غرفة فاضل خليل / عبدالخالق كيطان
الزمان: شتاء العام 2010….
المكان: بغداد، أكاديمية الفنون الجميلة، قسم الفنون المسرحية…
المشهد: نهار. تعلن الساعة موعد محاضرة الأستاذ الدكتور فاضل خليل لطلبة فرع الإخراج المسرحي، المرحلة الثالثة. في هذه المحاضرة، يقوم الأستاذ بتقديم نبذة بانورامية عن فن الإخراج المسرحي في التاريخ، ثم يقوم الطلبة من بعده، وعددهم لا يتجاوز الخمسة عشر طالباً، أغلبهم من الذكور، بتقديم قراءات في مسرحيات عالمية.
الإضاءة في قاعة المحاضرة مطفأة بشكل كلي. الكهرباء مقطوعة عن قسم الفنون المسرحية منذ الصباح، والوقت شتاء، ما جعل الأستاذ المحاضر، وطلبته، يتراجفون من البرد وهم يقبعون في القاعة الرطبة التي لم تطأها يد إعمار منذ الخمسينات. لقد كانت البناية مقراً لمعهد الفنون الجميلة، ثم هجرت بعد انشاء بناية المعهد الواقعة بالقرب من نقابة التشكيليين العراقيين في المنصور. التوسع في أكاديمية الفنون، الواقعة في الوزيرية، اضطر عمادة الكلية للخروج من البناية. كان قسم الفنون الموسيقية، وقسم التربية الفنية، اول قسمين يخرجان إلى مبنى آخر غير بعيد عن المبنى الأم. ثم قررت العمادة نقل قسم الفنون المسرحية إلى بنايته الحالية في الكسرة. يوجد في هذا المبنى مسرح قديم تم ترميمه أكثر من مرة.
المرة الأولى حين شهد عرض مسرحية “بير وشناشيل” للمؤلف عباس الحربي والمخرج الدكتور عوني كرومي. كان فاضل خليل قد لعب دور البطولة في هذه المسرحية. وبعد العام 2003 استوطن الأميركان في بناية نادي القادة، المقابلة لبناية قسم الفنون المسرحية. ولقد حدثني أستاذ مسرح أثق به كثيراً، قائلاً: “ذات يوم اتصل بالقسم أحد الضباط الأميركيين المتواجدين في نادي القادة متسائلاً، وهو يرى الطلبة والأساتذة يروحون ويجيؤون في باحة القسم، عن المكان الذي نقيم فيه، فأخبرناه بأنه مبنى قسم الفنون المسرحية التابع لأكاديمية الفنون المسرحية.. “
يواصل محدثي: “لقد فغر الضابط الأميركي فاه وهو يستمع إلينا. كان يعتقد أن كلية للمسرح يجب أن تكون أكثر رقياً مما هي عليه الحال، وعلى الفور سألنا إن كنا نحتاج لشيء، فبإمكان هذا الضابط الاتصال بفيلق الإعمار الأميركي إذا ما تطلب الأمر، وبالفعل فلقد طلب الأساتذة منه إعمار المسرح الرئيس في المبنى وتم ذلك. لقد قام الأميركان بإعادة إعمار المسرح، بمساعدة الطلبة والأساتذة. واليوم، فإن قسم الفنون المسرحية يتوفر على مسرح، متواضع تقنياً، ولكنه أفضل ما يمكن الحصول عليه في هذه الظروف العصيبة.
يد الإعمار الأميركية تلك لم تمتد لقاعات القسم، ولا إلى غرف الإدارة أو الكافتيريا ولا حتى الحمامات. أما يد الإعمار العراقية فهي لم تمتد لشيء أصلاً، فما بالك بمسرح أو كلية تدرّسه؟
نظرت إلى الأستاذ الدكتور فاضل خليل الجالس على كرسي ممزق، والظلام يحفّ به، فلا أكاد أميّز منه سوى نظاراته! كان يمازح طلبته، وهؤلاء يشعرون بأنهم محظوظين إذ يدرّسهم واحد من ابرز صناع المسرح الحديث في العراق، تمثيلاً وإخراجاً وتنظيراً وتدريساً.على يد فاضل خليل تخرج المئات من الطلبة الذين واصل بعضهم طريقه في فن المسرح وآخرون اتجهوا إلى التدريس. وكثير من طلابه أصبحوا اليوم نجوماً في سماء المسرح العراقي، وحتى العربي.
فاضل خليل، المخلص للمسرح، يقول عنه عميدنا يوسف العاني: “عشقته ممثلا واعداً يقول لمن يتابعه على المسرح.. (هذا انا..!) وتعلقت به.. وكنت حين لا يكون لي حضور على المسرح أتابعه باهتمام كبير من بين الكواليس لأنه بالنسبة لي لم يكن مجرد ممثل في مسرحية (النخلة والجيران) بل شريحة من مسرح قادم هو مسرح العراق المتألق والعميق”.
وبالرغم من قسوة الواقع الذي يعيشه هذا الرائد المسرحي إلا أنه ظل يواظب على تقديم درسه المسرحي، شأنه شأن زميله الدكتور صلاح القصب، بل وشأن أستاذهما وأستاذ الأجيال سامي عبد الحميد.
مضت ساعة من الزمان، في ذاك اليوم البارد، وأنا أراقب كل شارة وواردة، مثل مخبر سري! في قسم المسرح. تذكرت عدداً من أساتذتي في الثمانينات. تذكرت غرفة المدرسين في قسم المسرح، البناية الأم، وكيف كانت دافئة تشع بالقادمين والخارجين من الأساتذة والطلبة. أستذكرت الراحلين الكبار: جعفر السعدي، أسعد عبد الرزاق، قاسم محمد، عوني كرومي، وكذلك الرائد الكبير بدري حسون فريد. كانت الأكاديمية، وقسم الفنون المسرحية، ورشة عمل لا تتوقف. تنتج أعمال الأساتذة جنباً إلى جنب مع أعمال الطلبة، وكثيراً ما كان يحصل تنافس، شريف بالطبع، بين أعمال الجانبين.
وإذ تمضي السنون، فلقد كان من المؤمل أن يحظى أستاذ فن بمنزلة فاضل خليل، أو زملائه، بمجرد غرفة متواضعة يستطيع فيها أن يتقي حرّ الصيف أو برد الشتاء، وأن يستقبل فيها تلامذته الكثر، وأن يتفرغ فيها لانجاز بحوثه، وربما نطمع أكثر فنحلم بقاعة تمارين ملحقة بهذه الغرفة. يا لها من أحلام طوباوية!
انتهت محاضرة المعلم. خرج من القاعة مسرعاً. قال لي: “أما في الصيف يا صاحبي فعليك أن تحضر منشفة لتمتص غزارة تعرقك المستمرة!” تبسمت، وكان بودنا أن نشرب قهوة مع بعض، إلا أن كافتيريا القسم، التي هي عبارة عن مجموعة من الكراسي المتناثرة في الهواء الطلق، لا تقدم سوى شاي معتق، هكذا قررنا الخروج من البمنى. بالأحرى: الفرار منه!
الأساتذة الكبار في قسم الفنون المسرحية يهربون إلى منازلهم سريعاً، فهناك فقط ينعمون بما ينسجم وذواتهم التي أتعبتها الحسرات على عمر ينقضي دون أن يستطيع الواحد منهم أن يظفر في بلاده بغرفة صغيرة تليق بتسمية: بروفسور فن!