قراءة تحليلية لنص وعرض مسرحية (دعبلك) – ج1/ أ.د مجيد حميد الجبوري
ضفتان أم ضفة لا انتهاء لها؟!
أولا: قراءة في النص
(دعبلك) هو النص المسرحي السادس المنشور ضمن كتاب “مسرح اللاتوقع الحركي القصير – بيان رؤية ونصوص” للمخرج المجرب (الدكتور ماهر الكتيباني) (1) وتم عرض لهذه المسرحية في ختام (أيام البصرة المسرحية) في دورته الثانية المنعقدة للفترة من 30 يونيو ولغاية 02 يوليو 2022؛ وتعد هذه المسرحية استمرارية للمشروع التجريبي المبتكر للدكتور (الكتيباني) والمعروف (مسرح اللاتوقع الحركي القصير). وقد أدى العرض بمهارة أربعة ممثلين شباب مجتهدين هم كل من (مؤيد كريم؛ و زين عماد، و محمد كشكولي، و عبد الرحمن الربيعي).
إن أول ما يلفت الانتباه في نص هذه المسرحية هو فرادة عنوانها وغرابته؛ فلفظة (دعبلك) إن تتبعها الباحث في معاجم اللغة العربية الفصحى؛ لن يجد لها وجودا ولا أثرا؛ لذا فإن عليه البحث في معاجم أخرى؛ أو لغات أخرى؛ وقد عثر كاتب هذه السطور على أثر لها في اللهجة العراقية الدراجة؛ فلفظة (دعبلك) تقابلها بالعربية الفصحى لفظة (دَحْرَجَكَ) أي أن شخصاً ما قام بدحرجة آخر؛ أو أن شيئا قام بدحرجة شيءٍ أمامه. وأن الأول هو الذي قام بالفعل؛ وأن الثاني هو من وقع عليه الفعل. ومن هنا فأن الانطباع الأول الذي يخرج به قارئ النص أنه أمام عملية (دحرجة) لأشخاص أو أشياء؛ وعندما يتعرف القارئ على شخصيات هذا النص المسرحي يجد أن جميع الشخصيات جاءت تحت تسمية واحدة وهي (شيء) ؛ وهذا يعني أن الشخصيات الأربع التي قدمها العرض – ولم يتضح عددها في النص – هي أشياء وليست أناسا؛ او أنها شخصيات تخلت عن إنسانيتها لتصبح أشياءً؛ وأن هذه الأشياء هي أشياء غير معروفة أو مجهولة الهوية؛ بدليل أن أسماء الشخصيات جاءت بصيغة الإنكار وخالية من أي أداة للتعريف (شيء).
من جهة أخرى فأن الشخصيات الأربع التي قدمها العرض هي: أما أن تكون شخصيات أربع تماثلت مع بعضها سلوكا وتصرفات؛ أو أنها شخصية واحدة انشطرت الى أربع شخصيات أو ماهيات؛ والرأي الأخير هو ما يتبناه كاتب هذه السطور؛ بدلالة التشابه في سلوك الشخصيات الأربعة؛ وتواصلية خطاب حوار المسرحية؛ الذي يشي بأنه صادر عن شخصية واحدة؛ وأن أي اختلاف يرد في هذا الخطاب فإنه يمثل تداعيات لشخصية واحدة؛ فهو يجري ضمن تيار الوعي الذي تتداعى فيه أفكار الشخصية بلا انتظام؛ بوصف أن لغة الحوار في نصوص (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) هي لغة تعبيرية تعتمد الجمل والعبارات القصيرة والمبتورة؛ التي تنتقل جملها وعباراتها في قفزات مفاجئة؛ أو أنها تكثر من وجود الفجوات؛ أو ما هو مسكوت عنه؛ فـ(مسرح اللاتوقع الحركي القصير) يستهدف جعل المتلقي – قارئاً أو مشاهدا – بموقف المتلقي المفكر والمفسر والمشارك في خلق المعنى؛ لا بموقف المتلقي السلبي الذي يطلب من النص أو العرض تقديم المعاني والتفسيرات على طبق من السطحية الواقعية.
وتأسيسا على ما تقدم فأن القارئ للنص يجد نفسه؛ أمام شخصيات تحولت الى أشياء؛ أو أنه أمام شخصية واحدة تشيئت وانشطرت الى أربعة أشياء؛ وسواء أكانت الشخصيات أشياءً أو أن الشخصية تبعثرت الى أربعة أشياء؛ فأن النص أراد أن يوجه أولى رسائله المهمة للجمهور وهي: أن الإنسانية برمتها تحولت الى أشياء؛ وأن الانسان بكل عظمته وعنفوانه غدا شيئا في وسط هذا الزحام الفوضوي الذي لا انتهاء له من الأشياء التي غدت بديلا عن الجهد الذي يبذله الإنسان في كافة مجالات الحياة؛ فالتقنيات والآليات الحديثة والعالم الرقمي استعاضت عن الجهد الإنساني وحتى الابتكار الإنساني؛ وقدمت مقترحاتٍ وحلولاً لا عد لها ولا حصر لمختلف المشكلات الإنسانية؛ وأن الإنسان لم يعد قادرا – إلا ما ندر – على أن يتفوق على قدرات هذه التكنولوجيا الهائلة المتضخمة في كل لحظة؛ وعلى هذا الغزو الرقمي الذي لا حدود له ولا انتهاء؛ مما جعله وسط كل هذه الأشياء الآلية؛ شيئا هو الآخر؛ لا يستطيع تمييز نفسه عنها إلا بصعوبة بالغة؛ وهذا ما تشير إليه المسرحية بكلمتي (هنا) و (هناك)؛ فالأولى تشير الى (هذه الضفة) التي قف عليها الشخصيات؛ والثانية تشير الى (الضفة الأخرى) البعيدة عن مرآى الشخصيات (2)؛ فالضفة التي توجد فيها الشخصيات – على وفق هذا الفهم – هي ضفة الإنسانية والضفة الأخرى هي ضفة التشيوء أو الآلية؛ وبعدما انعدمت رؤية أي مسافة بين الضفتين؛ فأن الضفة التي توجد فيها الشخصيات الأربعة أو الأشياء الأربع؛ والضفة الأخرى؛ أصبحتا ضفة واحدة لا أنتهاءَ لها.
إن تشيوء الإنسانية يجعل الإنسان بلا أسم ولا هوية ولا عنوان؛ وأن مفردة (شيء) المجردة؛ الواردة في متن النص تنفتح على مساحات وفضاءات واسعة لا حصر لها؛ بما تجعل المتلقي في مواجهة كائنات مبهمة غير محددة الملامح والسمات؛ وأن على المتلقي أن يتدخل لوضع أو تخيل ملامح تلك الشخصيات وسماتها؛ وهذا ما يفسر الصعوبات التي يجدها المتلقي قارئا كان أو مشاهدا في فهم واستيعاب رسائل هذا النص أو هذا العرض؛ ما لم يراجع النص أكثر من مرة؛ ويشاهد العرض أكثر من مرة.
وبالعودة لعتبة النص الأولى أو عنوانه الذي يُعد مفتاحا لفهم النص وكذا العرض؛ فإن مفردة (دعبلك) المقابلة لمفردة (دَحْرَجَكَ) الفصيحة تشير الى مضان ومعانٍ كثيرة تشتغل داخل النص أو العرض؛ فهي أما أن تشير الى أن الشخصيات (تتدحرج) في حركتها داخل الحياة؛ أو أن مصائرها هي مصائر (متدحرجة) غير معروفة النهايات؛ أو أن الأفعال والسلوكيات التي تمارسها الشخصيات هي أفعال وسلوكيات (متدحرجة) غير مجدية؛ أو أن الصراع بين هذه الشخصيات؛ أو بين هذه الشخصيات ومحيطها هو صراع (متدحرج) يزداد قوة مع ازدياد هذا (التدحرج) ؛ علما بأن عميلة (الدحرجة) تكون – في العادة – من موضع أعلى الى موضع أسفل؛ وهذا ما يعني بأن حركة الشخصيات في هذه المسرحية تنحدر – دائما – الى الأسفل؛ وأن مصائر هذه الشخصيات تنحدر نحو هوة لا قرار لها؛ وأن أفعال هذه الشخصيات سلوكياتها تنحدر بها الى قيم دونية؛ وأن صراع هذه الشخصيات فيما بينها؛ أو فيما بينها وبين محيطها ينحدر نحو الضعف والاستسلام، وليس نحو المواجهة والتحدي.
من جهة أخرى؛ فإن حوار هذه المسرحية؛ لا يُعد خطابا متبادلا بين شخصيات؛ بل يبدو وكأنه خطاب تداعياتٍ لشخصية واحدة؛ إذ لا يقطع استمراريته وتدفقه سوى القفز بين الأفكار؛ حتى يبدو في مجمله؛ وكأنه هلوسة شخصيات أضاعت سبيل خلاصها؛ أو هلوسة شخصية ظلت طريقها وتبحث عن وسيلة تنقلها من ضفة الواقع الى ضفة أخرى؛ وبحسب النص فإن الهلوسة تقفز بين مستويات متعددة ومتناقضة أحيانا؛ فتارة تقترب من اليقظة والوعي؛ وتارة تبتعد كثيرا عن ذلك؛ بدليل الحوار الآتي:
((شيء: أنت تعرف إذاً الضفة الأخرى..
شيء: لا توجد ضفة..
شيء: ماذا…
شيء: مجددا..
شيء: كيف يكون ذلك..
شيء: من العار أن لا يكون عارفاً ..
شيء: من العار أن لا تكون عارفاً..)) (3)
ومع ملاحظة بان المؤلف في أغلب عبارات الحوار يضع نقاطا تدل على إمكانية استمرارية العبارات لكنها قطعت بسبب القفز المتواصل نحو أفكار مختلفة؛ تفضي الى احتمالات متعددة؛ تارة تؤكد وجود ضفة أخرى؛ وتارة تشك بوجودها وترى أن ما يتراءى لها ما هو إلا امتداد للضفة التي لا انتهاء لها؛ وهي الضفة التي توجد فيها الشخصيات؛ وتارة ثالثة تؤكد احتمالية وجود الضفة الأخرى ولكنها بعيدة لدرجة لا يمكن رؤيتها لا بالعين المجردة ولا بالمنظار:
((شيء: أجد تلك الضفة بلا أنتهاء..
شيء: بعيدة …
شيء: ضفة تكاد أن تكون بلا انقطاع..
شيء: لا أتفق معهم.
شيء: هناك من لا يتفق أيضا…))(4)
ومع عدم الاتفاق على وجود ضفة أخرى أو بعدها؛ أو أنها ضفة لا انتهاء لها؛ غير أن الشخصيات تقفز للبحث عن حل يساعدها على العبور؛ وهذا ما يولد خلافاً أعمق من الخلاف الأول؛ ويصعد من وتيرة الصراع؛ ويضع الشخصيات الأربع أو تشظيات الشخصية الواحدة بدوامة من التساؤلات المحيرة التي لا انتهاء لها:
((شيء: هل تمتلك حلا..
شيء: هناك سر..
شيء: بل أسرار..
شيء: كيف السبيل..)) (5)
وفي كل الأحوال فأن الشخصية أو الشخصيات الأربع تجد نفسها على شاطئ بحرٍ؛ تباعدت ضفتيه عن بعضهما بعداً شاسعاً؛ وأن الضفة الأخرى تمثل الحلم أو الخلاص المنتظر؛ وأن العبور من الضفة التي تتواجد فيها الشخصيات؛ الى الضفة الأخرى هو صعب المنال؛ لأنه يتطلب مغامرة مليئة بالمخاطر؛ وهذا ما يجعل الشخصيات تغرق ببحر لا قرار له؛ من التساؤلات المحيرة:
(( شيء: هل تمتلك حلا..
شيء: هناك سر..
شيء: بل أسرار..
شيء: كيف السبيل..
شيء: هل عاد أحد من تلك الضفة..
شيء: لا أعرف..
شيء: أسأل غيري..
شيء: أمر محير..)) (6)
وبدلا من إيجاد حلٍ ما؛ فإن الشخصيات الأربع أو الأشياء الأربعة تغادر بحر التساؤلات لتحلق في فضاء الأحلام؛ ويبدو أن الحلم – بمنطق هذا النص – هو الأجدر بإيجاد الحلول لها من الواقع الذي تعيشه؛ إذ ترى الشخصيات أن الحلم هو الذي يكشف الأسرار؛ ويجعل الآخرين الذين هم في الضفة الأخرى يشاركون الشخصيات أو الأشياء في إيجاد الحلول:
(( شيء: حلمت مرة.. أنها ضفة قريبة..
شيء: كيف يمكنك أن تحلم..
شيء: حلمَ بأمرٍ ولم يقترف منكرا ..
شيء: بل المنكر كله في الحلم..
شيء: الحلم يحيلك على ضفاف أخرى..
………………
شيء: هل هناك من يفكرون..
شيء: بما نفكر..
شيء: ربما نكون ضفة أخرى للهناك..
شيء: هناك يحاولون إيجاد الحلول للوصول للهنا..)) (7)
غير أن هذا الاقتراب (الحلمي) من الحل سرعان ما يتبدد؛ عندما ترى أحد الشخصيات أو شطر من الشخصية (أنه أمر مهرقع) و (مهرقع) هذه لفظة نحتها المؤلف لا وجود لها في اللغة؛ وعدم وجودها يشير الى أن مثل هذا الحل لا يمكنه أن يحدث؛ وأن حل الأحلام هو حل غير قابل التحقق؛ أو أنه حل (اخرق) بدلالة قرب اللفظة المنحوتة من صفة الأخرق:
(( شيء: أمر مهرقع فعلا..
شيء: الهنا يريدون التحليق الى الهناك..
شيء: يا للمصيبة..
شيء: غابة من الأسرار تكتنف هناك..)) (8)
ومصيبة الحل (الحلمي) تكمن في مسألة (التحليق الى هناك)؛ فالباحثون عن الضفة الأخرى الذين هم في هذه الضفة؛ يريدون الوصول الى الضفة المقابلة بواسطة التحليق؛ في حين أن الحل الواقعي يتطلب عبور البحر وليس التحليق عليه؛ والتحليق هو غير العبور؛ إذ أن التحليق يعني القفز على الأشياء؛ والقفز على الأشياء يعني عدم أدراك لماهية تلك الأشياء؛ في حين أن العبور يحتاج الى جهد للخوض في تلك الأشياء والتعامل معها لأدراكها ومعرفة ماهياتها؛ وهذا ما يزيد من الأسرار ويكثفها ويجعلها غابة من الأسرار التي يكتنفها الغموض.
ومن خلال الصورة الشعرية لهذا الموقف (الحلمي) يرسل النص؛ الى متلقيه رسالة مفادها عليكم حين تشتد الأمور غموضا – كما يحدث حاليا في العراق – أن لا تقفزوا فوق الأشياء؛ بل حاولوا الخوض فيها وأدراكها وأدراك ماهيتها؛ بدلا من التحليق في عالم من الأحلام غير المجدية.
ومع كثرة الحلول المقترحة؛ غير أن أكثرها جدية – كما يبدو – هو الحل الذي يرى أن هناك تقاربا الضفتين؛ وأن المسافة يبنهما هي لا تزيد عن مرمى حجر:
((شيء: الجاد في الشيء، أن الضفة الأخرى..
شيء: على مرمى حجر من هنا..)) (9)
إن هذا المقترح يرى أن الآخر الموجود في الضفة الأخرى هو قريب من الموجود على هذه الضفة؛ وذلك يشي بأن تقاربا فكريا يمكن أن يوجد بين الموجودين في كلا الضفتين؛ وإن الاثنين يمكن أن يعملان على إيجاد الحلول؛ وما بين شك في وجود هذا التقارب من عدمه؛ يعود مقترح الحلم مرة أخرى؛ ليطفو على السطح:
((شيء: أقترح أن نحلم..
شيء: هنا لا معنى للحلم..
شيء: حلماً عميقا بلا أنتهاء..
شيء: مثل تلك الضفة يمكن كشف أسرارها … يقصد أن الكشف يمكن أن يظهر من خلال الحلم – الباحث
شيء: بسهولة أستطيع التعرف على الأمر)) (10)
وبين التروي والعودة الى العقل وبين الذهاب باتجاه التحليق في فضاء الأحلام ينتهي الموجودون هنا؛ الى اكتشاف أن الضفتين ربما هما ضفة واحدة لا أنتهاء لها؛ وأن رؤية ضفة أخرى ربما يكون مجرد خداع بصر:
((شيء: قد يكون الأمر مجرد خدعة..
شيء: هل أنت واثق من أننا هنا..
شيء: أرى الأمر كله خدعة..
……………
شيء: ربما لا توجد ضفة أخرى..
……………
شيء: ضفة بعيدة بلا أنتهاء..
شيء: لا أدري هل الضفة هنا أم هناك
شيء: ضفة … لا انتهاء..)) (11)
إن هذا الاستعراض المطول للنص؛ لم يكن القصد منه شرح تفاصيل النص؛ بقدر ما كانت الغاية منه هو بيان دوامة الأسئلة الملحة التي تواجه شخصيات النص/ الأشياء؛ والتي لا جواب لها؛ محيلة مسؤولية أجابتها على قراء النص ومتلقي العرض.
الهوامش:
(1): ماهر عبد الجبار الكتيباني، مسرحية (دعبلك) ضمن كتاب مسرح اللاتوقع الحركي القصير – بيان رؤية ونصوص، البصرة: دار الفنون والآداب، 2021،ص: 79 –
(2): المصدر نفسه والصفحات نفسها.
(3): (4) : المصدر نفسه، ص: 80.
(5)و (6) : المصدر نفسه، ص: 81
(7) : المصدر نفسه، ص: 81 – 82.
(8) :المصدر نفسه، ص: 82.
(9): المصدر نفسه، ص: 83.
(10): المصدر نفسه، ص: 84.
(11) : المصدر نفسه، ص: 85 – 87