قراءة في احتفالية الموت … حتفالية الحياة لرضوان احدادو / د.محمد محبوب
مسرحية مات المسرح … عاش المسرح
بين رهانات المساءلة وهاجس المغايرة الفنية
يصر الكاتب الدرامي رضوان احدادو على الحضور الوازن، والإسهام المميز في إثراء الفعل المسرحي والثقافي عامة ببلادنا بعطاءاته وإبداعاته ومنجزه الدرامي، مستندا، في ذلك، على مرجعية معرفية وجمالية عميقة، وفلسفة قائمة على ر ؤية تزاوج بين الفكري والجمالي من جهة، والانفتاح على الواقع الاجتماعي بمتغيراته وإبدالاته من جهة أخرى، كما يؤسس تجربته على خبرته الواسعة بأسرار الركح، وصناعة الفرجة، وطرائق اشتغالها. ينضاف إلى كل ذلك، تجربته الحياتية الزاخرة بالنضال، والحضور على الواجهة السياسية والاجتماعية والثقافية.
وارتكازا على ذلك، انخرط الرجل في إنتاج نص حداثي، هاجسه، في ذلك، تجاوز ذاته، والسعي إلى المغايرة كفعل إبداعي، وترسيخ النزوع التجريبي عبر هدم الأنساق الجمالية التقليدية، وإرساء كتابة مغايرة، تنبذ الاتباع، وتكرس الإبداع.
ولاشك أن هذا النزوع التجديدي قد اكتسبه الكاتب من ثقافته وممارسته الفنية، التي استوت داخل المدرسة الهاوية بأبعادها الجمالية ودلالاتها الثورية، وتشبعها بالمغايرة، والبحث المستمر عن قالب وصيغة مسرحية تجسد الخصوصية المحلية، لكنها- في الآن ذاته- قائمة على البعد الإبداعي الذي يتحقق من خلال اختلافيتها، وخصوصيتها الفنية، وتميز طرائق اشتغالها، وتحققها الفني والجمالي.
وإذا كان الرجل قد تشرب الهواية باعتبارها ممارسة جمالية قائمة على الخرق والتجاوز على المستوى الفني، كما أنها التزام فكري بقضايا المجتمع، ونزوع إلى التحريض على التغيير، ونبذ ثقافة الجمود والاستلاب التي ترسخت بفعل هيمنة ثقافة عولمية كاسحة وكابحة للسيرورة والدينامية الاجتماعية طامحة إلى التغيير الحقيقي بغاية تطوير الأمة وتحديثها. فبهذا الوعي انخرط في الحركية التجريبية في المسرح المغربي والعربي عامة، من خلال البحث عن صيغ جديدة للتمسرح ومعالجة مواضيع برؤية مغايرة. لذلك، اختار صيغة المرتجلة كوعاء فني، وقالب جمالي لمساءلة واقع الممارسة المسرحية، وتعرية أعطابها، وفضح الممارسات التي تحد من انطلاقاتها وإشعاعها. وهو، في نفس الوقت، ينفذ إلى واقع المجتمع راصدا مشاكله ومعضلاته، حيث يبدو أن واقع الممارسة المسرحية المليء بالتراجعات لاينفصل عن واقع المجتمع، وأعطابه البنيوية المزمنة.
تنهض المسرحية على وصلتين متناقضيتين “احتفالية الموت” و ” احتفالية الحياة . في الوصلة الأولى “رسم الكاتب فضاء موحشا ومظلما وقاتما بجذرانه المتصدعة، وبابه المهترئ، وبرودة أجوائه المميتة، يسكنه الصمت الرهيب، ويحكمه الوعيد وتخنقه الرقابة”(1). ويشخص مشاهد هذه الوصلة ثلاثة ممثلين: الممثل 2 والممثلة، في مواجهة الممثل 1 ( حارس المعبد أو الرقيب).
وترصد هذه الوصلة حالة الفن المسرحي، ووضعية الفنان الممارس لفن الركح. وفي سياق الكشف عن هذا الواقع البئيس يرفع الممثل 2 صوته معلنا هذه الحقيقة.. لقد ” ضاعت منا كل الأدوار بعد أن سلبوا من المسرح روحه”(2). وهو يقصد بالروح والجوهر الحرية التي يتصدى لها بلا هوادة حارس المعبد، فالمسرح الذي أبدعه الإنسان بالتعبير عن قضاياه وهمومه يجد نفسه في مواجهة سلطة الرقابة وإكراهات المنع. لذلك، يغيب المسرح الحقيقي ليحضر “المسرح المزيف”(3). وهو كذلك، لأنه لا يعبر عن إرادة المبدع، وقناعة الفنان المسرحي. كما أن زيفه يكمن في عدم قدرته على التعبير عن الحقيقة بالجرأة المطلوبة، وبالأدوات الفنية والاختيارات الجمالية التي يرتضيها الفنان والمبدع المسرحي. وهو، من جهة أخرى، مسرح يفتقد إلى النفس الثوري الذي اكتسبه المسرح من تاريخه النضالي، حيث نشأ في حضن الحركة الوطنية، واستوى مسرحا منافحا عن الهوية والإنسية المغربية ساعيا إلى التنوير في مواجهة المخطط الاستعماري الهادف إلى استدامة واقع التجهيل والتخلف، ضمانا لبقائه، وإحكاما لسيطرته على البلاد والعباد. وإذا كان رواد الحركة الوطنية قد فهموا الالتزام فهما محدودا لا يتجاوز مستوى المضامين والأفكار التي روجوا لها في مسرحهم في بدايات انفتاح المغاربة على الممارسة المسرحية، فإن الجيل الثاني من الممارسين والمبدعين حول الالتزام في المسرح من قضايا المضمون إلى تثوير الجانب الفني بحثا عن المسرح المناسب واللغة المسرحية المناسبة. لذلك ،فإن الممثلة في هذه الوصلة ترفض الواقع الجديد في الممارسة المسرحية، الذي يفصح عن تراجع لا يليق بتاريخ المسرح المغربي ومكتسباته، وتعتبر هذا النوع من الممارسة الفنية ” مسرحا مدجنا، هكذا أرادوه”(4). ومن ثم، فإنه مهدد بالموت الحتمي، فهو “الآن يحتضر”(5). والمخرج من هذا التردي الجمالي يكمن، في تقديرها في رجل المسرح في ذاته،الذي ينبغي أن يتسلح بإرادة التحرر من سلطة التدجين، ورغبات الرقيب “ابحث بنفسك لنفسك في نفسك، ابحث عن وجه حقيقي غير مزيف كان لك يوما ما”(6). بيد أن تغلغل سلطة الرقيب في الواقع المسرحي، يجعل الممثل يتساءل بلغة أقرب إلى العجز والاستسلام عن ” السبيل لتحقيق ذلك”(7) . فيأتي الجواب حاسما على لسان الممثلة “كل ما يبدو صعبا نصل إليه بالإرادة”(8).
وهكذا، فإن هذه الوصلة ترسم واقعا مأساويا يعيشه المسرح وأهله، تعبر عنه لفظة (التدجين بحمولتها القوية الدالة على غياب شرط الحرية، وتجذر سلطة الرقيب. لكن الصورة القاتمة تتبدى بصورة جلية من خلال توارد ألفاظ .. الخراب والضياع … وغيرها من التوصيفات التي تأتي في سياق الحوار، والتي تلخص واقع الفن والفنان المسرحي. أما مظاهر الضياع فنلمسها في واقع الممثل الذي يقضي “عمره راكضا، لاهثا فوق الخشبات، متمرغا في غبارها، وصهدها وزمهريرها، مطوقا بنظرات الآخرين، ملاحقا بملاحظاتهم وانتقداتهم”(9)، ويستيقظ “من نشوة التمثيل على أحلام ضبابية، أحلام بلا لون، ويعيش على أوهام كاذبة بلا طعم”(10).
وعليه فإن هذه الوصلة ترصد وضعية الفنان المسرحي، وتسائل وقع الممارسة المسرحية، حيث يعيش الفنان المسرحي معاناة مزدوجة: الأولى على المستوى الشخصي نتيجة غياب شروط الحياة الكريمة التي تضمن الاستقرار، وتحفز على الإبداع والعطاء والاجتهاد.
والثانية على مستوى الممارسة الفنية التي تطالها سلطة الرقيب، وإكراهات المنع، وتعيش وضعا كارثيا بسبب غياب حرية الإبداع التي تحول دون الارتقاء بالفن وتطويره، وجعله أداة للتعبير عن هموم وقضايا المجتمع، وآلية فنية لمساءلة الواقع، وقراءته وفق الشروط الفنية، وضوابط الالتزام التي تحترم اختيارات المبدع واجتهاداته.
وهكذا، نجد هذه الوصلة تنتهي بنفس حزين ينسجم مع هيمنة موضوعة وتيمة “الموت”، حيث تتعدد مظاهر وتجليات موضوعة “الموت” وأهمها:
- موت الفن الحقيقي، الذي تحول إلى ممارسة مدجنة، لاتستجيب لمقومات الإبداع لافتقادها لشرط الحرية الذي يسمح بمعالجة فنية متحررة من سلطة الرقيب وإكراهات المنع، كما يوفر شروط الإبداع الحق، الذي يرمي إلى تثوير الفرجة المسرحية، وفتحها على أفق أرحب، أفق التجديد والمغايرة على مستوى الصيغ والطرائق الجمالية والفنية.
- موت الفنان/المسرحي: الموت في هذه الحالة غادر، إنه موت بطيء، يكاد لا يدرك الممثل سكراته، فهو يعيش على أمل انتعاش المسرح وازدهاره، لكنه يبقى حبيس وضعيته المزرية، يعيش العمر راكضا وراء السراب، لاهثا فوق الخشبات دون جدوى ليكتشف في النهاية زيف أحلامه، ويخلص إلى أنه يعيش على أوهام هاربة ومستحيلة.
- موت المسرح من حيث وظائفه، وتأثيره في الواقع، وهو موت للمسرح بدلالاته الثورية كأداة لمساءلة الواقع الفني والاجتماعي، وتشخيص أعطابه، والمساهمة في تغييره وتقويمه وتصحيحه.
وتجسيدا لهذا الواقع المأزوم تنتهي الوصلة بنفس جنائزي حزين تنخرط من خلاله الممثلة في ترديد مقطع غنائي مثقل بالأسى هو أقرب للرثاء لوضع مأساوي ينبئ بنهاية تراجيدية لفن يحتضر ، تطوقه سلطة الرقيب وتكتم أنفاسه، ويقتله المنع ويعيش مأساة الضياع.
” ليل طويل
غارق في ليلو
ما اطلع قمارو
و لا ضوات نجومو” (11).
وإمعانا في رسم معالم هذا الضياع تنشد المجموعة في نهاية الوصلة:
” لله يا سفينة
فين غاديا بنا
واحنا فيك رهينة”(12)
وإذا كان رجل المسرح يشعر أنه رهين وضع مأساوي استبيحت فيه كرامته، وجرد فيها الفن المسرحي النبيل من وظيفته الجمالية والاجتماعية، حيث أصبح مدجنا وبئيسا إرضاء لسلطة الرقيب، فإن مسحة الأمل تشع من صلب هذه الرؤية السوداوية والنبرة الانهزامية، ذلك أن الممثلة ترفع صوتها عاليا رافضة هذه الاستكانة المميتة، إيذانا بتحول المشهد في نوع من البعث على شاكلة النصوص الشعرية التي اشتغلت على ثنائية: الموت والحياة مستلهمة دورة الطبيعة التي تخضع لهذا المنطق، ذلك أنه من صلب الموت تولد الحياة وتنبعث الطبيعة من جديد.
وعليه نجد الممثلة/المرأة تتمسك بالأمل والحياة بقوة وإصرار وإيمان مطلق بحتمية التغيير “أيها الممثلون، أيها المسرحيون، أنتم الأمل، أنتم الوطن فلا تسلمو ا المركب، لاتسلموا المركب”(13).
أما الوصلة الثانية، فرغم أنها تبشر بواقع جديد، وتنبئ بوضعية توحي بكل معاني التفاؤل والأمل، فإن النفس النقدي يظل مهيمنا على النص الدرامي اعتبارا “لكون الميتانصية هي عملية إدماج للبعد النقدي داخل العمل الإبداعي”(14). وهكذا تبدأ الوصلة برصد متغيرات الواقع وانعكاساته على المسرح: وظيفة وأداء
” واحد: كل شيء تغير ما عاد له لون
واحد: ما عاد المسرح هو المسرح، ما عاد المسرح
المجموعة: عشقا وملاذا، عطرا وحلما دافئا”(15)
فالمسرح الذي اكتسب في الماضي قيمته الاعتبارية من وظائفه الجمالية ودلالاته النضالية تحول إلى “طريد ومطرود، شريد مشرد، المسرح غريب في زحمة الغرباء”(16). غير أن هذه الوضعية التي يعيشها المسرح ليست في النهاية إلا صورة لواقع المجتمع، ومأساة الوطن
“الوطن جسد مثخن بالجراح
مثخن بالطعنات، كل الطغاة
(… )
عرضه مستباح
دمه مستباح”(17)
هكذا، تماهي المسرحية بين مأساة الوطن ومعاناة المسرح، فحكاية المسرح هي حكاية وطن، إذ الوطن ليس أرضا وسماء وهواء فحسب، بل هو الكرامة أيضا
“ما الوطن؟ ما الأوطان؟
الوطن عرق وغبار وكرامة
واحد: نسعى فيه، نتعب بكرامة
الجوقة: نجوع ونمرض بكرامة، ننام ونستيقظ بكرامة”(18).
ولا يمكن للكرامة أن تستقيم في الوطن وداخل المسرح دون إقرار حرية الرأي والإبداع والفكر، حيث يبدو الوطن، من خلال المسرحية، محاصرا بأعين الرقابة، وخاضعا لكل أشكال الكوابح، وبذلك يتحول الفعل الإبداعي من ممارسة جمالية تجلب اللذة والمتعة والفائدة إلى سلوك مشاكس يخضع لرقابة صارمة، وينظر إليه من زاو ية ضيقة وفق مقاربة شاذة لاتستحضرالخصوصية والدلالة الفنية، والأبعاد الحضارية لهذا الفن
” الوطن محكوم بالأحزمة والنعال
الوطن يعيش بخدمات الآذان والعيون
الحصار هو الوطن
الحصار هو المسرح”(19).
واستنادا إلى هذه الرؤية الضيقة والمسبقة للمسرح باعتباره فعلا مشاكسا تسعى الإدارة إلى احتوائه وتدجينه بكل الطرق والأساليب منها ما يعرف ب”آلية الدعم”، وهي آلية في ظاهرها ترمي إلى تقوية الممارسة المسرحية، ودعم النشاط الدرامي. بيد أنها أفقدت المسرح استقلاليته، ووهجه وامتداده الجماهيري، وأصبح الممارس المسرحي مسلوب الإرادة، يبحث عن تقديم عروض فقيرة فنيا، وأحيانا في غياب الجمهور نفسه، وذلك بحثا عن استفادة مادية خادعة. وبذلك تحول المسرح إلى مشروع مهزوم بعيد عن رصد واقع المجتمع والكشف عن أعطابه، وبمعزل عن شرط الاجتهاد الفني بحثا عن المغايرة المنشودة جماليا وفنيا.
” المدير: أناس يتفرجون على أنفسهم ولا يشعرون هم أيضا. مشروع مستقبلي مهزوم، مساكين هؤلاء أرثي لحالهم”(20).
وهكذا استطاعت الإدارة أن تحقق أهدافها، ونجحت في تحويل المسرح من نزعته المشاكسة إلى مسرح مهادن يكرس الفرجة في أبعادها الفجة ،وينساق وراء الجماليات الشكلية بعيدا عن معالجة قضايا الناس وهموم الجتمع، ونائيا عن رهانات التجديد والمغايرة الفنية الحقيقية.
“المدير: صححوا الهتاف أرجوكم، صححوه بصوت واحد، قولوا فقط عاش المدير….أعرف كيف أمتص غضبكم ، وأسفه نقمتكم ،وأقبر أحلامكم وعنادكم ، وكيف أقودكم قطيعا مسالما مطيعا ومطواعا” (21).
وعليه، تصر المسرحية على النبش في الأعطاب البنيوية التي تحول دون الارتقاء بالمسرح، معتبرة الوصفات الخارجية لإصلاح المنظومة المسرحية عاملا من عوامل التراجع والنكوص، ذلك أن مقترح الدعم على سبيل المثال أجهز على الفعل المسرحي وأفرغه من وظيفته الجمالية والاديولوجية، وأغرق المسرح في موجةالرداءة
“المدير: ممثلون لم يعد لهم دور ، روضوا ، استفادوا ، فأصبحوا لايتكلمون” (22).
أمام هذه الوضعية البئيسة تتحضر المسرحية الرموز التراثية ساعية إلى محاكمة اللحظة الانية من خلال إدماج اللحظة التراثية في سياق العصر. وهكذا يحضر عنترة برمزيته التاريخية. فهو يرمز إلى الشجاعة والإقدام ، ويجسد إرادة إرادة التحرر واالإنعتاق.
وعليه، ينسلخ عنترة من هويته الزمانية، ويصبح معاصرا لنا منفتحا على همومنا، وواقعنا المليئ بالنكسات. وتستعير المسرحية رمزيته لإدانة الواقع، والسعي إلى التجاوز بالنظر إلى الدلالات التي يوحي بها اسمه الذي يحيل على إيحاءات النضال والإنعتاق. بيد أن عبلة تكتشف حقيقة صادمة، فبعد أن مكنت عنترة من السيف بدى هذا الأخير عاجزا تماما عن الكر في واقع جديد محكوم “بالرهبة والخوف، بالسوط وجيوش المخبرين…السجناء الطلقاء”. زمن “يعيش فيه رجال ليس لهم من الرجولة إلا السراويل، ونساء تخلين عن نخوتهن وعزتهن وأناقتهن..وتحولن إلى دمى أمريكية الصنع يتلهى بها الكبار والصغار”(23) .
وهكذا، نجد المسرحية تتجاوز هموم ومشاكل المسرح لتحاسب الواقع الاجتماعي راصدة اسباب وخلفيات هذه الرداءة التي تسيطر على الواقع، وتمتد إلى المجال الفني في مستوياته المختلفة و خاصة المجال المسرحي. ومن ثم،فالمسرحية تفضح الآثار المدمرة لعولمة كاسحة أجهزت على القيم، ورسخت نزوعات فردانية انتهازية مرضية، من مظاهرها هذا التحول الكارثي في مدلول القيم وتمثلها
“عبلة: الاستقامة والفضيلة تخلف، الخنوع والرذيلة حداثة ، المروءة والعفة بلادة،الرشوة والنصب والاحتيال والنهب ذكاء وشطارة، والعقوق حرية وتحرر” (24).
ولا شك أن متغيرات القيم أفرزت ممارسة فنية بئيسة من سماتها هذا الشكل من المسرح حسب توصيف شخصية ارسطو
“هذا هو مسرح الفراغ … كل مسرح لامكان فيه للفكر،للروح ،كل مسرح بلا إحساس هو مسرح حديدي اسمنتي ،مسرح سرابي من السراب” (25).
بيد أن الادارة تبرر هذا الإختيار بمصطلحات جوفاء تتستر على دلالات الخواء والفراغ
“المدير: اسمه مسرح الحداثة ،ومسرح مابعد الحداثة ،ومسرح مابعد حداثة الحداثة” (26).
وامعانا في تغريب المسرح ، وافراغه من دلالاته الفنية والايديولوجية
“المدير : مسرح لاسلطة فيه للمؤلف ، ولاسلطة فيه للمخرج ،ولا مكان فيه للممثل” (27).
واستنادا لهذه التحولات الكارثية يعلن المدير باعتزاز كبير عن افول نجم المسرح
“المدير : الويل لكم جميعا . ألم تدركوا أن المسرح انتهى” (28).
بيد، أن هذا الإصرار على قتل الإبداع، وتدمير المسرح ينتهي بالفشل، وتعلن الجوقة التي تمثل الضمير الجمعي “يموت الشجر، يفنى البشر ، ويبقى المسرح” (29)
وهكذا، تنتهي المسرحية بانبعاث المسرح ، وموت رمزي لسلطة الرقابة التي يمثلها المدير
“الجوقة
رحل المدير
مات المدير
نموت نحن ….ويبقى المسرح” (30)
بيد أن هذا الانبعاث يأتي في سياق طقس احتفالي لا يخلو من نزعة صوفية، حيث البحر يزأر، والأمواج تتدافع لغسل المدينة، التي تتطهر من آثامها،فالماء هنا رمز للتطهر، لكنه رمز للحياة كذلك ،(وجعلنا من الماء كل شيء حي) (31). ويبدأ الاحتفال الكبير بانتصار إرادة الحياة على منطق الموت. ذلك أن الإبداع الحقيقي هو الذي يبقى ضدا على إرادة الكبح وتكميم الأفواه، والمسرح لا ينتعش إلا في أجواء الحرية. لذلك تبشر المسرحية بموت المدير رمز الرقابة والتسلط، وبا لمقابل يبقى المسرح شامخا وهادرا كالبحر في عنفوانه وقوته وجبروته، وامتداده .
وتأسيسا على ماسبق نخلص إلى أن الفعل الدرامي يقوم في المسرحية على الصراع بين رؤيتين ومنظورين للمسرح
- رؤية فنية ووظيفية للمسرح تعتبره ممارسة جمالية غايتها الارتقاء بالانسان، وتهذيب سلوكه ،وصناعة ذائقته الفنية،وهي رؤية تؤسس لشعرية قائمة على البعد الجمالي من جهة،يرمي من خلالها المسرح إلى جعل الممارسة الدرامية أداة للإمتاع بالارتكاز على مقومات الفرجة ،وجمالية الركح .كما أنه يمتلك بعده الوظيفي القائم على قراءة الواقع الاجتماعي واعادة صياغته فنيا.
ومن ثم، فإن هذه الرؤية تؤسس لمسرح “الفكر والروح” (32)، مسرح الإمتاع والالتزام، وهو التزام بقضايا المجتمع والإ نسان عامة، لكنه التزاإم جمالي كذلك، بما هو سعي لهدم الأنساق والقوالب المستهلكة بحثا عن الجديد والطريف والمدهش …
- رؤية ذاتية بخلفية أمنية ضيقة: وهي رؤية نقيض للرؤية الأولى، ترتكن إلى خلفيات غير فنية، ودوافع ذاتية غايتها خدمة طبقة بعينها أو فئة أو توجه بعينه. وهي رؤية تجهز على الجانب الفني، وتتحلل من الخلفيات الفكرية والجمالية، وتنظر إلى المسرح باعتباره أداة تحريض، وعاملا من عوامل زعزعة الاستقرار ، وهي رؤية تتسم بالقصور وضيق الأفق. لذلك تسعى إلى ترسيخ ممارسة مغرقة في الشكلانية نازعة إلى الاستنساخ الفج ورافضة للإبداع، وطامحة إلى فرملة أدوار المسرح ووظائفه الاجتماعية والجمالية.
ولا شك أن منطق الصراع في المسرحية محكوم بهذا التصادم بين المنظورين، المنظور الجمالي الملتزم فنيا واجتماعيا من جهة، والمنظور الأمني الضيق الذي يحاول الإجهاز على الوظيفة الاجتماعية والجمالية للمسرح التي اكتسبها منذ ولايته في حضن الحركة الوطنية، واستمرت مع تجربة الهواة التي رامت صياغة مسرح حداثي يقوم على خرق قواعد الفرجة التقليدية، مع الالتزام بقضايا المجتمع فنيا وإديولوجيا.
والواقع أن التضييق على المسرح، ومحاولة فرملة أدواره الاجتماعية وفتوحاته الفنية والجمالية لم يستطع النيل من المسرح، بل إنه شكل في العمق نسغا للرؤية الفكرية، وطبع المسرح المغربي بنزعة صدامية، تجاوزت تثوير المضامين إلى مساءلة الصيغ الفنية، ومحاولة تثوير الأشكال الفنية بحثا عن المسرح المناسب واللغة المناسبة.
وهكذا، تولد النزوع إلى المغايرة والتجديد في المسرح المغربي، ومن سماته في هذه المسرحية اعتماد جنس مسرحي جديد يعرف “بالمرتجلة” و” يتوسل هذا الجنس التعبيري المسرحي بتقنيات أهمها تقنية الميتامسرح”(33). وهو “مسرح تتمركز إشكالياته حول ذاته (أي أن المسرح يتحدث عن نفسه)”(34). ويحصر موضوعاته في القضايا الجمالية والفكرية والتنظيمية التي يعيشها المسرح. ففي هذا النوع من المسرح لايحتاج المؤلف إلى التقنع وراء شخصيته التي يحملها أفكاره وآراءه، بل إنه يختار موقعا آخر أكثر سفورا ليحاسب الممارسة، واقفا على أعطابها ومشاكلها البنيوية والطارئة، مستخدما تقنيات متعددة أهمها تقنية “المسرح داخل المسرح” وهو بذلك لا يتورع عن التعليق وإبداء مواقفه وآرائه.
وعليه، يكون الميتا مسرح قائما على المضاعفة اللعبية التي تتمثل في “مسرحة قضايا المسرح” بما يسمح بقراءة واقع الحركة المسرحية والوقوف على مشاكلها وإكراهاتها، والمساهمة في توجيهها وفق ما يعتبره المؤلف تصحيحا لمساراتها، وتجاوزا لإشكالاتها وأعطابها. وهو في هذه العملية لا يفصل الفعل المسرحي عن سياقاته الاجتماعية والسياسية. ومن ثم نجد الكاتب الدرامي يتجاوز مساءلة الظاهرة المسرحية للوقوف على خلفياتها الاجتماعية والسياسية، حيث لا تفصل المسرحية، التي هي موضوع اشتغالنا، بين أعطاب المسرح من جهة، ومشاكل المجتمع المتراكمة والبنيوية من جهة أخرى. فالوطن يبدو محاصرا بأعين الرقابة وبجملة من الكوابح التي تحد من قدرته على العطاء وترسيخ الفكر المتنور، وهي نفس الوضعية التي يعيشها المسرح والتي تحول دون الارتقاء به وتطويره وفتح أفق الإبداع أمامه بما ينسجم مع تاريخه ونشأته ووظيفة الاجتماعية والفنية.
وهكذا تصر المسرحية على النبش في الأعطاب البنيوية للمسرح المغربي باعتبارها مدخلا لتصحيح وتقويم وضعيته، وهو جزء من بنية شمولية تستدعي القراءة والتحليل في أفق إصلاح شامل وتطوير وتحديث للمجتمع في مستوايته المختلفة والمتعددة.
وبناء على ذلك نخلص إلى أن الميتا مسرح يمثل ” رؤية للعالم تعكس منظور المؤلف أو العصر الذي ينتمي إليه، إزاء ما يحيط به، وتسمح بالتالي، بالربط بين البنيات الميتامسرحية وسياقاتها”(35)
ولا شك أن هذه الرؤية التي يعبر عنها الكاتب تصدر عن ذات “مسنودة بخلفية فكرية، ومرجعية فلسفية عميقة وتجربة زاخرة بالنضال والعطاء، والحضور الوازن على الواجهة الاجتماعية والسياسية والثقافية. كما تعتبر محصلة لرصيد غني في مجال الممارسة المسرحية الهاوية بدلالاتها الثورية وأبعادها الجمالية الطافحة بالتجديد والمغايرة”(36)
لقد كانت معاناة الكاتب رضوان احدادو مع المسرح، ومن خلاله وفيه مدعاة لهذا المبدع الدرامي إلى “الانخراط المباشر في متخيله”(37)، للتعبير بصوت مسموع وصادح عن مواقفه سعيا إلى إعادة قراءة القضايا والإشكاليات التي تؤرق الفاعل المسرحي، الذي يطمح أن يجعل الدينامية المنشودة في مغرب المستقبل تنعكس إيجابا عن المسرح وأوضاعه بحثا عن ممارسة ركحية منفتحة عن الحداثة والتجديد، مسكونة بالأسئلة التي لا تقبل الجاهز، والمبتذل طامحة إلى المغامرة والمغايرة كفعل إبداعي وجمالي متجدد ومستمر.
هوامــــش:
(1): ندير عبد اللطيف، مقدمة مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” مرتجلة مسرحية بين احتفالية الموت والحياة، ص8
(2): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح .. احتفالية الموت احتفالية الحياة” إصدارات أمنية للإبداع والتواصل، الطبعة الأولى 2021، ص19.
(3): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص19.
(4): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص19.
(5): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص19.
(6): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص19.
(7): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص19.
(8): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص20.
(9): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص20.
(10): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص20.
(11): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص22.
(12): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص22.
(13): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص24.
(14): حسن اليوسفي “المسرح في المرايا، شعرية الميتا مسرح واشتغالها في النص المسرحي الغربي والعربي”، منشورات اتحاد كتاب المغرب الطبعة الأولى 2003، ص14.
(15): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص26.
(16): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص28.
(17): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص29.
(18): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص33.
(19): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص34.
(20): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص46.
(21): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص46.
(22): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص48.
(23): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص36.
(24): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص39.
(25): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص51.
(26): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص54.
(27): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص54.
(28): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص54.
(29): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص56.
(30): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص57.
(31): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص62.
(32): سورة “الأنبياء” الآية30
(33): رضوان احدادو، مسرحية “مات المسرح عاش المسرح” ص54.
(34): Patrce Pavis . Dictionnaire du théâ Edit.Sociales 1987 p237
(35): حسن اليوسفي “المسرح في المرايا، ص35
(36): حسن اليوسفي “المسرح في المرايا، ص35
(37): محمد محبوب مقدمة مسرحية ” المتنبي يخطئ زمنه” لرضوان احدادو، الطبعة الأولى، مطبعة الخليج العربي تطوان 2012 ص5.