كتاب الخميس (الحلقة السابعة والثلاثون)/ عرض و قراءة: د. عبد اللطيف ندير
*****************************
المرتجلة في مسرحيات المبدع المسرحي محمد خشلة
يُعَرّف باتريس بافيس المرتجلة بأنها: «مسرحية تقوم نظريا على الارتجال، وأنها تتناول في الغالب قضايا الكتاب والممثلين» كما يعرفها أيضا على أنها:«مسرحية يتم ارتجالها، أو على الأقل هكذا تقدم نفسها، أي أنها تتظاهر بالارتجال وهي تتحدث عن إبداع مسرحي. فيظهر الممثلون وكأنهم يبتكرون حكاية، ويقدمون شخصيات، وكأنهم يرتجلون فعلا»،وهي بذلك، تعتبر مشروعا مسرحيا حديثا يندرج ضمن الصيغ المتعددة للتجريب المسرحي، وهي أسلوب طارئ على المسرح المغربي بشكل خاص، والمسرح العربي بشكل عام، فتاريخيا مارس المسرحيون المغاربة فن المرتجلة أكثر من غيرهم من كُتّاب المسرح العرب، منذ البدايات الأولى من عقد السبعينات من القرن الماضي، نظرا لاطلاعهم الكبير على تيارات الدراما العالمية، ونظرا لانفتاحهم الواسع على تجارب المسرح الغربي خصوصا الكوميديا ديلارتي الإيطالية، ونظرا لتكسيرهم للعبة المسرحية الكلاسيكية المتمثلة في المسرح التقليدي الكلاسيكي مع معانقة التجريب المسرحي في شتى أنواعه واتجاهاته ودروبه المختلفة، لذلك يسجل الريبيرتوار المسرحي المغربي الكثير من مثل هذه التجارب الحديثة، التي التجأ اليها بعض المسرحيين المغاربة خصوصا في تجارب في مسرح الهواة، والغاية من ذلك هي تعرية لعبة الكتابة الدرامية التي تعتريها جملة من النقائص أو الاختلالات، وفضح جوانب من الممارسة المسرحية داخل الفرق والجمعيات، مع مكاشفة واقعها المزري وانتقاد بعض مكونات العرض أمام جمهور المتلقين، وهي بذلك تكسر المألوف والنمط السائد في تجارب أبي الفنون، فيكون فيها موضوعُ المسرح ومشاكلُه والعاملون فيه هو الاساس في طرح قضاياه وأحداث المسرحية، وذلك في سياق ميتا مسرحي. بحيث يصبح المسرح يتحدث عن نفسه ومشاكله وقضاياه، أو حينما يقدم المسرح نفسه بنفسه.
وبالعودة إلى تاريخ الكتابة للمسرح، يبقى تأليف المرتجلات ومرجعياتها جد محدود، لعل أهمها ثلاث مرتجلات للويجي بيرانديللو: “ست شخصيات تبحث عن مؤلف (L’impromptu de Six personnages à la recherche d’un auteur ،(1921)
ومرتجلة شيخ على طريقته (1924) و”هذا المساء نرتجل(Ce soir on improvise)(1930)، ولمولييرمرتجلة فرساي (L’impromptu de versaille)(1663)، ولجان جيرودو مرتجلة باريس (L’impromptu de Paris) (1937)، وليوجين يونسكو مرتجلة ألما ((L’impromptu d’Alma(1956) ،ولجونكوكتو مرتجلة القصر الملكي ” (L’impromptu du palais Royal) (1962).
أما في المغرب، فقد عرفت خشباته مرتجلات او مسرحيات تتضمن مرتجلات شاركت بها جمعيات في اطار تجربة المهرجانات الوطنية لمسرح الهواة، غير أنه ما نشر من هذه المرتجلات في المغرب يبقى محدودا جدا نذكر منها :
ـ “عاش الجمهور اقتلوا المخرج” لأنور المرتجي نشرت بمجلة البعث الثقافي في عددها الأول ـ مارس 1973
ـ “دعونا نمثل” لمحمد إبراهيم بوعلو ـ دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1977
ـ “المرتجلة الجديدة” و “مرتجلة فاس” للمرحوم محمد الكغاط ـ مطبعة سبو ـ الدارالبيضاء 1991
ـ “مرتجلة اشميشا للا ” لنفس المؤلف ـ منشورات جمعية محمد الكغاط (فاس) ـ مطبعة بانوراميك (الدارالبيضاء) ـ 2003
ـ ” الممثلون يتمرنون ” (ضمن المجموعة الخضراء) للمرحوم عبدالله شقرون ـ مطبعة النجاح الجديدة ( الدارالبيضاء) 2002
ـ ” مرتجلة ياقوت ” لمحمد عبد الفتاح ـ مطبعة تافيلالت (الراشيدية) 2004
وتبقى مرتجلات الدكتور محمد الكغاط من أهم المرتجلات المسرحية المنشورة في تاريخ المغرب لأنها تحمل الخصوصيات الفنية والجمالية لفن المرتجلة التي أبدعها رواد المسرح العالمي كـ: بيرانديللو وموليير وجيرودو ويونسكو، وقد لجأ المرحوم إلى هذا النوع الحداثي من المسرح برؤية جامحة وعين ناقدة لواقع المسرح المغربي المزري الذي كان يعاني من كثير من الاكراهات الاجتماعية والتقنية والهيكلية، مع فضح بعض المشاكل العالقة التي يتخبط فيها أبو الفنون، وإبراز صراعات المسرحيين فيما بينهم، وبين مؤلفي الدراما مع المخرجين، وفيما بين الممارسين المسرحيين والنقاد، وبين المسرحيين ولجان التحكيم، وبين المسرحيين و مدراء قاعات العروض.
هي مشاكل ـ كانت تُطرح بالجملة وما تزال ـ يُظهرها هؤلاء الملسوعون بهموم المسرح مع جمهورهم ليتقاسموا معهم مجموعة من القضايا العالقة وكأنهم يُحمّلون هذه المسؤولية للرأي العام سواء بشكل مباشر من خلال تقديم ومشاهدة العرض، أو غير مباشر من خلال قراءة نصوص هذه المرتجلات التي عرفت طريقها للنشر.
إنه صراع المسارح داخل المسرح الذي ينخرط فيه الممثلون من خلال محاكاة الأحداث المبنية أساسا على موضوع المسرح، بحيث يمارسون فيه فعل النقد ضمن منظومة إبداعية تُراعَى فيها كل الشروط التقنية للمسرح، وتُقدَّمُ على شكل محاكمات مُمَسْرَحَة (Procès théâtralisés).
د. محمد خشلة
وارتباطا بالموضوع، فإن كاتب هذه المرتجلات الثلاثة الفنان المسرحي الأستاذ محمد خشلة لم يكن خارج هذا السياق، ولم يكن دخيلا عليه، بل هو جزء من صلب العملية المسرحية في كل أشكالها وأبعادها، فهو علم شامخ من أَعلام المسرح المغربي المتميزين، ورائد من رواد التجربة المسرحية المغربية، مارس المسرح في كل تنويعاته: ممثلا ومؤلفا ومخرجا وتقنيا ومُنَظّرا ومُنظٌّما ومؤطرا، عشق المسرح بكل شغف، وشَخَّصَه بكل متعة و مارسه بكل لذة، حزن بأحزانه بكل ألم، وفرح بآماله بكل ألم ، وعانق همومه بكل إحساس، مارس فيه كل أشكاله التعبيرية، وجرب من خلاله كثيرا من تياراته التجريبية، فخَبَرَ عوالمه الفلسفية ومستوياته التقنية وأبعاده الفكرية، فَعَشقَه بعمق الممارس المتعطش، وانغمس فيه بصدق العاشق المتيم، وتفاعل فيه بقيم جمالية، وتواصل فيه بولع المنفتح، وهاجسه في ذلك هو البحث عن ممارسة مسرحية تضمن شروط المتعة داخل سياق مشروع تجريبي يحكمه التعدد في بناء تصورات فنية ورؤى جمالية.
طقوس محمد خشلة في ممارسته للمسرح لا يمكنها الا أن تكون داخل محراب الحس الجمالي، تحكمها أنشودة البوح داخل ترانيم العشق والمعرفة، وكأن المسرح فضاء لتطهير الذات والنفس والسمو بهما إلى أعلى درجات النقاء والصفاء.
أغترف الفنان خشلة من الينابيع الأولى للمسرح بتراجيدياته الكبرى للمسرح اليوناني مع اسخيلوس وسوفوكل ويوربيديس وما تلاه من مسارح للحضارات المتعاقبة بأعلامها وروادها الى المسرح الايليزابيتي العريق، ثم الى ما انتجه عصرنا الحديث من تجارب وتيارات المجتمع الغربي ما بعد بريشت.
ومثلما واكب محمد خشلة هَوَسَ التأليف والاخراج في كثير من التجارب المغربية والعربية والعالمية وأنتج من خلالها عشرات الاعمال منذ ستينيات من القرن الماضي، فقد انخرط أيضا في امتطاء صهوة التنظير المسرحي، فأصدر ورقته الأولى تحت اسم “مسرح التكامل” التي نشرت في حينها بمنابر اعلامية سنة 1984 والتي دخلت في جدال واسع مثلما عاشته باقي التجارب التنظيرية المسرحية العربية والمغربية، والتي اشتعل فيها فتيل التنظير المغربي لكل من عبدالكريم برشيد في أوراقه التنظيرية للمسرح الاحتفالي والمسكيني الصغير في في ورقته للمسرح الثالث ومحمد مسكين في تجربته لمسرح النقد والشهادة وحوري حسين في ورقَتَيْه لمسرح المرحلة ومنتصر الريسوني في تجربة المسرح الاسلامي وسعدالله عبدالمجيد في أوراقه الخمسة للمسرح الفقير وعبدالقادر اعبابو في تجربته التقنية للمسرح الجدلي، وأوراق أخرى ذات أهمية بالغة لكنه لم يصرح بها كأوراق من مثل المسرح الذي نريد لكويندي سالم، والاحتفالية الجديدة لمحمد الوادي والمسرح الخفيف لعبدالرحيم الشراد.
لقد بقي محمد خشلة وفيا لمشروعه التنظيري منذ أكثر من سبع وثلاثين سنة إلى أن أصدر لهذه التجربة كتابين قيمين ضمن اصدارات أمنية للإبداع والتواصل الاول يحمل اسم ” مسرح التكامل” ضمن السلسلة المسرحية رقم 26 الصادر سنة 2013، والكتاب الثاني يحمل اسم ” الدرس المسرحي عند مسرح الهواة ” ضمن السلسلة المسرحية رقم 52 الصادر سنة 2020 ليتوج مشروعه التوثيقي خلال هذه السنة بإصدار ثلاث مرتجلات مسرحية في كتاب ضمن نفس المؤسسة داخل السلسلة المسرحية تحت رقم 54.
إن هذا الكتاب يعتبر الأول من نوعه في تاريخ النشر المغربي، ذلك أنه لم يسبق لأي كاتب مغربي أن نشر ثلاث مرتجلات في كتاب دفعة واحدة، يليه بعد ذلك محمد الكغاط في كتابه المرتجلة الجديدة الذي يضم مرتجلتين مسرحيتين ، كما يتوازى أيضا مع محمد الكغاط في أكبر عدد من المرتجلات الصادرة في المغرب (ثلاث مرتجلات لكل واحد)، وبناء على هذه الاعتبارات يمكن القول إن هذا الكتاب يحمل أهمية كبيرة وبالغة لما له من فرادة توثيقية من جهة، ولأنه اخترق مجالا خاصا وصعبا للكتابة المسرحية وهو عوالم المرتجلة، التي لا يكتب فيه المسرحيون العرب الا لماما.
يضم هذا الكتاب المرتجلات المسرحية التالية:
ـ مرتجلة 11 شتنبر ـ مرتجلة كورونا ـ مرتجلة عطيل
ـ ففي مرتجلة 11 شتنبر، انصب اهتمام محمد خشلة على الممثل باعتباره هو الأساس في المنظومة المسرحية، فعالج من خلاله مدى أهمية إحاطته بتاريخ المسرح المغربي ومدى تحمله المسؤولية الأخلاقية والتاريخية في القيام بواجبه كفنان في نشر الوعي ووترسيخ قيم الجمال والبهجة داخل المجتمع. لأنه في أداء واجبه الاجتماعي فهو يختلف عن باقي المتدخلين في بناء المجتمع. . ـ في حين نجد أن مرتجلة كورونا، تتعرض إلى مدى حنكة الممثل في استعمال ثقافته الشخصية في الارتجال. وقد تجلى ذلك في المحاورة بين مجموعة من الممثلين والمخرج حول قضايا مجتمعية تطرح للنقاش وابداء الرأي لكن بصور وأفكار متعددة، ومواقف متناقضة، وبمرجعيات مختلفة. ـ بينما خصص الكاتب في مرتجلته الأخيرة (مرتجلة عطيل) العلاقة التي تربط بين الممثلين فيما بينهم والصراعات التي يتخبطون فيها فوق الخشبة من جهة، وبين أعضاء الجمعية المسرحية مع جمهور من الشباب دخل قاعة المسرح وهو مشحون بحمولة جمهور الملاعب الرياضية، لا يحترم طقوس المسرح بالتشويش واحداث الضجيج، فيفتح المسرحيون نقاشا مفتوحا مع هذا الصنف من المتفرجين، فيفتح معه العتاب واللوم بين هذا الطرف وذاك في تواصل مباشر وحوار صريح وشفاف.
تتحدد تيمة هذه المرتجلة أيضا في مناهضة النظرة الدونية التي ما فتئت تعتري المسرحيين والفنانين والجمهور بصفة عامة داخل المجتمع المغربي، كما تنبهنا إلى معالجة السلوك التحقيري الذي يسود علائقنا المسرحية وتبني أخلاق مبنية على الاحترام التي يجب أن تحكم العلائق الاجتماعية والانسانية. دون أن يغفل الكاتب الظروف السيئة التي يعيشها المسرح بفعل ضعف الإمكانيات أو انعدام البنيات التحتية للمسرحيين للتداريب وعرض أعمالهم المسرحية.
تعتبر هذه المرتجلات فضاء للسخرية حد العبث، لما تحمل في طياتها من أحداث ومواقف تستشري فيها ظروف سيئة وغير عادية لهذا المسرح وممارسيه الذين بدورهم يتصفون بكثير من النقائص، وينخرهم التمييز العنصري فيما بينهم، وينقص أغلبهم أبسط مقومات التكوين المسرحي (مرتجلة عطيل) او ما يعانيه هذا المسرح من المعيقات كثيرة ومنها الجانب الاقتصادي والتعليمي والثقافي للمجتمع العربي، فشخصية العربي في مرتجلة (11 شتنبر) تعتبر صورة حقيقية للإنسان العربي الذي يعاني في الغرب كل أشكال الاضطراب النفسي والتعذيب الجسدي والروحي فيعيش داخل دوامة الهذيان وانفصام الشخصية، كما تنتقد المرتجلة مواضيع مسرحياتنا العربية التي تعيش على تمجيد الماضي، وهي بذلك تبقي ثابتة وجامدة وأسيرة لماض سحيق، ولا ترتبط بواقعنا المعيش، دون أن يعمم الكاتب ذلك على كل التجارب التي انتجها مسرحيونا من المحيط الى الخليج .
إن ما كتبه المبدع المسرحي محمد خشلة في هذا المشروع المسرحي الجديد المبني على فن (المرتجلة) يعتبر تحديا كبيرا لما يعيشه مسرحنا المغربي من ارتجاج في جسمه وذاكرته، وكأني بهذه المرتجلات يُوَجّه مجموعة من الرسائل حول واقع هذا المسرح الذي أصبح يعيش على كثير من الاكراهات سواء في محيطه الثقافي والاجتماعي والتواصلي، او من خلال تلك العلائق المضطربة بين المشتغلين في الحقل المسرحي التي تشوبها الأنانية وضيق الرؤية والصراعات الداخلية.
إن هذه المرتجلات الثلاثة ستعزز بلا شك الخزانة المسرحية المغربية بنوع جديد من الكتابة التي غالبا ما تستعصي على كثير من كتابنا الخوض فيها، وستفتح آفاق جديدة للقراء والممارسين للتفاعل معها.
د . ندير عبداللطيف