صدور النص المسرحي “الماضي فات” للمخرج المغربي (أنوار حساني)/ بشرى عمور
صدر حديثا النص المسرحي ”الماضي فات” للمخرج المسرحي (أنوار حساني)، عن مطبعة وراقة بلال بفاس.
ويتناول النص خلال ثلاثة عشر مشهد فكرة عودة الذات إلى نفسها، صور تنعكس في دار العجزة بين أشخاص جمعتهم ظروف وهموم في فضاء مشترك.
وقد اثت النص بمقدمة للكاتب والمخرج المسرحي (د. إبراهيم الهنائي) والتي جاء فيها:
” بشرفني صديقي الفنان المتألق بتقديم عمله المسرحي : الماضي فات”. هذا الإبداع الذي يندرج في سياق مجموعة أعمال ناجحة ساقت المجموعة إلى مسارح وخشبات مجموعة من الدول: كندا..مصر..روسيا البيضاء..بلجيكا…الكويت البحرين …الأردن…تونس….الهند…روسيا….. …..
وهكذا تنظاف اليوم متعة القراءة إلى متعة مشاهدة عروضه المستمرة.
يهدي اليوم المخرج/الكاتب أنوار حساني قرائه عمله “الماضي فات”. ينقلنا من الركح المتعارف عليه والذي استضافتنا فيه كل أعماله إلى الركح الآخر الذي هو االأثر الأدبي الذي بين أيدي القارئ. وهكذا يسير أنوار حساني في طريق كبار الكتاب المسرحيين الذين لا يقبلون على طبع أعمالهم المسرحية حتى تكون اجتازت المحك الحقيقي للعمل المسرحي : الركح.
نحن بالتالي أمام عمل مسرحي تخطى بنجاح الإمتحان الأصعب. أن يمتع المشاهد ويفيده عبر مناقشة مواضيع حساسة: التنكر وعدم الاعتراف….طمس الذاكرة الحية…الدفاع عن القضية الوطنية.
نحن أمام ركح كتب أساسا ليأخذ مساره فوق الركح وبالركح. ولا أدل على ذلك أكثر من الإرشادات المسرحية والتقطيع الدراماتورجي الذي نستشف من خلاله أننا أمام كتابة ركحية بالأساس. فالنص كتب في أفق الإنجاز الركحي. لسنا أمام كاتب مسرحي يكتب في عزلة تامة عن واقعه وعن كل مكونات الخشبة. الفنان أنوار حساني يكتب بالكلمة كما يكتب بالصمت ولغة الجسد والإضاءة والتشكيل السينوغرافي. نحن أمام نص مسرحي لا يمكن أن يتغافل المحطة الأساس التي اجتازها بنجاح: نحن أمام نص يتذكر ماضيه الذي لم يمت. ماض اشتعل ركحيا قبل أن ييمم وجهة المكتوب كمحطة أخرى لا تقل متعة. وبالتالي فالنص الذي بين أيدينا لا يمكنه أن ينسى القارئ الأول: المشاهد.
أكيد أن ألفريد موسي نادى بمسرح الكنبة (1) ولكن المسرح يبقى تلك المتعة الزائلة التي تتشكل الآن هنا أمام المشاهد. متعة لا تتكرر بنفس الدرجة بحيث لا نستحم من نفس النهر مرتين.
لكن هذا لا ينفي متعة قراءة العمل المسرحي كأثر مكتوب. لا سيما إذا تمت الكتابة وفق تصور أولي للركح ومكوناته. فقراءة العمل المسرحي تعطينا تلك المتعة الأخرى التي بموحبها يصبح القارئ “مخرجا” لما يقرأه. ثم إنه لولا المكتبة المسرحية الكبيرة لما عرفنا نصوص موليير وراسين وسوفوكليس وسعد الله ونوس وعبد الكريم برشيد وأريسطوفانيس وغابيللي وممدوح عدوان وتشيخوف وشكسبير وكانطور تاديوش وغيرهم… بحيث لا يمكن لأي مشاهد أن يتواجد عبر كل العصور والأزمنة كي يشاهد كل هذه الأعمال. ذلك لأن العرض محكوم بالآن/هنا بخلاف النص المسرحي الذي لا يعرف التقادم والذي يبقى مشروعا مفتوحا لعدة تناولات.
من هنا ورجوعا إلى مسرحية “الماضي فات” يطرح التساؤل المشروع: كم عدد الذين شاهدوا العرض؟ ومهما كان هذا العدد فإنه لن يصمد أمام عدد الذين سيقرؤون الأثر المكتوب.
من هنا تظهر مشروعية طبع الأعمال المسرحية الناجحة. إن لم نقل ضرورة طبعها. وتاريخ المسرح المغربي غني بتناسي الأعمال الخالدة -سواء منها الأعمال المسرحية الاحترافية الناجحة أو الأعمال الرائعة لمسرح الهواة-التي كانت وكأنها ما كانت. لم يبق منها شيئ سوى الذكرى…..
لهذا قرر الفنان المخرج إصدار عمله المسرحي “الماضي فات” كي لا يكون الماضي فعلا فات….
عن دار اللي ما عندو دار:
في مدخل العمل يستضيفنا الكاتب أنوار حساني إلى منزل لا ككل المنازل… في البداية تسأل مديرة دار العجزة:
–سبق ليك سمعتى على دار اللي ما عندو دار؟
النزيل:
شحال هاذي لا…ولكن هاذ التواخير سمعت عليها شلا….
نحن في دار العجزة….دار من حكمت عليهم أقدار إنسانية أن يصبحوا عجزة رغم أنه لا زال ” في القلب شيء يستحق الانتباه”(2)…فضاء تلجأ إليه شريحة تنكر لها المجتمع فأضاعت بوصلة الطريق:
بريك الفلاح الذي باع كل أراضيه جريا وراء قنينات الخمر وأحضان النساء..
أحمد الشاوي الذي قضى نصف حياته يصارع الموج وراء لقمة عيش قبل أن يسقط مشلولا بسبب خطإ الآلة…نسيه البحر ورغم ذلك لم ينس البحر كبحار ميشيما الذي لفظه البحر (3) ….لفظه البحر كما طرده من المنزل ابنه أسامه الذي أصبح بائع أسماك كبير بالمدينة….
عيزون الملاكم البطل الأولمبي الذي اضطر إلى بيع ميداليتين من الثلاث التي كسب كي يجد قوت يومه. نزيل ” ما عندوش مع الهضرة بزاف” لأن يده تسبق لسانه لتحسم جل المواقف…دخل التاريخ لكنه “خرج منو بكري”….
لماني النزيل الذي يحمل جرح ثلاث وعشرين سنة من التعذيب في سجون المرتزقة والذي لم يستطع التعذيب الوحشي إرغامه على التخلي على مبادئه الوطنية…
هؤلاء نزلاء “دار اللي ما عندو دار” يتذكرون الماضي الجميل…الماضي الذي فات. يحملونه بين طيات الضلوع كما تحمل شخصيات تاديوش كانطور المخرج البولندي الذائع الصيت ماضيها عبارة عن كركوزات كبيرة الحجم فوق ظهورها…
جداول لمستقبل آت:
فهل فعلا الماضي فات؟
هل يموت الماضي؟
ما أن تبدأ شخصيات أنوار حساني حواراتها حتى يعود الماضى بكل مسراته وأحزانه: الأرض بيعت، أجمل مراحل العمر مرت في “للا ومالي وتقرقيب السطالي” والليالي الحمراء مع “مولات الشعر”… ضاع عمر لماني في السجون وساق البحار بترتها الآلة التي لا ترحم…قبضة عيزون لم تعد تصلح إلا لتلميع آخر ميدالية….
لكن الماضي لم يمت…المديرة تخبر لماني أنه أصبح رمزا للتضحية الوطنية وأن المسؤولين يبحثون عنه ليكافئوه على إنسانيته وصموده…في انتظار خروج لماني من دار العجزة ها هو عيزون يلمع آخر ميدالياته الثلاث ويهديها له. كما لو أن الميدالية انتظرت لماني ثلاثة وعشرين سنة. ثم ها هى الممرضة تتحدث عن لماني بتأثر. بحرقة الطفلة التي ترى فيه أباها الذي افتقدته منذ الصغر. كما لو أنها ابنة لماني…ابنة البطل..ابنة الإنسان….ابنة الوطن.
فهل “الماضي فات”؟ أليس الماضي حجر تأسيس للمستقبل الآتي؟ إنها الذاكرة المستقبلية. تمتح من أنهار الماضي لترسم جداول المستقبل المشرق….لترسم ذلك الغد الذي لن يضطر فيه بطل ملاكم لبيع ميدالياته…غد لن ينس فيه البحر البحار ولن يلفظه كما لن يتجرأ ” الباطرون مول الباطو” بالتصدق “بمقيلة حوت ” لبحار قضى نصف عمره في خدمته وفي مواجهة أهوال البحر. غد يرفع فيه لماني صوته دون خوف مرددا أن دول المغرب العربي خمسة: تونس وموريطانيا وليبا والجزائر والمغرب….
وما عداها سراب يغذي سرابا لا بأرض يستقر.
فهل كنا في دار عجزة؟“
(1): Le théâtre dans un fauteuil.
(2): مقتطف من شعر صلاح الوديع. مغنى من طرف الفنان حسن شيكار.
(3): Le marin rejeté par la mer. Roman de Mishima