مسرحيّة « رحل النهار » هندسة شعريّة على مشهديّة عربية متوجّسة/ حامد محضاوي

قراءة مجالية تفكًريّة 

 

كان لجمهور المهرجان العربي للمسرح  موعد مع العرض الإماراتي « رحل النهار » ليلة الأحد 15 يناير 2023 على ركح مسرح محمد السادس بالدار البيضاء. مسرحيّة من تأليف اسماعيل عبد الله، إخراج محمد العامري، إنتاج: مسرح الشارقة الوطني. تمثيل كل من: بدور ، أحمد العمري، عبد الله مسعود، رائد الدالاتي، حميد عبد الله، وأميرة احمد، عثمان عبيد، عبد الله الجفالي، أحمد يوسف، محمد بن يعروف، علي درجلك، أحمد درجلك، عبد الله الجسمي، محمد دهقاني، أماني بلعج. إضاءة ماجد المعيني، ديكور وليد عمران، أكسسوار ودمى: فيروز نصاص.

العنــــــــوان:

« رحل النهار »  العنوان بسمته الزمنية تعبير عن مرور لحظة وانفتاح على المابعد، هذا المطلق يستفزّ ذائقة التفكّر ويجعلها تتمخّض في اُتون السؤال: موضع زمن أحداث العرض الليل؟ الإحالة على انطفاء النور الطبيعي؟ تثوير البعد الرمزي لغياب شمس الحق؟ إنكفاء على عزلة الإنسان في انطفاء روح الأمل والمقاومة؟؟ أسئلة يفتحها معطى العنوان حسب نوعيّة المتلقي – الجمهور جماهير – بالنسبة لي، انفتح العنوان عندي على قصيدة رحل النهار للشاعر « بدر شاكر السيّاب » التي كتبها خلال مرحلة القلق والتوتر التي عاشها، وفي فترة اتسم سياقها العام بانزياحات كبرى في تهاوي المفاهيم والشعارات، ساهمت في تحوّل الكتابة الشعريّة العربية من الصبغة الغنائية الرومانسية إلى الاعتمال الدرامي، مرحلة تحوّلات سياسية واجتماعية كبرى تماهى معها فعل الكتابة من خلال تجديد ألياتها.

بالربط مع أسئلة البداية وبعد مشاهدة العرض اكتشفت جملة هذه الرؤى. العنوان فتح مآلات التفكّر للاسترجاع ولملمة الروابط، يقول ميشال فوكو: ” فخلف العنوان والأسطر الأولى والكلمات الأخيرة، وخلف بنيته الداخلية وشكله الذي يضفي عليه نوعا من الاستقلالية والتميز، ثمة منظومة من الإحالات إلى كتب ونصوص وجمل أخرى “.

النـــــــص:

 لا يمكن أن نفهم هذا النص للمسرحي، « إسماعيل عبد اللّه » دون وضعه داخل تجربته في الكتابة المسرحية. أعمال كانت في سياق جدلي مع التراث من أجل الكشف وبسط مآلات التجديد. كانت اللغة الشعرية بأبعادها الدرامية حاضرة في مجريات اشتغاله؛ هذا المسرحي العالم بأدواته والباحث الدائم في المجاور والبعيد أسّس لسياق مائز في أعماله، ينطلق ليفكّك ويبحث عن الراهني عبر جماليات وأحجيات واعية.

في نص « رحل النهار » فتح مسائلة لا تبحث عن جواب، بقدر ما حرّكت سواكن الراكد بصورة ثنائية: الفرد/الجمع. حسب تعبير كافكوي إنّ إسماعيل عبد الله ” هوى بفأس على بحيرة من جليد”.

هذا النص انتشل فكرة الكتابة المسرحية الملحمية، من صبغتها السائدة إلى مآلات تشغيل تسحب الحيني بشظاياه؛ عبر تموضع درامي مشهدي، ولغة شعريّة وظيفيّة؛ ساهمت بتدفّق أحجيات الكاتب، لتتشابك مع مراجع متعدّدة أهمّها (النصوص الشعرية، القرآن). ساهم هذا في بناء جذر تعبيري متعدّد الأبعاد. اختيار النصوص الشعرية لم يكن إعتباطيا؛ حيث أنّ المدى التجديدي الذي طرحه النص في معالجة الراهني، لا يمكن إلّا أن ينتمي إلى نفس المرجعية في التفكر، صلب الهم المشترك. اختيار المنظومة الشعريّة المعاصرة نداء جليّ، لروح الانتماء للاجتماعي والرهان اليومي، وتوليد المعنى الدرامي من خلالها؛ بدر شاكر السيّاب، محمود درويش، الصغيّر أولاد أحمد، توفيق زياد، سميح القاسم، خلف الخلف، الذين وقع توظيف نصوصهم يمثّلون مرحلة متجدّدة في الكتابة الشعرية، انطلاقاً من تغيّر المعطيات الاجتماعية والسياسية، وتحوّل مفاهيم ارتباط المثقف بمحيطه وراهنه؛ سعى الشعراء للبحث عن مآلات جديدة للتعبير، وأساليب وأشكال ملائمة لرؤية الواقع قادرة على تجسيد رؤية شاملة متجاوزة. كلّ هذا صلب معادلة توفّر خصائص التعبير الرمزيِ وتتجاوز الغنائية الرومانسية صوب الغنائية الدرامية، والتوغل في خلجان الذات – وما فيها من ذعر وأمل – صوب الموضوعية. كان هذا الاتجاه بالقصيدة من الذاتية الى الموضوعية ومن الغنائية الى الدرامية عين توظيف إسماعيل عبد اللّه لهذه النصوص؛ لتتشاكل في إطار درامي، مسرحي، ملحمي يعيد الاعتبار للدراما الشعرية بصورة معاصرة ومبتكرة، هذا الاشتغال الذي أراه معادلا تطبيقيّا لما دعى إليه «خزعل الماجدي» في بيان المسرح المفتوح.

ساهمت تجربة إسماعيل عبد اللّه في إيجاد علائقية راجحة مع نصوص هؤلاء الشعراء في إعلاء صرخة المسكوت عنه وتحرير الرؤية التفكّرية. يمكن القول:

بنوع من التحفّظ – أنّ نصوص هؤلاء الشعراء مثّلوا المعادل الموضوعي

نظرية إليوت – الذي قام عبره الكاتب بتمرير رؤاه عبرها والتوحّد معها.

العـــــــرض:

 مسرحية « رحل النهار » وثبة مسرحية إماراتية إلى محمل تفكّر جديد. محاولة في الاجتهاد الناضج عبر تيمات إبداعيّة نافذة شكّلت الجرأة كقيمة أساسية، لاستنبات ملامح جمالية ومضمونية متوازنة. هذه الجرأة تمخًض عنها العرض لم تكن غاية في حدّ ذاتها بقدر ما كانت محمل توليدي حرّ لتشكيل الرؤية الجمالية نصا: عبر تثوير حقول الشعر في رؤية تكسر السائد العاطفي نحو إقامة لغة شعرية تفكريّة مستفزّة. صوت الشعر في العرض صارخ، ثائر، حيّ، ينتصر لرؤية الإلتزام وإقامة المعنى الدلالي للتغيير، اختيار أمّن للعرض تجاوز الخطاب النثري الإخباري وبناء مآلاته الجمالية عبر تنويع إخراجي وسينوغرافي أحسن المخرج « محمد العامري » هندسته في إطار نصي مشهدي يكسر أحادية الحكاية الكلاسيكية؛ يمكن القول أنّ العرض نجح في هندسة الشعر على شظايا مشهدية عربية متوجّسة. هذا يلوح أيضا عبر توظيف نصوص أكثر من شاعر عربي، في هذا دلالة على عمق البحث في نسيج الهم العربي. أمام تهاوي مختلف الخطب تنتصر لغة الشعراء المفردين لإعادة استقراء الجمع المتشظي أمام الحلال/الحرام، الحاكم/المحكوم، الاستسلام/الثورة، الحياة/الموت، الصمت/الصراخ، الحزب/الوطن، المواطن/العبد، القاتل/الضحية، الحب/الفراق… هذه الثنائيّات التي تمثّل جوهر التوجّس والريبة في مكنون الذات، تتحوّل لفعل مشهدي حركي بذات التقابلات؛ تكسر صلبها سلطة المكان والزمان وتنتصر لفعل المطلق ويلملم من ذلك المخرج محمد العامري سمات المعنى عبر توظيف فوق/أسفل، كشف/تغطية، فرد/جمع، تقابل/إلتقاء، أسود/ أبيض، عتمة/ضوء… نسق جدلي توالدي ينطلق من السؤال ليصل إلى سؤال، ينطلق من حركة ليصل إلى الحركة، ينتهي من المعنى لينطلق في معنى…

في عمل المخرج رجاحة امتلاء بصري ولوحات مزدحمة واستدعاء تكنولوجي ولعب ممثّلين تشي بجوهر تعبيري فني للفوضى، الذي يمتد كخيط لا مرئي بدونه لا يمكن فهم المغزى من المعطى المرئي للعمل. دعوة للتفكّر من داخل الامتلاء الصاخب، دعوة لبناء الذات عبر مكاشفة التجني بين المرئي واللامرئي. التفكير في النطاقات الهادئة لا يمسّ الجوهر.

عمل استنبت جذور راجحة ضمنت تفرّع أغصان رؤاه، عبر سندات جمالية واضحة: كتابة، إخراجا، أداء. عمل قادر على توليد أحجياته وتطوير نسقه من خلال العروض.

* حامد محضاوي – تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت