فن الممثل – رؤى واتجاهــــــــات” كتاب للكاتب والمخرج المسرحي (علي العبادي)/ قراءة : عقيل هاشم
جسد الممثل – وتمظهرات كيمياء الحكي
إنّ علاقة الممثل بالجمهور هي علاقة امتداد وتواصل ومجابهة. وهكذا فإن العلاقة مع “المشاهد” لا تتم إلاّ عبر اكتشاف الذات -وقدرتها على الاتصال بما هو خارجها فيتحقق هنا جملة عناصر أهمها: الممثل الآخر، الفضاء المسرحي، والنص, وإن علاقة الممثل بما هو خارجه في هذه المرحلة هي علاقة شرطها الأساسي (كشف الذات) وملامحها الامتداد والتواصل والمجابهة. كما إنّ هدف هذه المرحلة يكمن في توحيد : ذات الممثل -عناصر العمل المسرحي الأخرى لكي يصبح الجميع «ذاتا» واحدة لها مركزها الخاص بحيث تتعامل مع عناصر جديدة خارج تلك الذات؛ “المشاهد”..
ان التعامل مع الشخصية المسرحية باعتبارها ملامح موجودة في الذات لكنّها غائبة عنا بسبب القمع الواعي أو اللاّواعي الذي نمارسه عليها أو بسبب إهمالنا لها أو لأسباب أخرى. بحثنا هنا يريد تحطيم القيود أو العوائق التي تمنع ظهور ما هو كامن فينا.
عن دار امجد للطباعة والنشر 2023, صدر للكاتب والخرج المسرحي علي العبادي كتابه (فن الممثل رؤى واتجاهات) وتضمن الفصول التالية :
الفصل الاول : قبل فن التمثيل –التمثيل “محاكاة –تشبيه”
التمثيل ممارسة اجتماعية- التمثيل “التقمص-الاندماج- التشخيص”
الفصل الثاني :فن التمثيل – “دراما –ابتكار- خلق ”
مدارس التمثيل التقنية- النفسية
تقنيات الممثل –خارجية-داخلية
الفصل الثالث: التمثيل في الاتجاهات المسرحي – الاتجاه الواقعي-الاتجاه الملحمي –الاتجاه اللامعقول-الاتجاه الشكلي ..
الكاتب علي العبادي كاتب وممثل ومخرج مجتهد حقا ويمتلك الرؤية الابداعية، كما يمتلك الخبرة في الصياغة المسرحية محكمة الصنع من تأليف وتمثيل واخراج- وهو ينحاز دائما إلى حداثة الفعل المسرحي، ومن ثم فهو يحرص في جميع ما يتبناه من حمولات فكرية ان كان على مستوى التأليف والاخراج ظل يشتغل على تعرية تناقضات الواقع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا..
ودفاعه المستمر عن القيم الإنسانية، والدعوة إلى ضرورة ممارسة الحريات السياسية والاجتماعية، والتخلص من كل مظاهر القهر والاستبداد في المجتمع برفع راية التمرد والعصيان في وجه هذا العالم المشوه، والتي تنتصر الى الجمال ..
-يقدمها بالإضافة الى جرأة التناول وشجاعة الطرح والتناول لكثير من القضايا الآنية بصورة فنية راقية – ايضا له قدره على براعة في رسم الشخصيات الدرامية المختلفة، وتحديد الأبعاد الدرامية ( المادي والاجتماعي والنفسي)، فهو يمتلك حرفية في تصوير وتجسيد الفعل الدرامي المسرحي من خلال بناء محكم للفضاء المسرحي وباعتماده على عناصر التشويق والمفارقات الدرامية غير المتوقعة..
وبالعودة للكتاب اقول لقد تبنى الكاتب النظريات المتعددة بخصوص الممثل والتي احدثت منعطفا فرجويا جديدا على مر التاريخ. وهنا يقدم الممثل والكاتب علي العبادي كتابه هذا والذي يرصد ويكشف التقنية التعبيرية ابتداء من ارسطو الى يومنا هذا من خلال تسليط الضوء على الممثل ودوره في العملية العرضية بالاتكاء على فلسفة الجسد وابعاده السيميائية وحسب نظريات فلاسفة المسرح وكما اشار اليها في فصول كتابه حيث تطور مفهوم الارسطي والبرختي في معالجة العروض المسرحية وفق آلية عصرية تنسجمُ مع المزيد من حرصه على الاقتصاد والتركيز في الحركة للمثل وابعاده السيميائية.
ولا تتحقق دلالة الممثل من خلال اللغة والكلمات فحسب بل من خلال الطاقة التي يطلقها جسد الممثل والتي تتحرر بالتركيز الروحي والحسي، يكاد الممثل يتقدم على النص والإخراج في المسرح المعاصر فقد تقدمت فنون الجسد لتحل محل الكلمة المنطوقة والنص الأدبي، وهذا يعني أن دلالة الممثل لا تجسدها أصوات اللغة بل تجسدها حركات الجسد،
إن الحضور الجسدي للممثل من العناصر الأساسية في الأدائية، وإذا كانت الحركة في العروض التقليدية تفسر الكلمة وتحاول جاهدة أن تكون طبيعية، فإنها في المسرح المعاصر تكون مفسرة للفعل، كوسيلة لإيصال الفكرة، فيتعدد اللعب والأداء من حركة وإيماءة ورقص وغناء، إلى بناء نظام تواصلي جديد مع الجمهور.
وأخيرا يمكن القول إن عروض المسرح المعاصر فتحت الأفق لوسيط جمالي مركب من اللغة والتقانات الجمالية الاخرى،من حركة الممثل الادائية والصمت، وانتفت فيها المركزية والحدود الفاصلة للفنون، حيث أصبحت الحرية فعلا يمارس وشرطا أوليا في الإبداع والمعرفة.
هذه الطريقة من العمل تشترط أيضا على الممثل أن يتعامل مع الفضاء المسرحي ومعطيات العرض المسرحي الأخرى بعفوية وتلقائية وعمق أدواته الجسد والإحساس والخيال والتجربة. إنّه لمن واجبه الفني والإبداعي أن يكيّف نفسه في كل عرض لكي يلتقي بمشاهد جديد وأدوات مختلفة وكأنّه يصنع العرض للمرة الأولى..
الممثل، وهو التجسيد العملي للرؤية العلاماتية، والحامل للخطاب المسرحي. وهما نصان يتقابلان ويتداخلان في ذات الآن. إن جسد الممثل، هذا الجسد الحي، الفاعل، المتوتر والمتحرك في كل الاتجاهات، والمُرسل لرسالة مشفرة من خلال الفعل، يمثل عالما مغلقاً وغامضاً تتفاعل فيه داخلياً عواطف وانفعالات وأفكار شديدة الارتباط بالجسد، لدرجة يصعب رسم حدود فاصلة بين الذاتي والموضوعي، بين الثابت والمتحول، بين الآني والمحتمل…
فالممثل من خلال جسده، يتماهى به لاختراق عوالم الشخصية المسرحية من خلال استحضار انفعالاته السيكولوجية. الأمر يتعلق بجسد مركب: جسد الممثل وجسد الشخصية. وعبقرية الممثل تكمن في الاحتفاظ بمسافة معينة بين الجسدين.
وان التواصل المسرحي يعتمد على الممثل بتعبيراته الكلامية والجسدية باعتباره التجسيد الفعلي للرؤية العلاماتية؛ فإن التلقي المسرحي يقوم على تحويل اللغة المسرحية ذات الكثافة في العلامات البصرية والسمعية المتداخلة والمتنافرة في غالب الأحيان كفيل بفك شفرات علامات الرسالة المسرحية ..
إن قراءة العرض المسرحي – تواصل جمالي مابين العلاقة بين السيميولوجيا –اداء الممثل واللسانيات باعتبارهما قطبين كبيرين وهو ما يجعل كل محاولة التوفيق بين الدوال اللفظية الكلامية والدوال المسرحية البصرية تواصلية فهم وتفاعلية بين الاعمال الركحية والمشاهد.
وختاما, إن مسارات التطور والتغيير في المسرح لا تنجلي دون تتبع ممارسات الشباب المسرحيين من التأليف –التمثيل –الاخراج ، مع الحفاظ على هويتهم، سيحدثون التغيير لهذا الجيل ثقافته ومعارفه، ولا سيما تلك التي يحصّل عليها هؤلاء من مصادر فنية وفلسفية, لهذا أرى أن هذا الجيل قد فكّ الشيفرة وبدأ يحصل على معارفه، من دون التخلي عن خصوصية ثقافته التي تتلاءم مع جيله وأفكاره وقضاياه
إن اجتهاد الشباب ومن بينهم الفنان علي العبادي على الخوض في مضمار التأليف تعتبر انعطافة جريئة في طقوس الكتابة لكون عالم التأليف عالم محفوف بالمخاطر بسبب عالم المسرح الكبير ويحتاج الى الكثير من الدربة والتعلم .
وان الكتابة للمسرح من قبل الشباب هي مؤشر مهم ودقيق على تلاقح الافكار بين الشباب والجيل السابق لأحداث هذا التطور والمثقافة والتواصل في مسرحنا القادم، مسرح الرقميات والتكنلوجيا, واكيد سنحتاج مسارات جديدة للتغيير في البنية الفنية والفكرية لهذا النوع من المسرح، مع الحفاظ على خصوصية هوية هؤلاء الشباب المسرحيين، الفنية والفكرية..