العرض الاسباني “تابولا” يحتوي على أسئلة عديدة/ منير العرقي.
في اطار مهرجان أيام قرطاج لفنون العرائس الدورة الرابعة
في عتمة يرافقها صوت حادث مرور .. بصيص نور ذراع ملقاة على الأرض، اظلام، بقعة ضوء ثانية ذراع أخرى بيضاء بلا تفاصيل كالأولى، اظلام، بقعة ضوء ثالثة على رأس بيضاء مجرد شكل دون عينين ولا أنف ولا فم ولا شعر رأس محايدة .. نفهم أنه أحدهم بلا مواصفات كأننا نحن كلنا …
بجهد جهيد أربع ممثلات تلتقطن الذراع الأولى والثانية وتبحثان عن الرأس و تتنقلان بحثا عن الجسد أو ما تبقى منه ..تتنقل الممثلات في حركة انسيابية كأنهن في حلبة تزلج تسبحن بخطوات مدروسة تقنيا وجماليا تضع الرأس على الجذع بإيقاع مفكك ..هكذا وجدنا أنفسنا في عرض تابولا من اسبانيا في قاعة المبدعين الشبان ضمن مهرجان أيام قرطاج لفنون العرائس في دورته الرابعة.
ننتبه الى هذا الجسد المشظى الذي تم جمعه وتشكيله أمامنا من قبل الممثلات / الشخصيات السابحة في الفضاء كملائكة حمراء .. الهالك الأبيض الكائن العائد الى الحياة جامد مسكين كانه نسي انه كان ينبض طاقة يقود عربته نسي الحركة والتعبير و الكلام الملائكة الحمراء تأخذ بيده وتدربه كالمريض بالزهايمر نسي كيف يخطو خطوته الأولى أجلسنه الى طاولة بيضاء وضع عليها كراس أبيض غلافه أحمر أوراقه نصعة البياض من أول لحظة في المسرحية لم نستمع الى أي كلمة الآن فقط يبدأ الحوار حيث كان مسجلا في شكل استنطاق شبه بوليسي ، من أنت؟ ماسمك ؟سنك؟ الكائن الماريونات المجمع الذي تحركه الملائكة لا يملك إجابة لقد فقد كل شيء الادراك القدرة على الكتابة يئست الملائكة من تلقينه غلبه النعاس أم نام ؟ نام الكائن فصنعت الملائكة من الورق الأبيض كائنا صغيرا جمعته و حركته وجعلته يتسلق الطاولة ويعتليها ويبدأ في ايقاظ النائم وتشجيعه على الكتابة على التذكر والمواصلة …
عديدة هي أسئلة العرض، هل نقضى هكذا ، أي على اثر حادث ما نموت و نمحى كأننا لم نكن ؟؟ هل الروح تحمل معرفتها لذاتها ولماضيها؟ أم لا ؟؟ هل بهذه العبثية نسير الى الهلاك ؟وان نجونا من الحادث ، فهل سننجو من القادم ؟ هذا العرض الاسباني يحفر بجرأة في فن الماريونات والتحريك والتجسيد والكوريغرافيا .. كانت الممثلات المحركات الراقصات مذهلات في التعبير البسيط والابداعي في آن واحد حيث تتحول في كل مرة احداهن لتصبح ماريونات هي الأخرى وتحتاج الى تحريك .. وتستجيب بحركة اصبع من احدى الممثلات لتؤدي وضعية جسدية وتشكيلا مغايرا .
هذا العرض مبني بناء محكما من حيث انصهار الأداء التمثيلي باعتماد الإيماءة و الحركة والرقص والتحريك وهو مثال صادق لمقولة البسيط الجميل simple et beau وهو ليس بسيطا بمعنى أفكاره ساذجة ولا ترتقي الى المفاهيم وليس كذلك بمعنى السهل العادي ..بل لان صانعوه اختاروا أن يسألوا المتفرج سؤالا وجوديا : من نحن ؟بطبيعة الحال لم يفتحوا نافذة الماورائيات و ما بعد الموت وعذاب القبر بل دفعونا الى سؤال جوهري، ما الذاكرة، أليس الخلود تأصيل للفعل بالذكر أمام نسيان الانسان ؟؟
ألا يحثنا هذا العرض الى الفعل حتى لا يلفنا ويحتوينا النسيان ؟
عجيب هو الفن وعجيبة هي الماريونات ،
هي تأخذنا حتى من دون الحوار الكلامي الى مواضع إنسانية عالية وترجنا كل مرة لننتبه الى ذواتنا و وتذكرنا بأننا زائلون وأنها كفن قديم ” مناضل ” قادرة على التعبير كما التكنلوجيات الحديثة خماسية الابعاد أو الهلوقرام تماما بل لعله أبلغ .
شكرا لأيام قرطاج لفنون العرائس على توفير هذه المتعة
** منير العرقي./ مسرحي تونسي
عن: جريدة الشروق 24 مارس 2023