القصخون يعود ليحكي في العراق/ علي جابر الطائي

غياب قسري لفن الحكواتي يحرم الجمهور العراقي من مشاهدة القصخون في المهرجانات والتجمعات الشعبية، بل خلت منه المقاهي والأسواق التي طالما شغلها في عهود سابقة، ويرجح أن يكون خلف غيابه أسباب عديدة منها عدم تدريب أشخاص يمارسون هذا الفن على أيدي من سبقهم، مما سبب عدم تواصل الأجيال المؤدين لهذا الفن و اختفائه بغياب الجيل الأخير منهم، كما أن ظهور وسائل أعلام وتسلية جديدة مثل التلفاز والسينما ثم الهاتف الذكي جاء كعامل آخر أبعد القصخون جمهوره ولم يعد يسمع صوته ولا ترى حركاته ، وقد سبب ذلك الغياب خسارة لموروث ثقافي عراقي.

قد تكون صورة ‏‏‏شخص واحد‏، و‏وقوف‏‏ و‏حشد‏‏

 

الحكاية في الأدب العربي .

يشكل نقل الحكاية في مراحلها التاريخية الأولى وسيلة لمعرفة الأخبار و قد كان ذلك مهما للتواصل بين مختلف الشعوب و ” الحكاية الشعبية بمعنيين اولهما عام يشمل كل ما يحكى ويروى شفوياً بين الناس… و ثانيهما خاص ضيق يعني ما يحكى شفوياً بين الناس بشكل خاص” ([1]) ، و مما يميزه عن الأخبار المكتوبة أن ناقل الحكاية يضفي عليها إحساس شعر به حين شاهد الحدث أو سمع به فتراه يخرج عن حالته الطبيعية ليتقمص بعض شخصيات حكايته مع أنه لا ينغمس بعيدا في التمثيل أو التقليد، بل يكتفي بما يحقق هدف حكايته، مراعيا تواصله وإحساسه بجمهوره. فلا يغفل عن نظراتهم و أصوات دهشتهم، بل يجيب أحيانا عن أسئلتهم التي تعترض إكمال حكايته وفي أحيان أخرى يبادر هو بسؤالهم بدواعي إثارة مشاعرهم وتحفيزهم للاشتراك معه في سيرورة الأحداث، وتتزاحم التسميات العربية و المعربة لهذا النوع من الفن فقد كان يسمى الراوي و كثيرا ما اٌعتمد كلام الراوي في نقل الأحاديث والقصص والوقائع التي شهدها العالم العربي وتاريخنا العربي زاخر بأسماء الكثير من المرويات عن الرواة، و في وقت مبكر أيضا تم الانتباه إلى الفائدة الإرشادية و التعليمية لهذا الفن فكان الحكواتي يسرد قصصا للموعظة والإرشاد بصفته من الحكماء، كما أن لجانب المتعة والتسلية مساحة في هذا الفن والشواهد على ذلك كثيرة منها المكتوب في قصص ألف ليلة وليلة ومنها المنقول في الأمثال والأقوال والحكم، وقد سمي قصخون بمعنى المحترف في تقديم القصص أو صاحب فن القص وفي كل ما سبق من تسميات فأنه يستقي من التراث الشعبي والموروث الثقافي مادته ليعيد إنتاجها بأسلوب شيق يراد منه الفائدة الممزوجة بالمتعة وهو ينهج أسلوبا تعليميا غير تقليدي فطن له العرب قديما فكان جزء من جلساتهم السامرة .

قد تكون صورة ‏‏‏‏شخص واحد‏، و‏جلوس‏‏، و‏‏وقوف‏، و‏حجاب‏‏‏ و‏منظر داخلي‏‏

قد تتبلور الحكايات الشعبية و تختصر بمرور الوقت بثيمة من كلمات معدودة تسمى تلك الجملة (المثل الشعبي) ويبقى المثل هنا دالاً على حكايته و على هذا الأساس نذكر المثل الشعبي (وافق شن طبقة) و لمعرفة أصل هذا المثل لا بد من ذكر حكايته العربية التراثية و هي أن (شن) رجل حكيم يبحث عن زوجة تجاريه في حكمته و كياسته وحينها يقرر التجوال في البلاد بحثاً عن ضالته، فيصادف في الطريق أعرابياً راكباً على دابته فيسأل (شن) الأعرابي ثلاثة أسئلة في مسيرتهم تلك وهي: أتحملني أم أحملك؟ و هل هذا الزرع أكل أم لا ؟ و هل هذه الجنازة لرجل مات أم حي ؟ و تنتهي الحكاية بأن ابنة ذلك الأعرابي تعرف معنى الأسئلة وكان أسمها (طبقة) فيطلبها من أبيها ويتزوجها فيذهب المثل (وافق شن طبقة)([2]) ، ونجد في هذه الحكاية الكثير من المتعة والموعظة.

 

قد تكون صورة ‏‏شخص أو أكثر‏ و‏منظر داخلي‏‏

عروض الحكواتي تشد الجمهور العراقي.

يعود نبض الحكاية ليسمع على خشبة مسرح البيت الثقافي، ضمن مهرجان الحسيني الصغير الدولي لمسرح الطفل بدورته السابعة في كربلاء في العراق للفترة من 11-16 مارس 2023، إذ كانت عروض فن الحكواتي مصاحبة لأيام المهرجان، و شكلت تلك العروض الحكائية فرجه ماتعة لدى الحاضرين من الجمهور، الذي تنوع بين محلي يشمل الأطفال والعائلات وبين حضور فني عراقي وعربي وعالمي مشارك في فعاليات المهرجان، فكانت تلك مناسبة مهمة لعودة الحكواتي بقوة إلى جمهوره.

قد تكون صورة ‏‏‏شخصين‏، و‏أشخاص يقفون‏‏ و‏منظر داخلي‏‏

وكان ابطال الاداء خمسة مبدعين، اثنان منهم من الأشقاء العرب الأعزاء هم: ( عادل الترتير من فلسطين ، سحر شحادي من لبنان) في حين قام بتقديم الحكايات من العراقيين ( استبرق الكاظمي، لقاء الجبوري، علي جابر الطائي) أذ شكل حضور العراقيين في هذا المحفل تجديدا لهذا الفن و خطوة متقدمة في بناء رصين يقوده مجموعة من الفاعلين في المجتمع وبمستوى واع ورسالة سامية، أن الالتفاتة لهذا الفن من قبل قسم رعاية وتنمية الطفولة في العتبة الحسينية لم يأت دون تخطيط، بل قد سبق أن أقام القسم ورشة متخصصة لتدريب مجموعة من الشباب الفاعل على الساحة العراقية في جوانب العمل الإبداعي، مما أعطاهم الركائز الأساسية في هذا الفن، و كانت خطوة دعوتهم إلى تقديم عروض فن الحكواتي ضمن فعاليات مهرجان الحسيني الصغير الدولي لمسرح الطفل هي نتاج لثمار هذا المشروع الثقافي المهم .

لا يتوفر وصف.

وفي تفاصيل عروض الحكواتي المقدمة في المهرجان فأنها شملت عرض افتتاح للحكواتي الفلسطيني (عادل الترتير) وكانت عن موضوع الأرض و الوطن والعلاقة الجدلية بين الانسان وانتمائه للأرض التي ولد عليها، في حين اعتلت خشبة المسرح الحكواتية ( سحر شحادي) لتقدم حكايتها عن بذرة الخير و كيف تتجسد في حياة الأطفال، و من يرعاهم و يغرس المحبة في نفوسهم .

وكان للحكواتية (لقاء الجبوري) حكاية عن الإرادة وكيف للإنسان أن يبحث عن حقيقة شخصيته، وأن يضع نفسه في المكان الصحيح ولا يقبل بأقل من مكانته، وقدم الحكواتي (علي جابر الطائي) حكاية عن مساعدة الآخرين وعدم استغلال حاجة الناس لأجل منفعة شخصية، وقد قدمت الحكواتية (أستبرق الكاظمي) حكاية عن الصدق في القول و الابتعاد عن الكذب، ولم يكتف الحكواتيين بالعروض الفردية، بل قدموا في سابقة جديدة على العراق وعلى هذا الفن حكاية جماعية ارتجالية، تناولت في مضمونها المهرجان نفسه، مقدمين من خلال حكايتهم الجماعية ما شاهدوه من عروض مسرحية والرسائل الفنية والتربوية في طياتها، وقدم هذا العرض الختامي كل من (علي جابر الطائي، أستبرق الكاظمي، سحر شحادي)، وقد تفاعل الجمهور بمختلف فئاته العمرية مع ما قدم و تجاوز حدود اللغة المنطوقة ليتفاعل مع حكاياتهم الجمهور الاجنبي الحاضر أيضا.

كيف يمكن أن نستمر كحكواتيين عراقيين ؟

لم تكن الانطلاقة بهذا الفن بالأمر السهل فقد رافق الحكواتيين بعض المصاعب منها عدم تعود الجمهور العراقي على هذا النوع من الفن مما يجعل التواصل صعب إلى حد ما، أضف إلى ذلك غياب كُتاب الحكاية الشعبية في الزمن الحالي مما أضطر الحكواتيين العراقيين إلى أعداد حكايات من ثقافات شعبية مختلفة و تحويل مفرداتها إلى اللهجة العراقية لتكون مقبولة لدى الجمهور العراقي، وهناك شيء آخر شكل صعوبة بدرجة ما وهو عدم تحقيق بروفات قبل العرض المباشر بل كانت تجري لقاءات جانبية بين الحكواتيين لتنظيم خطوات التقديم و التشاور في مضامين الحكايات و تعديلها وفق المناسب للمهرجان والحاضرين .

يمكن أن يتغير الحال ليكون أفضل بخطوات منها أن يباشر المهتمون بأعداد ورش لكتابة الحكاية الشعبية شرط أن يكون المدرب فيها حكواتي ممارس لهذا الفن كون هذا الفن لا يتطابق في كتابته مع الأجناس الأدبية الأخرى، كما أن من الضروري تخصيص وقت أكبر للحكاية اثناء التقديم وعدم جعلها مقيدة في بضع دقائق، و أن تتوفر لعرض الحكواتي مؤثرات صوتية و إضاءة تصاحب أدائه لتكتمل الصورة في ذهن الجمهور .

 

الإحــــالات:

1/ابراهيم فتحي، معجم المصطلحات الادبية، (بيروت: المؤسسة العربية ناشرون ،1986)، ص143.

2/ينظر :بسام ساعي، ” منهج في دراسة الحكاية الشعبية “، دراسة منشورة في مجلة (المعرفة) ، (دمشق)، العدد(204)، بتاريخ (1/2/1979)،ص84-92.

 

** علي جابر الطائي (أحد المشاركين في تقديم فن الحكواتي).

alijaberaltai@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت