل في الفن السحري، والذي يسمى المسرح، هو أنه ذلك القناع المؤقت، وتلك الأزياء المؤقتة، وذلك في اللعبة المسرحية الاحتفالية المؤقتة، والذي يسعى لأن ينزع عن المجتمع وعن الحياة وعن الأحياء كل الأقنعة الكائنة والممكنة، وأن يعيد لها حقيقتها وكل جمالياتها المصادرة
ووجود هذا الاحتفالي السوريالي ـ في كون الاحتفالية العجيب والغريب ـ هو وجود صادق وتلقائي ومتحرك ومتجدد وشفاف دائما، وقد يكون في حقيقته الخفية وجودا قدريا مكتوبا في اللوح المحفوظ ونحن لا ندري، وبالتأكيد فإن فعل الانتماء إلي روح هذه الاحتفالية ليس اختيارا كما قد يظن البعض، فهو أساسا فعل انتماء، مثله مثل انتماء الإبن إلى أمه، ولا أحد يختار أمه، وهو مثل اختيار المواطن لأرضه وإلى وطنه ولزمنه ولثقافته وللغته ولمناخه أيضا، وفي رحم هذا الانتماء توجد قناعة قد تصل حد الإيمان، ومثل هذا القناعة لا يمكن أن تكون إلا كاملة وتامة وغير منقوصة، لأنه لا يصح أن تؤمن ببعض الكتاب وأن تكفر بالبعض الآخر منه، أو أن يكون ( الاحتفالي) في هذه الاحتفالية نصف احتفالي، أو يكون ربع احتفالي، أو أن يكون فيه فقط شيء من رائحة الاحتفالية أو من ظلالها أو من أصدائها، إن الأمر إذن يتعلق باقتناع روحي قبل كل شيء، وباقتناع وجداني أيضا، وباقتناع فكري، وباقتناع أخلاقي، أما الموجود فيها خطأ ـ وهو حالة نادرة جدا ـ فإنه لا يمكن أن نعول عليه، وهو الشاذ في فلسفتها، وهو النشاز في معزوفتها، وهو الاستثناء الذي لا يلغي القاعدة الأساسية والمحورية فيها، ونعرف أن الاستثناء لا حكم له أو عليه، وقد تكون هناك أسماء لبست الزي الاحتفالي، أو القناع الاحتفالي، في مرحلة من المراحل الاحتفالية، أو في عمر من أعمارها، وذلك ضدا في الحق والحقيقية، وضدا في الواقع والواقعية، ووضعت على وجهها القناع الاحتفالي، وذلك في زمن محدد ومحدود، ولكن الحفل التنكري والكرنفالي له زمنه المحدد والمحدود، وهو لا يمكن أن يستمر العمر كله، وهو لحظة عابرة من عمر الزمن اللامتناهي، ثم تنتهي اللعبة، وتعود الوجوه إلى أجسادها الحقيقة، وتعود كل الأجساد المتنكرة إلى أرواحها الحقيقية
والمواطن الاحتفالي ـ في الوطن الاحتفالي ـ له ملامحه المميزة بالتأكيد، ومن ضمن كل البيانات الاحتفالية هناك بيان خاص يحمل عنوان ( ما معنى أن تكون احتفاليا؟) وهو من ضمن البيانات التي تضمنها كتاب ( البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة) والذي صدر عن الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، وفي ها البيان يتم التأكيد على أن الاحتفالي هو أساسا رؤية ورؤيا، وأنه موقف فكري والتزام أخلاقي، وأنه قناعة فكرية وجمالية، وأنه حضور متجدد في الزمن الجديد والمتجدد، وأنه قناعة وحرية
والاحتفالي الحقيقي ـ في معناه الحقيقي ــ هو ( أن تكون حيا بشكل حقيقي، وألا تكون آلة متحركة، أو مجرد لولب صغير في آلة بشرية كبيرة، وأن تكون قادرا على أن تعرف معنى الحياة، وأن تقدر قيمتها حق قدرها، وأن تعيش هذه الحياة بصدق وشفافية، وأن تكون مدركا بأن هذه الحياة أمانة، وأن عليك أن تصونها، وأن تحافظ عليها، وأن تقاوم من أجلها كل أعداء الحياة، وأن تكون بالضرورة في صف الغنى ضد الفقر، وأن تكون في صف الجمال ضد القبح، وان تكون في صف العلم ضد الجهل، وأن تكون في صف الصحة البدنية والنفسية والذهنية والروحية، وذلك في مقابل كل الأمراض والأعطاب التي تصيب الأفراد والجماعات والمجتمعات، وتصيب بعض المراحل التاريخية المختلفة والمتخلفة ) (23)
إن الاحتفالية ـ في معناها الحقيقي، هي نظام وجود قبل كل شيء، هي نظام سهل وبسيط بنزعة إنسانية ومدنية، والناس فيها لا يختارونها، ولكن هي التي تختارهم، وترشحهم للدفاع عن الحياة والحيوية وعن الإنسان والإنسانية، وعن المدينة والمدنية، وعن الجمال والجمالية، وعن الحرية والتحرر، وعن البهاء والسخاء، وبخلاف ما قد يعتقد بعض النقاد فإن هذه الاحتفالية ليست بيتا في ملكية واحد من الناس، وليست كنيسة ولا معبدا، ولكنها فضاء مفتوح على الأرض والسماء، وهي بهذا بلا باب وبلا بواب، ومن هداه قلبه إليها، فليدخل، ومن لم يجد نفسه مرتاحا فيها، فبإمكانه أن يخرج منها، وهي مع الوضوح التام، ومع الشفافية الكاملة ومع المواقف الواضحة والصريحة، وهي بهذا ضد المواقف الغامضة والملتبسة، وضد المواقف الرمادية الخائفة والهاربة والمهرّبة، وعليه، فإنه لا يصح أن تكون احتفاليا مع الاحتفاليين في زمن الرخاء، وأن تكون ضدها ومع خصومها في زمن الشدة
الاحتفالية المتجددة والاحتفالي المجدد
هذا الاحتفالي هو الغريب في العالم الغريب، وذلك في الوطن الغريب، وفي الزمن الغريب، وفي الكون الغريب والعجيب، وهو عاشق لروح الغربة لغربة، عندما لا تكون هده الغربة عزلة، أو تكون انعزالا ، أو تكون سجنا، أو تكون منفى، أو تكون إقصاء، وهو ذلك العاشق المتيم بجماليات الغرابة، خصوصا عندما تكون هذه الغرابة في درجة السحر الحلال، ويكون لهذا السحر معنى الإدهاش ومعنى الإعجاز، وتكون بذلك تخيلا وحدسا صوفيا، ويكون لها معنى الوصول إلى ما بعد العلم وإلى ما بعد المعلومات والمدركات المادية المحسوسة والملموسة
والعالم الاحتفالي هو عالم ما فوق واقعي وما فوق طبيعي، وبهذا فقد كان عالما مثيرا ومدهشا ومستفزا للعقل، وكان مؤسسا للسؤال، وكان محرضا على التخيل وعلى التصور وعلى التفكر وعلى التدبر، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي، وذلك في بحثه ـ في نفسه عن نفسه ـ وفي بحثه عن فكره وعن علمه وعن الناس، يقول ( في نفسي لا وجود إلا للناس، وعندما تفتح هذا الكتاب ـ أو ذاك ـ ستلقى كثيرا من الأسماء، وكثيرا من الوجوه، وعندما يرفع الستار، ستجد نفسك أمام الناس، وستدخل العالم من جديد، وستولد ولادة أخرى جديدة، وستعيد اكتشاف ذاتك، واكتشاف هذا الكون، وستعود إليك دهشتك الأولى، دهشة الطفل البريء، وستقبض على السر .. سر الناس، وسر الأشياء، وسر الكلمات، وحتى كلمات السر، والتي تفتح (لك) الأبواب لتعرفها، وستدرك سر الخلق والمخلوقات وسر التاريخ والشخصيات وسر هذه اللحظة الهاربة) (24)
وهذا لاحتفالي، يجد معادله في عبد السميع، أي ذلك الطفل الذي لا يكبر، والذي لا يشيخ، والذي لا يكف عن اللعب، ولا يتوقف عن السؤال الغريب، ولا عن الشغب البريء
وفي ( بيان طنجة للاحتفالية المتجددة) والذي هو أحد البيانات المؤسسة لكتاب ( البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة) يقول الاحتفالي، معرفا بنفسه وبفلسفته في الفن والحياة:
( إنني لست ساحرا ولا عرافا، ومع ذلك فإنني مفتون بالسحر والمعرفة والحكمة، وأعترف بأنني ضعيف أمام الكلمة الساحرة، وأمام المعاني الساحرة، وأمام الأشياء الساحرة، وأمام الأفعال الخارقة، وأمام الصور المدهشة، وأمام الحركات التي تعيد ترتيب المعاني والأشياء في الطبيعة والواقع، وفي الفن والفكر، وفي العلم والصناعة، وإنني لا أبحث في يقظتي ومنامي إلا عن إعجاز هذا السحر المدهش، وإنني أبحث عنه في عالم ضيّع روح السحر، وأبحث عنه في المكان وفي اللامكان، وأبحث عنه في الزمان وخارج كل الأزمان، وأعرف أن السحر الحقيقي لا يأتي إلا من بعيد، وأنه يظل دوما ذلك الشيء الغامض والملتبس واللامحدد الملامح، والذي لا يراه الراءون إلا من بعيد، وأعرف أنه لا سحر إلا في الغربة والتغريب، وانه لا شيء جديد إلا في عيون الغرباء، وأغرب كل الغرباء هو من يأتينا من بعيد جدا، أي من المكان الذي لا نعرفه، ومن الزمن الذي لا ندريه، وبذلك كانت الشخصيات الأسطورية هي الأقرب إلى الأدب والفن، لأنها الأقرب إلى روح الإبداع السحري، ولأنها تل شخصيات غريبة وعجيبة، ولأنها تظل مثيرة ومدهشة، ولأنها فوق الطبيعة وفوق الواقع) (25)
هذا الاحتفالي موجود دائما عند ملتقى الأضداد، وبهذا فقد كان دائما خارج التوصيف والتصنيف، وهو موجود عند ملتقى النور والظلمة، وعند ملتقى الوجود والعدم، وعند ملتقى المحسوس والمتخيل، وهو مؤهل لأن يكون ممثلا مسرحيا لكل الأدوار المعروضة عليه، أو المفروضة عليه، وأن يكون له وجود في كل مسرحيات الوجود، وأن يكون بطلا وليس مجرد كومبارس، وأن يكون له في كل مقام مقال، وأن يكون له لكل حادث حديث، وأن تكون في كل حالة لغة، وأن يكون له أمام كل مسألة سؤال، وأخطر كل أسئلته سؤالان اثنان هما: سؤال الوجود وسؤال الهوية، أي أكون أو لا أكون أولا؟ ومن أكون ومع من أكون ثانيا؟
وهو في كل أدواره الوجودية والمسرحية لا يبحث إلا عن نفسه وعن حقيقته وعن عالمه وعن كونه وعن لغته وعن مدينته الفاضلة الممكنة الوجود، فهو الإنسان الذي يبحث عن درجة إنسانيته، وهو الحي العاشق للحياة والحيوية، وهو المواطن المدني الباحث عن الاحتفال والعيد، هذا الإنسان ـ المواطن الاحتفالي هو نصف عالم ونصف جاهل، وهو نصف عاقل ونصف مجنون، وهو نصف صانع ونصف فنان، وهو نصف مؤرخ ونصف حكواتي، وهو نصف حاضر ونصف غائب، وهذا الاحتفالي، الباحث عن الغرابة المثيرة والمدهشة، هو الذي قال :
( من طبيعة الشيء العادي أنه لا يحرك فينا إلا الإحساس العادي، وليس هذا هو مطلبي في الفن والأدب، وفي الفكر والمسرح، وأعرف أن الأفكار المسطحة لا تنفذ إلى العقل، ولا تصل إلى القلب والروح، وكل سؤال لا يستفزني، ولا يحرجني، ولا يخلخل مفاهيمي، لا أعول عليه ) (26)
من الحفل والاحتفال إلى العيد والتعييد
في البدء، كان الاحتفاليون يتحدثون عن الحفل والاحتفال، ثم من بعد ظهر مصطلح جديد هو مصطلح التعييد، من غير أن يتخلوا عن المصطلح الأساس، والذي هو الاحتفالية، ولقد ارتبط هذا التطور في البداية بظهور كتاب عنوانه ( فلسفة التعييد الاحتفالي) وفيه محاولة للارتقاء بالاحتفالية إلى درجة الفلسفة
يقول الشاعر والمفكر صلاح بوسريف في ركنه الصحفي بجريدة ( المساء ) المغربية، بخصوص معنى الاحتفال ومعنى روح الاحتفال ما يلي:
( جميل أن نحتفل، ونبني حياتنا على الحفل والاحتفال، الاحتفال ابتهاج، وهو تعييد بتعبير الصديق عبد الكريم برشيد الذي ما فتئ في بياناته المسرحية تؤكد على هذا المعنى الاحتفالي، لكن، متى نحتفل وكيف وفي أي ظرف أو سياق، أو في أي مجال من المجالات والظروف الاجتماعية والثقافية التي يمكن أن تسمح لنا بالاحتفال؟) (27)
الأخطر إذن، من سؤال معنى الاحتفال، الأسئلة الأخرى، الخفية والمضمرة فيها، والتي تكمل معنى حقيقة فعل الاحتفال، ومن هذه الأسئلة بالتأكيد ما أتى به الشاعر صلاح بوسريف، ويمكن أن نلاحظ أن النقد المسرحي، الغربي والعربي، قد وقف فقط عند معنى الاحتفال، ومعناه المعجمي تحديدا، ولم يتعداه إلى المعنى الاصطلاحي، واكتفى بأن يعرف مظاهر الاحتفال الطقوسية الظاهرة، من غير أن يبحث في فلسفته، وفي سيكولوجيته، ومن غير أن يسأل: من الذي من حقه أن يحتفل؟ المنتصر وحده فقط، أم كل الناس الأحياء في الحياة؟
نعم، هو جميل أن نحتفل، وضروري بكل تأكيد أن نحتفل، وأن نعبر عن وجودنا وعن حيانا وعن حيويتنا وعن هويتنا الثقافية بالاحتفال، وفعل هذا الاحتفال ـ في معناه الحقيقي ـ هو فرض عين، على كل إنسان حي، لأن الموتى فقط هم الذين لا يحتفلون، ولا يعيدون، فبالاحتفال وحده إذن ، يكون من حق الإنسان المفكر أن يقول: أنا موجود أولا، ويقول أنا حي ثانيا، ويقول أنا مختلف ثالثا، ويقول أنا سعيد ومبتهج رابعا، ويقول أنا منتصر في معركة الوجود وفي معركة الحياة خامسا، ويقول أنا إنسان جديد ومتجدد في عالم لا يتوقف عن التجدد سادسا
إن الاحتفال ـ في معناه الحقيقي ـ هو فعل ثقافي، والإنسان أساسا هو كائن اجتماعي ثقافي، وبحسب صلاح بوسريف فإن ( الثقافة في جوهرها احتفال، ولكنه احتفال بمعنى البهجة والسرور، متى استطعنا أن نجعل من الثقافة شأنا عاما يعني الجميع، أو يعني شرائح واسعة وكبيرة من المجتمع، خصوصا الشبان، من يكونون انخرطوا في الشأن الثقافي باعتبارهم قراء وجمهور سينما ومسرح ومعارض تشكيلية، ومحاضرات وندوات وموسيقى ، ومهرجانات، ومعارض الكتاب، يقبلون على المكتبات العامة والخاصة، ويشاركون في الجمعيات وفي المؤسسات الثقافية والفنية، وفي كل ما يتعلق بالموسيقى في معناها الراقي الذي هو تهذيب وتثقيف للإحساس والذوق وتربية على الجمال ) (28)
الاحتفالية: الحركة والتوازن
كل الأجساد تحافظ على توازنها بالحركة، سواء أكانت هذه الأجساد مادية أم رمزية، وعندما تتوقف هذه الأجساد عن الحركة تسقط، وهكذا هي دراجة أينشتاين، وهكذا هو جسد الاحتفالية أيضا، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي ( هناك علاقة بين الحركة والتوازن بكل تأكيد، وكل الأجرام الكونية ثابتة في مداراتها لأنها أساسا متحركة، وهذا ما تعبر عنه دراجة أينشتاين، والتي تحافظ على توازنها عندما تسير، وتسقط عندما تتوقف عن الحركة، وكذلك هي الحياة والتي تحيا بالحركة، وتموت بالسكون والثبات، وهل تكون الاحتفالية ـ والتي هي أساسا حياة وحيوية ـ إلا صورة مصغرة لأمها الحياة، والتي هي حركية دائمة، وهي جديدة ومتجددة على الدوام ؟) (29)
ولقد أكدت الاحتفالية على الحضور دائما، تماما كما (أكدت على الفعل والفاعلية، وأكدت على الحركة حتى تجدد طاقتها الحيوية، وحتى تضمن لمشروعها الفكري والجمالي موقعا في الجغرافيا وفي التاريخ) (30)
اللحظة الحية والجديدة والمتجددة والتي تخاصم كل اللحظات الميتة والمحنطة، وهو الزمن الذي يتحدى الزمن، وبذلك فقد استحق أن نقول عنه هو سلطان الأيام وسيد وأصدق كل الأزمان، لأنه يوم الفرح، وهل هناك شيء يمكن أن يكون أصدق من الفرح الإنساني؟
إن التحدي إذن، هو روح العيد، وهو جوهر فعل العيد، ولعل أكبر وأخطر ما يتحداه هذا الفعل الاحتفالي هو التكرار، وهو الاجترار، وهو الملل، وهو السأم، وهو الفراغ، وهو الخواء، وهو الخوف، وهو القلق، وقد يصل هذا التحدي ـ في حالات كثيرة ـ إلى درجة ما بعد الموت، ليكون له معنى الشهادة، وليكون يلون وذوق وبكل أبعاد الخلود
ونفس هذا الاحتفال أيضا، يمكن أن يتحدى المكان، وأن يتجاوز الطيعة، وأن يخترق الواقع، وأن يكون فعلا ما فوق طبيعي وما فوق واقعي، وأن يكون بهذا فعلا متخيلا في اللامكان أو خارج كل الأمكنة المادية المحسوسة والملموسة والمحسوسة، وأرفع درجات الاحتفال هي درجات العقل ودرجات الوجدان ودرجات الروح، أما أسوأ الدرجات فيه فهي درجات الحس، والتي قد تكون تعبيرا برانيا كاذبا وخادعا ومزيفا
الاحتفال بين الحضور والغياب
نحن الأحياء جميعا، في دوامة هذه الحياة، لا نبحث إلا عن شيء واحد أوحد، والذي هو لحظة فرح حقيقية وصادقة، وذلك في حياة إنسانية صادقة وحقيقية؛ هكذا يقول الاحتفالي في الأدبيات الاحتفالية، ونعرف أن هذه اللحظة الصادقة لا يمكن أن يكون لها وجود إلا في الاحتفال الإنساني والمدني والحيوي والعفوي الصادق، ويؤمن الاحتفالي أن شرط هذا الاحتفال يتمثل دائما في الحضور، وأن أصدق الحضور وأجمله وأنبله دائما، هو الذي يأتي في الموعد المتفق عليه، أو المتوافق عليه، ليس قبله ولا بعده أو خارج شرط أو سياقه، وهل هذا الذي نسميه العيد ـ في معناه الحقيقي ـ إلا موعد في التاريخ؟ هو موعد مع أجمل الناس ومع أجمل الساعات ومع أجمل العلاقات ومع أجمل الحالات ومع أجمل لرهانات ومع أجمل وأصدق الاختيارات، وهو موعد له زمنه الخاص، وله مكانه، وله مناسبته، وله طقسه، وله مناخه، وله موضوعه، وله مضمونه، وله لغاته، وله شبكة علاقاته الإنسانية، وله رسائله أيضا، ومع فعل هذا الحضور يتم التواصل، ويتحقق فعل التلاقي، ولعل أسوأ ما يخشاه المواطن الاحتفالي هو الغياب، ولعل أسوأ درجة في هذا لغياب، هي درجة التغييب القسري، والذي قد يمثله القتل، المادي أو المعنوي، والذي قد يكون لأسباب ( منطقية) أو لأسباب عبثية، والذي قد يتم تنفيذا لأوامر عليا غامضة ومبهمة وملتبسة، أو استجابة لإرادة حمقاء ومستبدة خارجية
وتنبه الاحتفالية إلى أن فعل هذا التلاقي الجميل قد يتم تحريفه وتشويهه ومسخه، وذلك لحسابات برانية، غير إنسانية، وغير مدنية، وغير فكرية، وغير علمية، وغير جمالية، وغير أخلاقية، ويخشى الاحتفالي ( أن يتحول هذا التلاقي إلى التلقي، وأن يكون لهذا التلقي معنى التلقين، وأن يكون أحد الطرفين فيه فاعلا، ومؤثرا، ومبدعا، ومغيرا، ومصدرا، ومخططا، وأن يقتصر دور الطرف الثاني على التفرج والتأثر وعلى الاستهلاك واستيراد الجاهز والمعلب والمفبرك؛ المفبرك في الصناعة والفن والفكر والسياسة والاقتصاد، وأن يكون هذا الإنسان ـ الذي ضيّع إنسانيته ـ أرقاما بلا دلالة، وبلا معنى، وذلك في الحسابات الجديدة) (31)
من نحن وأين نحن ومع من نحن؟
من يكون الاحتفالي، وهل له فعلا وجود؟ وما هي طبيعة هذا الوجود؟ وما هي حدوده الظاهرة وحدوده الخفية؟
عن هذا السؤال المركب تجيبنا اليوم مرآة التاريخ، والتي هي مرآة سليمة وصادقة، وتشهد على هذا الوجود ظلال جسدها، وأصداء أصواتها، ورود الفعل على أفعالها
هو احتفالي حتى النخاع، هكذا يردد تاريخ الآداب والفنون وتاريخ الفكر المعاصر، وتتجلى احتفالية هذا الاحتفالي في كل ما يتصل به، وتشير إليه احتفالاته وأعياده وأخلاقه وتقاليده وذاكرته وتاريخه وعلاقاته ونظام عيشه وآدابه وطبيعة علاقاته الاحتفالية بكل الناس وبكل الأشياء وبكل الأمكنة وبكل الأزمنة وبكل الأفكار الحية
بالتأكيد هو كائن طبيعي حقيقي، وليس كائنا افتراضيا في الزمن الافتراضي، وهو كاتب مدني، ديمقراطي، ليبرالي،
وما هو موقع هذا الاحتفالي داخل خرائط الفكر والعلم وداخل خرائط الفن والسياسة؟
وما هي إسهاماته الفكرية والعلمية والجمالية؟
بالتأكيد، فنحن لسنا من ( أولئك الذين يرحلون إلى الأدنى ويقنعون بذلك، ويرونه أعز ما يطلب) 32
والحياة بالنسبة للاحتفالية حلبة في سعة الوجود، والسباق فيها ليس اختياريا، ونحن كلنا مجبرون على أن نجري، وهو بهذا سباق مارطوني غير محدد ولا محدود المسافات، وهو في حقيقته سباق ضد المكان وضد الزمن، وليس ضد أي أحد، أو ضد أية جهة من الجهات،
والأصل في المبدع الاحتفالي أنه لا يقنع ( بما دون النجوم) وهو في حياة المسرح وفي مسرح الحياة يعيش ويحيا بالتجريب الحي وفيه، وهو يمارسه انطلاقا من فرضيات نظرية، وذلك داخل مختبرات الأيام والأعوام المفتوحة، وهو في فعله التجريبي هذا لا يكف عن السؤال وعن التساؤل، ولا عن الكشف والمكاشفة، ولا التحدي والتصدي، ولا عن الشغب والمشاكسة، وهو في حياته اليومية لا يبحث إلا عن حياته وعن حياة فنه وعن حياة مجتمعه علمه وعن حياة فكره، وهو لا يكف لحظة عن البحث عن العيد، وعن فعل التعييد في هذا العيد، كما أنه لا يتوقف لحظة عن السعي نحو تأسيس لحظة فرح صادقة، ,وأن يتم هذا الفعل ويكتمل في ذلك العيد الممكن الوجود غدا، وهو أساسا فاعل مسرحي يسعى لإحداث ثورة حقيقية في عالم المسرح، وذلك بحثا عن أكثر اللغات المسرحية قربا من الحق والحقيقة، وأكثرها قربا من الجمال والكمال، وأكثرها قربا من روح الحياة ومن نبع الوجود والموجودات، وأكثرها قربا من وجدان ومن عقول ومن نفوس ومن أرواح الناس الأحياء في الزمن الحي
هو كائن مشاء دائما، وذلك فوق أرض تمشي، وداخل زمن يمشي، وهو سندباد مهنته السفر والترحال والتجوال، وذلك بحثا عن مدينة احتفالية حقيقية، وعن مجتمعات احتفالية، وعن أنظمة سياسية احتفالية، وعن علوم وفنون وأنظمة فكرية احتفالية بشكل حقيقي
هذا الاحتفالي، قد لا يكون، بفنه وعلمه وإبداعه كاملا، ولكنه يعشق الجمال والكمال، وهذا يكفي، وهو يسعى لإدراك هذا الكمال، في الفن والحياة معا، أو الاقتراب منه فقط
والرهان الأكبر والأخطر، بالنسبة للاحتفالي، هو الرهان على الأعلى وعلى الأبعد وعلى الأصعب وعلى الأغرب وعلى الأكثر إقناعا فكريا، وعلى الأكثر إمتاعا فنيا وجماليا
وما هذه الاحتفالية، في معناها الحقيقي، إلا فكرة في عالم الأفكار الحية والجديدة والمتجددة، وهي أساسا فكرة مفكرين من أهل هذا الزمان، والذي هو زمن الفكر والعلم وزمن الكشف والمكاشفة وزمن الاختراع والابتكار، وزمن الإدهاش والإبهار، وأنها، في معناها الحقيقي، اجتهاد مجتهدين صادقين، وأنها أيضا، مسيرة سائرين، وأنها مقصد قاصدين، وأنها عشق عاشقين، وأنها اندهاش مندهشين، وأنها نبوءة متنبئين.
ويبقى السؤال، الأكبر والأخطر، في نفس الاحتفالي وعقله، هو التالي:
هذه الفكرة الأولية والمحورية والأساسية، والتي تولدت عنها أفكار كثيرة ومتنوعة، من أين جاءت؟ وكيف جاءت؟ ومن الذي جاء بها؟
جوابا على هذا التساؤل المركب يقول الاحتفالي: هي جاءت من المستقبل، وأخطر كل الأفكار وأصدقها هي التي تأتي من أعماق المستقبل، وقدر كل الأجساد الحية، والتي تأتي من المستقبل، أن تكون جديدة، شكلا ومضمونا، وأن تكون مثيرة ومدهشة، وأن تكون مستفزة وصادمة، وأن تكون غريبة وعجيبة في بداياتها الأولى، وكذلك كان الأمر بالنسبة للفكرة الاحتفالية، والتي خالفت المعروف، وقفزت على الكائن، وبشرت بالممكن وبالمحتمل، وبما ينبغي أن يكون، ولقد أكدت هذه الاحتفالية على أن أفكار الموتى ـ وحدها ـ هي التي من الماضي، أما الآتي الحي، فله بالتأكيد أفكاره الحية الأخرى
والسر في أن تظل هذه الاحتفالية الحية، على قيد الحياة، ولحد هذا اليوم، هو أن نهر أفكارها دائم الجريان، وأن هذا النهر ينبع من أمامها وليس من خلفها، ومن الأعلى إلى الأسفل وليس العكس، وبهذا إذن، فإن الاحتفالية الحقيقية، ليست هي تلك التي كانت، ولكمها تلك الاحتفاليات الحقيقية الأخرى، التي سوف تأتي مع الزمن الآتي
ويؤكد الاحتفالي دائما على أن ( الشيء في الاحتفالية، لا ينظر إليه في سكونيته ولكن في حركيّته ) وللاحتفالية حدان اثنان (هما) حد الكائن وحد الممكن) (33)
واخطر ما تعيبه الاحتفالية على كثير من الأدباء والفنانين والمفكرين الفنانين هو النمطية وهو المدرسية وهو الاستعراض وهو الاستظهار وهو التكرار وهو الاجترار وهو القوالب وهو التخندق في الخنادق الحزبية والسياسية، وهو القواعد والقوالب التي لا تسمح بإيجاد الجديد المدهش
والأفكار الاحتفالية كانت دائما صريحة، وكانت واضحة، ولم تلجأ إلى التقية، ولا إلى المراوغة، وإلى لغة الخشب، وعن سؤال (وهل تعرضت أفكارك للمنع يوما؟)
نجد الاحـتفالي يقول (وهل الأفكار تمنع؟ ومن بمقدوره أن يمنعها؟ وكيف يمنعها وهي نار ونور، وكيف يقبض عليها وهي جمر ملتهب؟
ــ بعض الحمقى يحاولون فعل ذلك دائما ..
نعم، وقد حاولوا منع أفكاري وقمعها واعتقالها، ولكنهم لم ينجحوا في مسعاهم البائس والتعس.. وقد ذهبوا اليوم إلى حيث لا يمكنهم الرجوع..) (34)
هذه الاحتفالية تيار: بأي معنى؟
نعم، هو تيار بكل تأكيد، اسمه التيار الاحتفالي، ويبقى أن نعرف أن ما يميز هذا التيار الاحتفالي، هو أنه ليس تيارا هوائيا، آتيا من الشرق أو من الغرب، وأن يكون هذا التيار الهوائي نسيما هادئا، أو يكون عاصفة هوجاء، ومن يدري، فقد يكون في حقيقته الحقيقة تيارا مائيا، ويكون بذلك نهرا من الأنهار التي تجري، والتي لها منبع في الأعالي، والذي قد يكون السحاب، وقد يكون القمم الشاهقة، ولهذا النهر الاحتفالي مجرى مرسوم في عالم المعرفة والجمال، وفي خرائط الفن والفكر والإبداع والعبقرية، وله أيضا وجهة يتجه إليها أو ينجذب نحوها بفعل سحرها، وله كذلك مياه متدفقة ومتجددة بشكل دائم ومتجدد، وفي هذا النهر الاحتفالي يلتقي الطين والماء، ويتعايش السكون مع الحركة، فهو هو نفسه، مهما طال الزمن، ومهما طالت رحلته، ومهما تغيرت التضاريس فيه وأمامه، ويبقى دائما، في سيره ومساره، وفيا لذاته ولمنبعه ولموقعه ولموقفه ولمساره الفكري والجمالي والأخلاقي، ولكن حالاته ومقاماته متغيرة بكل تأكيد، وهي لا تستقر على حال، وذلك بحسب عوامل ذاتية وأخرى موضوعية ومناخية وفكرية وعلمية وجمالية كثيرة جدا، ولهذا، فإنه من الضروري أن نؤكد على الحقيقة الأساسية التالية، وهي أنه لا أحد ينزل نهر هذه الاحتفالية مرتين، ولا أحد يمكن يستحم في مياه هذا النهر الجاري، مرتين، ولا أحد من حقه أن يقول بأنه يعرف هذه الاحتفالية معرفة كاملة ونهائية، وماذا يمكن أن يعرف فيها؟ سطحها الظاهر أو عمقها الخفي؟ كائنها الحاضر أم ممكناتها الغائبة؟ وبهذا فإن هذه الاحتفالية، قد كانت دائما ـ وسوف تبقى ـ وفية لثوابتها، ولكن المتغيرات فيها لا تتوقف لحظة عن التغير وعن التحول وعن التجدد
وللذين يتوقعون أن تتراجع الاحتفالية عن رؤيتها العيدية للوجود، وأن تكفر بسيرها ومسرتها ومسارها وبتاريخها، أقول ما يلي، إن من طبيعة الأنهار أنها تجري باتجاه البحر، حتى تكون أكبر وأرحب وأغنى، وأن تكون وجهتها الحقيقة الموجودة أمامها، وليس وراءها، ولا وجود من بين الأنهار الحية نهر يمكن أن يمشي إلى الخلف، وكذلك هو النهر الاحتفالي، والذي هو في الأصل فكررة بصورة نهر أفكار، وعندما يصب هذا النهر الاحتفالي في البحر، فإنه لابد أن يكون من حقه أن يقول (أنا البحر) بدل أن يقول ( أنا النهر) وبهذا فإن احتفالية اليوم غير احتفالية الأمس، وهي بهذا اليوم أوسع وأرحب وأكثر تأثيرا وأكثر فاعلية، وأكثر إقناعا وأكثر إمتاعا، وأكثر إثارة وأكثر إدهاشا
الاحتفالية والهجرة إلى..
وأبرز ما يميز هذا التيار الاحتفالي هو الحركة، وهو فعل الانتقال، وهو الهجرة باتجاه الجمل والأكمل والأنبل في الوجود، وهذا التيار الاحتفالي هو أساسا صناعة إنسانية، وقد أوجدته العبقرية الإنسانية، وانتقلت به من مكان إلى كل الأمكنة، ومن زمان كان إلى كل الأزمنة الآتية غدا وبعد غد، ونعرف أن من طبيعة هذا الإنسان المؤسس للعلم والمعرفة والفن أنه كائن مهاجر في الأرض، مثله مثل الطيور التي في السماء والتي هي أيضا تهاجر، وذلك بحثا عن عوالم أخرى وعن مناخ آخر، وعن علاقات أخرى، وهكذا هي الهجرة الاحتفالية، فهي انتقال من فكرة إلى فكرة أخرى، تكون أكبر منها وأوضح منهها وأجمل منها وأصدق منها، وتنتقل من عالم مألوف ومعروف إلى عالم جديد غيره، والهجرة أساسا هي فعل لتحدى، وبه وفيه يتحدى الإنسان سكونية المكان وسكونية الصور وسكونية الأشياء، وما يميز هذا التحدي، أنه أساسا حرية وأنه رغبة وعشق في التحرر، وذلك من محدودية المكان ومن محدودية ثقافته وممن محدودية علمه ومعارفه، وتؤمن الاحتفالية بأن ما لا يوجد هنا يمكن أن يوجد هناك، وأن ما هو غائب لدينا يمكن أن يكون حاضرا لدى الآخرين هناك، في الأمكنة الأخرى وفي الأزمنة الأخرى وفي الثقافات الأخرى وفي اللغات الأخرى وفي الظروف الأخرى وفي المناخات الأخرى.
وبحسب الاحتفالية، فإن من يغترب، يعرف معنى الغربة، ويدرك أننا كلنا غرباء، وأن هذه الأرض ليست ملكا لأي أحد من الناس، ولكنها ملك نفسها، وأنه لابد أن تغادرها في يوم من الأيام، لتبقى الأطلال بعدنا شاهدة على أننا كنا هنا، وعلى أننا قد تركنا آثارا خلفنا تدل علينا، وتشهد على أننا فعلا قد وجدنا، وأننا قد مارسنا الحياة في هذه الحياة
وفي هذا المسرح الاحتفالي، من الذي يحضر؟
يحضر الإنسان العالم والمفكر والمبدع والباحث والمجدد والمجرب، ومعه ( يحضر السؤال
المؤقت والمفتوح، وفي هذا السؤال يغيب الجواب النهائي والمغلق، وكل سؤال يحمل
مضاعفه فيه، ويحمل نقيضه الذي لا يلغيه ولا ينفيه، فسؤال الحال يحمل سؤال
المآل، وسؤال الوجود يحمل سؤال المصير، وسؤال البدء يحمل سؤال الختام، وسؤال
المعنى يحمل سؤال المبنى، وسؤال الحكم يحمل سؤال الحكمة) (35)
ومع هذه الهجرة يبدأ التاريخ الآخر، ومعها وفيها يبدأ فعل التأريخ العاشق والصادق والأصدق لحياة الأحياء، ويكون للهجرة معنى البحث، وذلك عن مناخ يوفر للإنسان الحياة والحيوية والحرية والكرامة
وجود الاحتفالية والاختيار الوجودي
في البدء كان الاختيار، وكانت الاحتفالية اختيارا قبل أن تكون أي شيء آخر، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي ( في البدء إذن كان الاختيار، ولا اختيار بدون حرية، ولا حرية بدون رشد عقلي وبدون مسؤولية ) (36)
والحرية هي أصل وجود هذه الاحتفالية، وهي بهذا اختيار وجودي حر، وذلك لإنسان كامل الإنسانية، وتراهن الاحتفالية من أجل أن يكون هذا الإنسان مواطنا عاقلا وفاعلا وحرا، وأن يكون تعبيره حرا أيضا، وأن يعيش في المجتمعات الإنسانية والمدنية الحرة، والأساس في هذه الاحتفالية هو أنها نظام حياة قبل أن تكون أي شيء آخر، ولقد اختار الاحتفاليون أن يعيشوا الحياة وفق النظام الاحتفالي العيدي، وأن يتمثلوا هذه الحياة مسرحية، لها كاتب عبقري بكل تأكيد، مسرحية ليست مأساة كلها، وليست ضاحكة كلها، ولكنها مركبة لحد التعقيد والغموض، ولكن يبقى أن الأصل في هذه المسرحية الوجودية هو الفرح، وأن كل ما عداه هو مجر أعطاب الطرب ومجرد أخطاء بعض الناس في حياة الناس، وهي أخطاء مجتمعات في التاريخ، وتتعاقب على أداء هذه الأدوار المسرحية الجاهزة أجساد وأرواح إنسانية حية، وهي تلعبها بشكل مؤقت، ثم نمضي، بعد أن يسدل الستار، ويختفي الممثلون وتبقى نفس المسرحية ، يرحل اللاعبون المؤقتون في مضمار اللعب، وتبقى اللعبة الدائمة، ويبقى من حق الإنسان أن يتساءل: لماذا هذا الاختيار تحديدا، وليس ذاك؟ ولماذا الاختيار الاحتفالي العيدي، وليس الاختيار العبثي أو المأتمي أو الفوضوي أو العدمي أو المأساوي؟ وماذا كان يمكن أن يكون الاحتفاليون لو أنهم لم يختاروا هذه الاحتفالية؟ وهل فعلا هم الذين اختاروها، أم هي التي اختارتهم، لحكمة ما، من غير أن يشعروا بذلك؟
إن قدر الاحتفالي إذن، هو ألا يختار إلا الاحتفالية، هي وحدها وليس غيرها، وقدر الفوضوي ألا يختار إلا الفوضوية، وقدر العبثي ألا يختار إلا العبثية، وقدر الظلامي ألا يختار إلا الظلامية، ويتساءل الاحتفالي دائما، بلسان الحال طبعا: كيف كنا سنكون لو أننا اخترنا الاختيارات الأخرى؟ وهل كنا سنكون أجمل أو نكون أسوأ؟ وهل كنا سنكون أكثر سعادة أم أكثر شقاء؟ ولو قدر للاحتفاليين أن يختاروا طريقا غير طريق الاحتفالية، فماذا كان من المكن أن يختاروا؟ وهل هناك بديل للاحتفالية الكائنة الجميلة إلا الاحتفاليات الأخرى الأجمل، والتي هي احتفاليات أجمل أكمل، والتي يسعى الاحتفاليون إلى الوصول إليها ، أو على الأقل الاقتراب منها
قدر هذا الاحتفالي أن يختار العيد، وأن يختار الناس، وأن يختار الحياة، وأن يختار الفرح، وأن يختار الجمال، وأن يختر شعرية الأيام والليالي، وأن يختار موسيقى الطبيعة، وهذا الاحتفالي الكاتب هو الذي كتب مسرحية ( الناس والحجارة) انتصارا لحق الإنسان في أن يكون حرا، وأن يعيش حياته خارج الحجارة وخارج الحدود وخارج القيود، وهو الذي قال (لقد اخترت ( الناس، وذلك في زمن أصبح مهددا بأن يختفي فيه الناس ـ كل الناس ـ وألا تبقى إلا الحجارة والأشياء والمال والسلع والمعلومات والصور) (37)
الهوامش:
1 ــ ع الكريم برشيد (غابة الشارات ) مطبعة تريفة ـ أبركان 1999 ـ ص 65 ــ 66
2 ــ غابة الإشارات ــ نفس المرجع ـ ص 66
3 ــ عبد الرزاق الربيعي ( الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) المكتبة العربية للنشر والتوزيع ـ القاهرة 2021 ـ ص 118
4 ــ ع الكريم برشيد ( الرحلة البرشيدية) إيديسوفت ـ الدار لبيضاء
5 ــ ع .الكريم برشيد ( أنا الذي رأيت) إيديسوفت ـ الدار البيضاء 2016 ـ ص 206
6 ــ ( أنا الذي رأيت) نفس المرجع السابق ـ ص 192
7 ــ ع الكريم برشيد (المسرح المغاربي: مشروع وجود ومشروع هوية) ـ مخطوط
8 ــ نفس المرجع السابق9 ــ نفس المرجع
10 ــ نفس المرجع
11 ــ عبد السلام لحيابي (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح) إيديسوفت ـ الدار البيضاء 2015 ـ ص 185 186
12 ــ وخطاب البوح ـ نفس المرجع ـ ص 187 188
13 ــ مقامات بهلوانية هكذا تحدث الحكواتي في تلك الاحتفالية التي اختارت أن تكون بعنوان ( مقامات بهلوانية)
14 ــ د. عبد الرحمن بم زيدان ( علامات بعد علامات في الثقافة المغربية ) مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء ـ 2004 ــ ص 61
15 ــ ع الكريم برشيد (غابة الإشارات) مطعة تريفة ـ أبركان 1999
16 ــ عبد السلام لحيابي (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح ) نفس المرجع الأسبق ــ ص 186
17 ــ ع الكريم برشيد ( المسرح المغاربي : مشروع وجود ومشروع هوية) مخطوط
18 ــ المسرح المغاربي ـ نفس المرجع السابق
19 ــ نفس المرجع السابق
20 ــ نفس المرجع
21 ــ نفس المرجع
22 ــ ديوان الحلاج ـ صنعه وأصلحه الدكتور كامل مصطفى الشيبي ـ مطبعة المعارف ـ بغداد ـ 1974 ـ
23 ــ ع الكريم برشيد ( البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة ـ بيانات لنظام مسرحي جديد ) الهيئة العربية للمسرح ـ الشارقة ـ 2014 ــ ص 96
24 ــ ع الكريم برشيد ( الرحلة البرشيدية) إيديسوفت ـ الدار البيضاء ـ ص 70
25 ــ ع الكريم برشيد ( البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة ـ بيانات لنظام مسرحي عربي جديد) الهيئة العربة للمسرح ـ الشارقة 2014 ــ ص 236
26 ــ نفس المرجع السابق ـ ص 236
27 ــ صلاح بوسريف ـ جريدة ( المساء ) الدار البيضاء ـ المغرب ـ 20 ـ 09 ـ 2022 ـ ص1
28 ــ نفس المرجع السابق
29 ــ ع الكريم برشيد ( البيانات الجديدة لاحتفالية المتجددة) الهيئة العربية لمسرح ـ الشارقة ـ ض 4
30 ــ البيانات الجديدة ـ نفس المرجع السابق ــ ص 4
31 ــ نفس المرجع
32 ــ ع الكريم برشيد ( الصعود إلى فلسطين) مطبعة رانو ـ الدار البيضاء ــ ص 9
33 ــ ع الكريم برشيد (لبيان الثالث لجماعة المسرح الاحتفالي) الرباط 1981
34 ــ (الرحلة البرشيدية) م س
35 ــ (الرحلة البرشيدية) ن س
36 ــ ع الكريم برشيد (أنا الذي رأيت) إيديسوفت ـ الدار البيضاء 2016 ــ ص 205
37 ــ د. يوسف الريحاني ــ من كتاب ( عبد الكريم برشيد رسائل إلى المخرج يوسف الريحاني ـ أفكار في المسرح ـ منشورات باب الحكمة ـ تطوان ـ 2021 ــ ص 61