نقد كما البيض في سلة واحدة !! صرخة ثالثة في وجه النقد المميت ../ بقلم : يوسف الحمدان
أعتقد أنه من اللائق جدًا حين نتوجه بالملاحظة أو الرأي أو التحليل أو القراءة للعرض المسرحي، أن نقف عند تجربة العرض ذاتها، كيف تشكلت وتخلقت؟ ما الذي استثارنا فيها؟ ما الذي استوقفنا؟ ما هي مفردات وعناصر المخرج التي استدعاها واشتغل عليها في تجربته المسرحية؟ كيف تلقينا هذه التجربة وفقًا لما اقترحته علينا هي من دلالات وأبعاد ومعطيات ورؤى؟ هل استطاعت أن تلامس وتتحسس وتشاكس مخيلتنا أو مخيلة طاقمها الفني؟ وبأية كيفية؟ ووفق أي مستوى قرائي معملي؟ وما هي منطلقاتها ومرتكزاتها ومتكآتها البيئية والطقسية والفكرية والرؤيوية والتخيلية التي تحاورت وتقاطعت وتشاكلت وتجاورت فيها ومعها؟ وما هي طبيعة ونوعية مرجعياتها ومستلهماتها الفكرية والفنية والذاتية؟ وكيف تعاطت هذه المرجعيات والمستلهمات فضاء التجربة الخلْقي؟
إننا بوقوفنا على التجربة ذاتها سنكون في مجال خالص التجرد من «إرثنا» المرجعي بكل ما يكتظ ويعج به من محمولات وإسقاطات ووصايا قد لا تتبيأ إلا في المنهج او الأفق الذي تنطلق منه تجارب غير ذات التجربة التي نتوجه إليها بالرأي أو القراءة، إذ من الصعب جدا أن نرى في هذه التجربة صوتنا وفكرنا نحن، وكما لو أننا نريد قسرًا لَيِّ عنق التجربة ودسها في المتشابه والمتناسخ مع التجارب التي تمتثل للصوت الواحد فقط وإن تعددت، وبناء عليه تصبح أية تجربة لا تشبهنا هي ليست بتجربة ولا بمسرحية، وهنا تتسامق وتشرئب أعناق الأبوية الوصاياتية بشتى أفرعها القهرية والاستلابية لتجبر صوت البحث والتقصي والاكتشاف والإبداع نحو رؤيةٍ خرسانية المنطلق والذهاب والتشكل، رؤية تقصد وتنشد المكتمل في التجربة، وأن أي تجربة ليست مكتملة تظل في رأيها قاصرة وخدج، بينما أجمل التجارب هي تلك التي تحتفي بالفراغ في أفضيتها، فالفراغ هنا مساحة حرة وحية ومثيرة لمخيلة المشتغل في التجربة على مخيلة المتلقي، إلى جانب كونها قرينة بقلق الباحث فيها، إذ أن المسرح ليس وصيا على المتلقي بقدر ما هو منتم إليه في سعيه إلى البحث وفي حيرته الكونية، لذا هو معني بدرجة أساس بتجربته هو، كيف يشكلها وينميها ويشظيها ويتفلت فيها ومنها أثناء التخلق والاعتمال فيها، وكل تجربة تقترح رؤيتها وفضاءها ومحاورها.
للاسف الشديد أن كل العروض مبتكرة لدى هؤلاء النقاد ، فقط عليك أن تتبع أغلب نشرات المهرجانات المسرحية لتكتشف أن اغلب ما يكتب فيها لا يتجاوز حدود البيض في السلة الواحدة، بل انك ستكتشف أن هذا البيض وكما لو أنه نتاج تفريخ دجاجة واحدة لا أكثر، وهي الدجاجة التي اختزلت هؤلاء النقاد في بيضها وفي سلتها، كما أن هذه العروض المسرحية التي تخضع لمشرطهم تقاس معاييرها وفق مقاس سرير بروكست، فإن شذت عن هذا المقاس اخضعوها لنفس المقاس الذي أخضع السرير له رغما عن طوله وعرضه ..
مثل هؤلاء ادعياء النقد تختم كل العروض المسرحية لديهم بمهر واحد، ومن تجاوز العقد المختوم فإنه لا يعرف من النقد شيئا وليس بناقد ، إنه نقد ينبغي ألا يختلف عليه أحد!! ..
ولعل أهم المجربين المفكرين في المسرح هم من اقترحوا عبر تجاربهم قلقهم وتباينهم وحدة اختلافهم معها دون أن يخضعوها لمسلمات التصاعد أو التنازل البياني أو لمسلمات التنامي أفقيًا أو عموديًا، أو لمسلمات إنجازات التراكم التجاربي، بل أن أهم المجربين في مجال المسرح هم أقل المنتجين عددا أو كمّا للعروض المسرحية، ولنا في ذلك أسوة بتجارب بيتر بروك وتسادك وأريان منوشكين وروبرت ويلسون وأوجينيو باربا وبيتر مشتاين، ولعل المجال الفعال لتجليات التجربة هو البحث الاستقصائي الدؤوب في قوانينها الداخلية واقتراح المكتشف فيها وعبرها باعتباره أفقًا إشكاليًا استثاريًا لبحث آخر.
قلت إن التجربة تقترح محاورها انطلاقًا من رؤيتها وفضائها ومتخيلها، لذا ـ وفقًا لذلك ـ نتوخى أو نتوقع أو نأمل من المُحاور لها ألا يتكئ على الجاهز من المتحصل أو على مخزون الخبرة بوصفه زادًا جهوزيًا أو على البحث المستشيط والمنغمر عن السلبي والإيجابي حين يحاور التجربة، إذ التجربة تقتضي قراءة فاحصة وشاخصة رائية، صحيح أن كل تجربة تقتضي حوارًا، ولكن أي حوار تقتضيه؟ هل هو الحوار الذي يعتاش على ما ذكرت؟ أم أنه حوار آخر؟ حوار يفكر أو كلام يفكر هو ما نحتاج إليه حين نقرأ التجربة؟.
إن أسوأ ما في الأمر حين تصغي لكلام يشبه بعضه، أو كلام ينطبق على كل التجارب بمختلف أنواعها ومشاربها وأشكالها وبيئاتها، وكما لو أننا قصدنا هذا الملتقى المسرحي أو المهرجان لنرى عرضًا مسرحيًا واحدًًا وكلامًا واحدًا من شخص واحد.
أعتقد أنه لا يمكن لأي تجربة أن تثري وتخصب دون حوار مسؤول وواعٍ يتقاطع ويتأشكل معها، حوار يذهب إلى التجربة لا إلى فصل المؤلف عنها وتأليهه وكما لو أن المخرج وفريق العرض وُجدوا ليقرؤوا نص المؤلف على المتفرجين أو على أنفسهم، أو كما لو أن رؤية المخرج هي من قبيل التابو حين يتعلق الأمر بالمؤلف ونصه، حوار يذهب إلى التجربة لا إلى وصمها بتقليد أو محاكاة ذلك المخرج أو ذاك الأسلوب أو تلك الرؤية، وكما لو أن أفق البحث صار حكرًا على هذا المخرج أو ذاك، أو كما لو أن مشروع التبني لأسلوب أو رؤية هذا المخرج أو ذلك صار خطيئة.
نحن في أمس الحاجة إلى كلام يفكر ويتأمل حتى لا يستهلكنا العمر ونحن لم نزل بعد نجتر سائدنا وما ادخرته حصّالتنا الفولاذية.
نحن في أمس الحاجة إلى كلام يفكر بعيدًا عن الأسْتذة والمعْلمة والعرْفنة والقناعات الباهتة المزيفة ..
في هذا الصدد استوقفتني لوحة الفنان التعبيري النرويجي
( الصرخة ) لمبدعها ادفارت مونك ، والتي يعبر من خلالها عن هروبه واحتجاجه الصارخ والفاقع للمجتمعات القطيعية المسخية وهو يجري صارخا على جسر متجها نحو ضفة أخرى أو ملاذ آخر يستوعب صرخته، لذا نحن بحاجة ماسة وملحة للعبور إلى ضفة أخرى في النقد والمسرح المغاير حتى لا يلتهمنا غباء ومسخ أمثال هؤلاء (النقاد) الضالعين في وأد الرؤى الخلاقة في المسرح ..