باللهجة العامية وبموقف من العالم شباب الجامعة الأمريكية يقدمون ( انتيجون )سوفوكليس/ محمد الروبي
مغامرة محفوفة بالمخاطر تلك التي أقدمت عليها المخرجة (دينا أمين) وفريق طلابها من قسم المسرح بالجامعة الأمريكية وعلى رأسهم خريج القسم يحيى عبد الغني مترجم ومعد النص.
لكن خبرتنا بدينا أمين تبشر بأن مغامرتها الجديدة ستثمر عرضا يليق بتاريخها. فدينا واحدة من أنجب دارسي المسرح ومدرسيه في مصر. تعمل الأن ومنذ سنوات كأستاذ مشارك بالجامعة الأمريكية، ومن قبلها أستاذ مشارك بجامعة القاهرة للدراما و الأداء. ومن قبلها حاصلة على درجة الدكتوراة في المسرح من جامعة بنسلفانيا، وهي صاحبة كتاب «ألفريد فرج والمسرح المصري».. وهي قبل كل ذلك ومعه صاحبة عدد من الأعمال المسرحية منها «الفرافير فليب فلوب وسيده، (أردن – اقتباس مصري من حلم ليلة منتصف الصيف)، ماتسانافنيش (لا تسميني)، وسجن النساء. وها هي مؤخرا تقدم مغامرتها الجديدة «قانون أنتيجون» من تمثيل فريق من طلابها في الجامعة الأمريكية..
لا تتمثل المغامرة الأخيرة فقط في تقديم النص اليوناني الشهير أنتيجوني لكاتبها سوفوكليس الآن في ذلك العصر. لكن المغامرة تمتد إلى تقديمها باللهجة العامية المصرية وعلى خشبة شبه عارية إلا من أجساد الممثلين وتشكيل هرمي مصنوع من ملابس المحاربين المعاصرين.
منذ اللحظة الأولى لدخولك صالة العرض ومواجهتك لهذا التشكيل القابع في فراغ مهيب سيتسلل إليك إحساس بأنك ستشاهد شيئا مختلفا. وربما تتساءل أين معالم مدينة طيبة اليونانية بأعمدتها وقصر حكمها المهيب. كيف سيقدم من يخطون خطواتهم الأولى في عالم المسرح شخصيات هذه المدينة الملعونة، تلك التي حكمها أوديب وخرج منها معاقبا بفقد البصر تاركا ابنتيه وابنيه المولودين من رحم دنس بزواج الابن من أمه؟ أسئلتك لن تستمر كثيرا، فها هي ملامح ذروة المغامرة تتشكل بدخول فتاتين بملابس عصرية تقفان على يمين المسرح ينشدان ما يمكن وصفه ببرولوج عصري، بعدها ستتشكل أمامك ملامح العرض تماما. فالكورس نساء يرتدين ملابسا سوداء لا تنتمي للعصر اليوناني القديم بقدر اقترابها من ملابس نائحات الجنائز المصرية في عصرنا الحديث. بل سيفاجؤونك بحديثهم إليك مجتمعين باللهجة العامية عن تلك المدينة الملعونة «مدينة طيبة أهل الألهة والملوك..». سيحدثونك عن طيبة التي «بها أخين ورثوا العرش، واحد كان أمين وبالآلهة مكفرش . التاني فجر وسافر لبلاد غريبة رجع بجيش عشان يحتل طيبة».
هكذا خط كل من دينا ويحيى ملامح عرضهما باتفاق مع جمهورهما على أننا سنقدم القديم بملامح عصرية من دون أن نطغى على عناصره الأساسية. ومن دون أن نغرق في تفاصيله الشكلية اليونانية القديمة. بل إن دينا أمين ستصر على أن تدعوك للإنتباه للمعنى الإنساني القابع بين سطور سوفوكليس وهو الإنتباه الذي ستثيره بضعة رتوش هامة ومقصودة، منها مثلا الملابس العصرية للشخصيات وخاصة الحاكم (كريون) ببذلته الحديثة الكاملة، ومنها ملابس انتيجون وإسمين بنتي أوديب (فساتين عصرية بملامح يونانية). ومنها تلك الكواليس المكشوفة القاطن بكل جانب منها أريكة سوداء يجلس عليها الممثلون غير المشاركين في الحدث. وحين يأتي دور أحدهما يقوم من عليها ببطء ويدخل إلى الحدث يؤدي دوره بأداء برعت دينا في تدريب ممثليها عليه، وهو الأداء الواقف على الحد بين الإندماج المعتمد على الدخول في إهاب الشخصية وبين الإلقاء الذي يعطي إحساسا بأن الممثل يحكي عن الشخصية أكثر مما يؤديها. وهو الأداء الأصعب من وجهة نظري.
كل هذه التفاصيل (المتناقضة) كان يمكن أن تلقي بالعرض في هوة الإرتباك، وهذا ما لم يحدث بسبب وعي مخرجته ومن بعدها ممثليها ومن بعدهم مسؤولي عناصر العرض (سواء تصميم المنظر أو الملابس أو الموسيقي) بنسق يخص العرض ويصنع مما يفترض أنه متناقضات جديلة متناغمة.
أجمل ما في عرض دينا أمين أنه لن يجرك إلى المعنى السائد في تفسير النص الذي يخص السياسي منه، لكنه سيضيف اكتشاف معنى آخر إنساني أشمل يكشف عن كوامن النفس البشرية ويضعك كمتفرج في حيرة الاختيار بين موقف انتيجون وبين موقف كريون. فلكل منهما منطقه المبرر الذي ستكتشف أنك كمتلقي تحمل من كل منهما ملمحا أو أكثر. فأنت لن تدين كريون إدانة كاملة، ولن تتعاطف تعاطفا كاملا مع ابنة إخته أنتيجون, لكنك ستهتم أكثر بذاتك لتسألها (ماذا لو كنت في مكان أحدهما). لتصل إلى النتيجة المرجوة في ظني من العرض وهي أن النفس البشرية تتراوح ألوانها بين الأبيض والأسود بالعديد من الألوان والأطياف.
وهنا وجبت تحية تخص المترجم والمعد يحيى حسين. الذي حافظ على هذا المعنى ولم ينجرف إلى السهل من التفسير دون خطابة ولا إدعاء. فهو نفسه ككاتب يشعر – ربما – بحيرتك كمتلق، تاركا إياك دون وصاية لتحكم وحدك على ما تراه.
ويبقى في الأخير أن الأكثر جمالا في هذا العرض هو مجموعة شباب ممثليه. الذي ينطق أداؤهم بوعي للهدف من العرض ويكشف عن قدرات تمثيلية أظنها ستطرحهم على الساحة بقوة في المقبل من الأيام.
عن: مسرحنا (العدد:806 بتاريخ: 06 فبراير 2023)