«سيب نفسك».. حين ينجح المبدع في ترويض الوحش إلا قليلا / محمد الروبي
«سيب نفسك» عرض مونودرامي يعرض داخل قاعة يوسف إدريس بمسرح السلام، تلعبه الممثلة المطربة فاطمة محمد علي. وهو من إعداد وإخراج الفنان جمال ياقوت، عن نص ينتمي إلى ذلك الشكل الجديد المُسمى بـ(ميكرو تياترو) أو المسرح المصغر. النص كتبه الإسباني «مارك إيجا» وترجمته د. نبيلة حسن ضمن مشروعها للتعريف بهذا المسرح وأصدرته في كتيب مع عدد من النصوص الأخرى لكتاب آخرين.
وهنا لا بُدّ لنا من ثلاث وقفات: الأولى تخص جهد د. نبيلة حسن وإصرارها على التعريف بأحدث ما وصل إليه المسرح في العالم، وخاصة في إسبانيا التي حصلت منها على رسالتها للدكتوراة منذ سنوات. فلولا ترجمات نبيلة حسن ولولا مهرجانها السنوي الخاص بهذا الجديد المسرحي لما عرفنا شيئا عنه. فكل التحية لواحدة من القابضات على جمر المسرح.
أما الوقفة الثانية، فتخص علاقة العرض المقدم الآن بالنص الأصلي. فالنص كما سبق وأشرنا ينتمي إلى الـ»ميكروتياترو» ذلك الذي من أهم سماته ألا يتجاوز عرضه الـ(15 دقيقة)، بينما العرض يتجاوز الساعة بدقائق قليلة. وهو ما يكشف الجهد الذي بذله المُعد جمال ياقوت ليس فقط في تمصير النص، ولكن أيضا في إضافة ما يتيح له أن يقدمه باعتباره مخرجا في ما يزيد على ساعة. وأظن أن تلك هي المغامرة الأولى التي أقدم عليها ياقوت مستندا إلى أن حدث النص يحتمل إضافات تبوح بها شخصيته الرئيسية بما يلائم واقعنا المصري الآني. وهو ما نجح فيه جمال ياقوت في أغلب العرض باستثناءات قليلة سنأتي للإشارة إليها في حينها.
أما الوقفة الثالثة، فتخص انتماء العرض إلى نوع (المونودراما) ذلك الذي كنت أصفه دوما -وما زلت- بـ»الوحش الصغير»؛ إذ إنه أحد أصعب الأشكال المسرحية كتابة وإخراجا، ربما لأنها تجبر المبدع (كاتبا ومخرجا وممثلا) على التخلص من كل زائدة عن الحاجة؛ بل وتتركه وحيدا عاريا أمام حشد الجماهير دون سند من شخصيات مساعدة أو أحداث فرعية أو حتى بهرجة ديكورية. وربما لذلك أيضا كانت –وستظل– المونودراما شحيحة في عالم المسرح؛ إذ ليس كل مسرحي بقادر على الدخول في كهفها المرعب.
وللمونودراما ملامح خاصة، يعرفها المسرحيون، لكن أهم ملامحها -من وجهة نظري- هي اتكاؤها على موقف المبدع كـ(ذات) من مجتمعه وعالمه. فالموقف من العالم هو أساس «المونودراما» وربما أيضا كان ذلك سببا مضافا إلى أسباب صعوبتها. أن تمتلك موقفا من الآن أو من الماضي، هو ما يدفعك دفعا لكتابة نص –ومن ثم صنع عرض- يعتمد على الـ(البوح) أسلوبا للسرد الدرامي. إنه حوار (الذات مع الذات) الذي سيزداد تألقا وقدرة على الجذب إذا ما تحولت هذه (الذات) إلى مرآة لـ(ذوات) الحاضرين الذين هم عينة عشوائية من (ذات المجتمع) أو (العصر) الذي تحياه.
ولأن المونودراما هي (بوح) ذاتي، فأغلب موضوعاتها –إن لم تكن كلها– ستدور داخل إطار نفساني، قد يبدأ من موقف بسيط عابر يشابه مواقف كثيرة نمر بها يوميا في الحياة، ويظل يتصاعد ويتفرع حتى يصل إلى ذروة اكتماله حين يكتشف (المشاهد) أن من يراه على (الخشبة) هو قرينه، يعاني ما يعانيه. وحين ينجح هذا القرين في الكشف عن مكنوناته (كذات) يكون قد نجح في الوصول إلى غايته المسرحية.
والمونودراما –كما نعلم جميعا– تعتمد على ممثل واحد وحيد، قد يرتدي عباءات كثيرة لشخصيات كثيرة، أو يكتفي بعباءة الشخصية الوحيدة. ولكنه في كل الأحوال لا بُدّ من أن يكون ممثلا على قدر كبير من الإجادة والموهبة. فإذا كان المسرح بشكل عام هو في الأساس (ممثل)، فالأمر يزداد صعوبة حين يكون هذا المسرح (مونودراميا). وهنا يمكننا أن نضيف إلى صعوبات المونودراما صعوبة جديدة؛ بل لعلها الأصعب، فبدون ممثل قادر وقدير لا يمكن لعرض مونودراما أن يصمد أمام عطش الوحش القابع في الصالة، ذلك الذي يمكن أن تلهيه بعض المحسنات في عروض الشخصيات والأحداث المتعددة.
هنا تحديدا تتمثل وقفتنا الثالثة، أقصد قدرة فاطمة محمد علي -بتوجيهات مخرج قادر- على ترويض ذلك الوحش الصغير القابع في الصالة، القريب إلى حد التلامس بما يزيد رعب الممثل حين يرى بوضوح تعبيرات متفرجه (ابتساما أو امتعاضا أو توترا أو… أو…). وهنا وجبت تحية متقدمة لكل من فاطمة وجمال.
النص الأصلي كما سبق وأشرنا قصير للغاية؛ بل متناهي الصغر بما يليق بالنوع المُنتمي إليه (ميكرو). شخصيته الرئيسية جامعة قمامة في بلدية الحي. تشاهد مصادفة شخصا يقف على سطح البناية المطلة على الشارع الذي تنظفه. ويبدو أنه ينوي إلقاء نفسه منتحرا. تهرع العاملة صعودا إلى سطح البناية تحاول أن تثنيه عن فعلته، لا تعاطفا معه ولكن لأن فعلته تلك ستضطرها للبقاء بعد موعد انتهاء ورديتها لتنظيف أشلائه التي ستشوه الشارع. وهو ما يعني تأخرها عن موعد حلمها المتمثل في شراء (بلوزة) أسرت قلبها حين رأتها منذ أيام في فترينة إحدى المحلات واتفقت مع البائع أن يحجزها لها بضعة أيام حتى تقبض مرتبها. وكان اليوم هو موعد الذهاب لاقتناء الحلم لولا هذا الحدث الـ(العابر المزعج) الذي سيؤخرها ربما لساعات فيضيع الحلم!
في النص الأصلي، يبدأ الحدث من لحظة صعود العاملة إلى السطح لاهثة تتحدث إلى ذلك الشخص وتحكي له عن الحياة وعن نفسها وعن.. وعن.. وعن.. وعن، مستهدفة أن يتأخر فعله حتى ينتهي موعد عملها ويتسلم زميلها منها العمل. وحينها فليفعل الرجل ما يريد. وهو ما ستنجح فيه بعد أن تنهي حديثها بنصحه بأن على الإنسان أن (يسيب نفسه) يتركها لقدرها، يعبر أحزانه التي ستعبر حتما كما عبرت قبلها أحزان أشد.
في العرض يصر جمال ياقوت (المعد والمخرج) أن يبدأ حدثه قبل ذلك بقليل؛ بل ويبدأه من خارج القاعة، في الباحة المفروشة بمناضد يجلس عليها الجمهور المنتظر للدخول لمشاهدة العرض. مستغلا قدرات ممثلته الغنائية في الحديث غناء للجمهور -بمصاحبة فرقة موسيقية حية- عن مهنتها وعلاقتها بمكنستها، تداعب جمهورها وتستحثهم مشاركتها. ثم فجأة تصرخ لأنها رأت ذلك الشخص المستعد لإلقاء نفسه. فتهرع إلى داخل القاعة يتبعها الجمهور، وما أن يستقر على مقاعده حتى تظهر الممثلة – العاملة تتحدث إليه وإلينا.
بهذه الإضافة، التي لن تكون الوحيدة، ضرب جمال ياقوت عصفورين بحجر واحد. الأول تمثل في إشاعة بهجة مسبقة بين جمهوره ستصنع بتناقضها مع الحدث المقبل توترا يتمثل في السؤال (هل ستنجح العاملة؟). أما الثاني فقد أعطى لجمهوره فكرة مسبقة عن عمل بطلته ومن ثم سبب وقوعها في هذا الحدث.
داخل القاعة سيجد الجمهور نفسه على سطح بناية نجح مصمم الديكور أحمد امين وفريق المنفذين في تلخيصه بتشكيل بارع لإكسسوارات تمنح المكان إحساسا حيا به، وأيضا توفر مساحة كافية لتمثيل شخصية وحيدة.
هنا ستظهر الإضافة الثانية على النص الأصلي. فقد اختار جمال ياقوت أن يستبدل الشخصيات الأخرى التي مفترض أن تؤديها ممثلته بعرائس نجح مصممها (د. نبيل الفيلكاوي) في منحها شكلا كريكاتوريا ونفذها بتقنيات بسيطة تتيح للممثلة تحريكها ببساطة. وهنا كان لا بُدّ من إضافة درامية يبرر بها المعد وجود تلك العرائس على ذلك السطح. ويجدها ياقوت في جملة مضافة تبدو عابرة لكنها مؤثرة؛ إذ تقول العاملة في معرض نصائحها للمنتحر بضرورة تجاوز حزنه، إن تلك الحجرة الخشبية الفقيرة يقطنها عم سيد صانع ولاعب العرائس الذي كان يعمل بمسرح العرائس، لكنه في لحظة غدر الزمن به وفقد زوجته وطفليه في حادث سير. وبدلا من أن يقتله الحزن قرر أن يكون وسيلة لإسعاد الآخرين فشرع في تصميم عرائس وتأليف حكايات لها يعرضها على أطفال الحي الذي قرر أن يكونوا بدلاء عن أطفاله الراحلين.
بتلك الحجة الدرامية البسيطة نجح ياقوت معدا ومخرجا في أن يطيل زمن عرضه، وأيضا في منحه ملمحا كوميديا يخفف من حدة توتر الحدث القاسي الذي يمكن اختصاره في (محاولة إثناء شخص عن قرار انتحاره. ومن ثم المرور على أوجاع كثيرة لا تخص العاملة وحدها بل تخص الكثيرين من المشاهدين).
وهنا سيأتي موعدنا مع الوقفة الرابعة مع العرض. وهي الوقفة التي تدخل في إطار وجهة النظر. فإذا كان المعد المخرج قد أضاف العرائس، فلماذا لم يستغل إحداها ليجعلنا نكتشف أن الشخص المستعد للانتحار ذلك الذي لا نراه أبدا وسنظل باعتبارنا مشاهدين نسأل (مع من تتحدث هذه المرأة؟ أين هو ذلك المنتحر الذي تحدثنا عنه؟) لم يكن إلا مجرد عروسة. لنكتشف مع العاملة أنها كانت غارقة وأغرقتنا معها في وهم كبير. فإذا بها تكتشف ونكتشف معها أن ذلك الذي ظنته رجلا ينوي الانتحار، ما كان سوى واحدة من عرائس عم سيد تركها على شرفة السطح، فظنتها تلك المهوسة رجلا من لحم ودم.
هذه الإضافة –في ظني– ستنفي عن الشخصية الرئيسية التي تعاطفنا معها طوال العرض تهمة اللامبالاة. ومن ناحية أخرى، ستصنع مفاجأة تجيب على سؤال (أين ذلك الرجل الذي تتحدث معه؟).
مرة أخرى، تلك إضافة لا يصح أن نجبر عليها المبدع، لكنها -كما سبق وأكدنا- مجرد وجهة نظر استلهمناها من بنية عرضه ولم نقحمها عليه.
أما النصيحة التي نصر عليها، فهي اختصار بعض المشاهد والأغاني، خاصة أنها تقول ما سبق قوله. والاختصار هنا سيزيد من حدة توتر إيقاع العمل.
أيا ما كان الأمر، وسواء استمع جمال ياقوت للنصيحة أم لا، يبقى أن «سيب نفسك» عرض يحقق (بقدر لا بأس به) فرجة مشبعة برسالة مغمسة بكوميديا. والأهم أنها أظهرت قدرات ممثلة استطاعت أن تتغلب ببراعة على ذلك الـ(وحش) القابع في الصالة. فلهما ولفريقهما المعاون كل التحية.
عن: مسرحنا (عدد:824 بتاريخ: 12 يونيو 2023)