د. يونس لوليدي يقدم قراءة نقدية عن المسرحية التونسية: “الروبة”
ضمن العروض المتنافسة على جائزة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في نسختها العاشرة، قدم مركز الفنون الدرامية والركحية القيروان (تونس) بالأمس بمسرح مولاي الرشيد مسرحيته: “الروبة” . ووفق الأنشطة الموازية تعرف العروض ماقشة تطبيقية يتم خلالها قراءة نقدية، وقد وكلت للأكاديمي المسرحي المغربي (د.يونس لوليدي) مهمة مناقشة هذا العرض.
وقد جاءت هاته القراءة كالتالي:
***************
ـ تبدو فكرة المسرحية عميقة، إنسانية في أبعادها، عربية في خصوصياتها: قاضية ومجموعة من المحامين يحاكمون أنفسهم ويحاكمون بعضهم، في قبو محكمة، وجدوا أنفسهم فيه بعد سلسلة من الانفجارات التي هزت المحكمة. فتسقط الأقنعة، وتتعرى المبادئ، ويظهر الإنسان في أبشع صوره الانتهازية. وتصبح الفرصة مواتية ليحاكم متهم كل النظام القضائي، هو الذي كان ينتظر صدور الحكم في حقه.
– ولأن أبعاد المسرحية تتجاوز المحلية إلى الكونية، فقد كُتبت المسرحية بأكثر من لغة، على مستويات مختلفة. فمن حضور قوي للهجة التونسية، إلى حضور تتساوى فيه الفصحى والفرنسية، إلى حضور عابر للإنجليزية والإسبانية، ولو على مستوى بعض الكلمات. غير أنه في لحظات أحس المخرج أن بعض الكلمات الفرنسية قد لا يكون لها الأثر نفسه الذي لهذه الكلمات في العربية، فاستبدلها في العرض، حيث وظف، مثلا، كلمة “قحبة” بدلا من كلمة Pétasse” ” الموجودة في النص، وكأن الكلمة العربية أشد تعبيرا عن العهر من الكلمة الفرنسية.
– إذا كان نص المسرحية مقسما إلى عشر لوحات، فإن المخرج اختار ألا يكسر إيقاع عرضه بهذه التقسيمات، فباستثناء لوحتين هما: السادسة والتاسعة، اللتين تم إبراز تقسيمهما بالظلام، فإن كل العرض كان مسترسلا من غير تقسيمات، لتحقيق التواصل بين الأزمنة والأمكنة والأحداث والشخصيات.
– هذا الاسترسال في العرض، جعل نهاية المسرحية عودا أبديا إلى بدايتها، كأننا أمام دورة لا منتهية للحياة، وللفساد، وللمحاكمات الشكلية، وللأدوار التي يلعبها كل واحد منا. ولتستمر المعارك التي يصفها هذا الحوار.” متعاركة مع الشرف، مع روبتها، مع مهنتها، مع القطاع، مع التاريخ، متعاركة مع كل شيء.”
– طبيعة فكرة المسرحية جعلت المخرج يختار أن يقدم فرجته في إطار “جو سوداوي” une atmosphère mélancolique ، انطلاقا من سواد خلفية الخشبة، وسواد روب المحامين والقاضية، والإضاءة الخافتة التي زادت من سوداوية الفضاء، وسوداوية الأداء التي جعلت عددا من الحوارات تتحول إلى مونولوجات بسبب غياب تواصل الشخصيات أحيانا، وعدم اهتمامها بمواقف الآخرين أحيانا أخرى.
– هذا الجو السوداوي جعلنا نشاهد عرضا وكأنه لفلم بالأبيض والأسود. سواد تجسد في الخلفية وفي ملابس الشخصيات، وبياض تجسد في ربطات عنق روب المحامين والقاضية، والإضاءة البيضاء التي لم تسع قط إلا تلوين أي شيء، وإنما سعت إلى إظهار اللون الحقيقي للأشياء. لم يكسر بياض وسواد هذه الفرجة إلا أحمر أكمام روب القاضية، وأحمر خوذة المتهم.
– لهذا العرض مجموعة من الملامح، لعل أبرزها:
– الملمح الأول: اختيار المخرج “لسينوغرافيا الفراغ” la scénographie du vide، وهو اختيار جمالي بقدر ما يحقق دلالات ورموزا، على مستوى المعنى، بقدر ما يخلق متاعب على مستوى الأداء والتنقل على الخشبة إن لم يُحسن استغلاله.
وهكذا فسينوغرافيا الفراغ تحاول إعطاء مفهوم لهذا الفراغ، خصوصا عندما يمحو الفراغ كل الذكريات…عندما لا يحيل على زمان…فتعيش الشخصيات – بقوة الأشياء- في الحاضر. وبقدر ما تكون المهمة صعبة بالنسبة إلى الممثل الذي يتحرك في الفراغ، تكون المهمة أيضا صعبة بالنسبة إلى الجمهور، الذي عليه أي يملأ هذا الفراغ في ذهنه…وأكيد أننا سنكون أمام طرق متعددة لملأ هذا الفراغ بتعدد قراءات الجمهور.
المشكلة مع سينوغرافيا الفراغ هي أن أي شيء، مهما كان صغيرا، يمكنه أن يملأ هذا الفراغ، إلى درجة أن الفراغ يصبح ازدحاما في عين المتلقي، الذي يتساءل عن دور هذا الشيء فوق الخشبة، كما حدث مع محفظات المحامين، حيث كان يضع أحد المحامين، بين الفينة والأخرى، محفظته على الأرض، فتملأ هذه المحفظة علينا بصرنا- بما أنها الشيء الوحيد الموجود على الخشبة – وتشتت تركيزنا، لأننا نعتقد أن شيئا ما سيحدث انطلاقا منها أو بسببها…ومع مرور الوقت يخيب أفق انتظارنا، ولا يحدث شيء انطلاقا من هذه المحفظة، التي كسرت مبدأ الفراغ، ويأخذ المحامي محفظته ويخرج.
تكمن الصعوبة في مثل هذا الاختيار الجمالي في خلق فضاء درامي خاص بكل ممثل، وبكل حدث، انطلاقا من هذا الفراغ…لكنني شخصيا لم أجد فرقا بين الفراغ الذي شكل فضاء المحكمة، قبل الانفجار، والفراغ الذي شكل فضاء القبو بعد الانفجار…صحيح أن الشخصيات تتحدث عن هذين الفضاءين غير أن الأذن سمعت والعين لم تر.
من المؤكد أنه في التجارب الحديثة تصبح أجساد الممثلين جزءا من السينوغرافيا …تشكل فضاءات من خلال لقائها ومواجهتها واصطدامها، فيمتلئ الفضاء الفارغ آنذاك بلغة الجسد. غير أنه رغم الحضور القوي للبعض الممثلين، إلا أنه لا يمكن الحديث فعلا عن لغة للجسد قادرة على ملء الفراغ وقادرة على جعل هذه الأجساد جزءا من السينوغرافيا. ففي مقاطع طويلة من العرض كان الحوار هو الذي يحمل الأجساد ولم تكن الأجساد هي التي تحمل الحوار، باستثناء بداية اللوحة الرابعة – بعد الانفجار الثاني – حيث تحدثت الأجساد لغتها، وملأت فضاء الخشبة بتنقلاتها، في ارتباط مع الإضاءة، فوجد العرض إيقاعه ولو لفترة قصيرة.
– الملمح الثاني للعرض: هو الحضور الوظيفي القوي للإضاءة رغم أنها كانت خافتة وبيضاء، فساعدت على خلق وهم الديكور في غياب ديكور حقيقي. فالبقع الضوئية على الخشبة – التي اتخذت أشكالا مربعة ومستطيلة، هي انعكاس للإضاءة الداخلة إلى القبو عبر النوافذ التي من المفروض أنها في الجدران. فصار لدينا خيال نوافذ دون أن تكون لدينا نوافذ حقيقية.
غير أن هذه البقع ضوئية لم يتم استغلالها، حيث بقيت فارغة في أغلب الأحيان، وبقي الممثلون خارجها، يتحركون بعيدا عنها، مما أضاع علينا فرصة جمالية كانت من الممكن ان تحقق تلاحما بين الضوء القادم عبر النوافذ، من خارج القبو، وأماكن وجود الممثلين. ويبدو لي أنه تم تدارك هذا الأمر، في بداية اللوحة الرابعة، بعد الانفجار الثاني، حيث حدث تناغم رائع بين التحركات الجميلة للمثلين وبين البقع الضوئية التي تعددت، وسمح الانتقال بينها بخلق فضاءات درامية متنوعة بتنوع البقع التي يحتلها كل ممثل على حدة في كل تنقل جديد.
لكن وبشكل مفاجئ وغير مبرر ستعود بنا الإضاءة – في نهاية اللوحة نفسها – إلى مرحلة ما قبل الانفجار الثاني، أي البقع الضوئية الثلاث التي كانت بعد الانفجار الأول. وأعتقد أن هذه هفوة جمالية، لأنه بعد الانفجار الثاني من المفروض أن معالم الفضاء قد تغيرت، بسقوط جدران أو سقوف أو تكسير نوافذ. وبالتالي لا يمكن أن نعود إلى حالة الإضاءة الأولى، أي مرحلة ما بعد الانفجار الأول.
– ولعل من اللوحات الجميلة التي شكلتها الإضاءة، لحظة القتل، حيث خلقت لدينا الإضاءة وهم زنزانة جمعت القاتل والمقتول، قد تكون هي الزنزانة التي من المفروض أن يسجن فيها القاتل، وقد تكون هي السجن الذي يوجد فيه كل واحد منا، سواء كان مجرما أو ضحية.
– الملمح الثالث للعرض: هو الحضور الدلالي القوي للأصوات الاصطناعية Bruitage، حيث كنا نسمع كل ما لم نره. فعوضت أصوات الانفجارات رؤية الدمار والخراب الناتج عنها، وجعلنا صوت الماء، المنساب في القبو، نشعر بقوة الانفجار والخسائر الناتجة عنه، وجعلنا صوت الهيلوكوبتر نستشعر أعمال البحث عن المفقودين، وجعلتنا أصوات الموكب الرسمي القادمة من بعيد، نعلم بحضور المسؤولين، الذين يعجبهم حضور مثل هذه الكوارث، للظهور أمام وسائل الإعلام. كانت الأصوات الاصطناعية حاضرة في جل مراحل العرض، تشبع حاسة السمع، عساها تحقق نوعا من الإشباع لحاسة البصر، المعلقة إلى فضاء سينوغرافي فارغ.
غير أنه في كثير من الأحيان لا يمكن لحاسة السمع أن تعوض كليا حاسة البصر، فأصوات الانفجارات لم تكن كافية لوحدها لتجعلنا نتصور حجم الدمار والخراب الذي أحدثه الانفجار، ولا تصور الأشلاء والجثث والدماء التي تتحدث عنها الشخصيات. فتجسيد بعض من هذا الدمار، على خشبة المسرح، كان سيحقق تأثيرا أكبر في نفوس المتلقين. كما أن هذه الأصوات الاصطناعية المتعلقة بالانفجارين الأول والثاني، وحديث الشخصيات عن معاناتهم ومعاناة غيرهم من قوة الانفجارين، لا ينعكس إطلاقا على ملابس الشخصيات ولا على هيئاتهم: فقد بقيت ملابسهم نظيفة، كساعة دخولهم المحكمة، وبقيت هيئاتهم عادية من غير جروح أو نذوب، على الرغم من كثرة الجثث والأشلاء التي تم الحديث عنها.
– الملمح الرابع لهذا العرض: هو الحضور الباهت للإكسسوارات، فمثل هذا النوع من الاختيار الجمالي للفضاء الفارغ يقتضي حضورا قويا للإكسسوارات، لأنها بوظيفتها وشكلها ولونها وقربها أو بعدها عن بعضها تكسر رتابة الفراغ، وتعطي لأجساد الممثلين امتدادات، وتساعدهم على تلوين مواقفهم. غير أن حضور بعض الملفات ومحفظات، ومطرقة القاضية، والفلاشة – التي توثق لملفات الفساد- لم يكن كافيا ليعطي للإكسسوارات الدور المنوط بها في سينوغرافيا الفراغ. فمطرقة القاضية، مثلا، كان من الممكن أن تلعب أدوارا أهم، خصوصا إذا انتقلت من يد إلى أخرى، مما يعني انتقال السلطة والفساد من يد إلى يد أخرى. والفلاشة التي كانت بمثابة سيف داموكليس، على رأس عدد من المفسدين، كان من الممكن أيضا أن تلعب دورا أهم، بما أنها مسألة حياة أو موت لبعض الشخصيات. هذه الإكسسوارات كان من الممكن أن تدخل في حوار مع السينوغرافيا، والملابس، والإضاءة، والأصوات الاصطناعية، وخصوصا مع الممثلين، حيث كانت ستشكل ركيزة تحركهم في فضاء فارغ.
من المؤكد أن هناك لمسات جمالية في هذا العرض، ولحظات أداء قوية للممثلين، وتصور هندسي لمخرج خلق مستويات فضائية متعدد، في مقدمة الخشبة وخلفيتها، انطلاقا من فراغ وظيفي ودلالي. وأكيد أن قراءتي هي مجرد قراءة ضمن قراءات أخرى خرج بها كل مشاهد للعرض، لا تسعى إلى إصدار أحكام قيمة ولا إلى ممارسة وصاية، فلا يقتل الفن إلا الوصاية، ولا يدمر الإبداع إلا أحكام القيمة. وثراء الفن المسرحي يكمن في التصفيق لكل تجربة، وفي احترام اختياراتها الجمالية.