مسرحية “رجال في الشمس” لفتحي عبد الرحمن: بقاء الأسئلة/ تحسين يقين
ونحن نشاهد المسرحية المقتبسة من الرواية الفلسطينية الأكثر شهرة “رجال في الشمس”، ورد خاطر، خصوصا أن غسان كنفاني كان له صلة مع المسرح. أما الخاطر فهو أن الرواية لربما كان يفكر بعملها مسرحية، أو لعله فكر بمسرحتها، لما تحمله من مضمون يناسب المسرح. وهذا لا يعني الانتقاص من إبداعها الروائي، والذي يستلزم أيضا ذلك الصراع النفسي والاجتماعي، بل لعل ذلك هو ما منحها ميزة خلود الروائع.
لا أدري كم عدد المسرحيات التي تم اقتباسها منها، أما آخر واحدة فقد كانت على خشبة المسرح الشعبي، في مخيم الأمعري، اللصيق بمدينة رام الله من إخراج فتحي عبد الرحمن.
عبرت رؤيته الإخراجية عن المسرحية عبر التركيز عل أهم المضامين، مقسما المسرح الى ثلاث مناطق، كل واحدة كانت مع ديكورها ملائمة للمشاهد المختارة، حسب الأحداث مانحة حيوية حركية وحيوية بصرية، انسجمت مع الحيوية الفكرية والشعورية معا ونحن في ظل مأساة رجال في الشمس.
أما ما اختلف في معالجة المخرج فتحي عبد الرحمن فهو، تضمين المسرحية تقريبا 4 مشاهد، من داخل حياة الممثلين وعلاقتهم بالمخرج والنص، وهذا بالطبع من خارج أحداث المسرحية.
مشهد ام قيس وأبو قيس (ميساء الخطيب وحسين نخلة) وهما يتحدثان عن شظف الحياة في المخيم، حيث يبدو انهما اعتادا الحياة وتكيفا معها إلا أن أمل العودة الى الوطن بقيت قوية, لكن حين يطل سعد (رائدخطاب) قريب عائلة أبي قيس، القادم من الكويت مع مال، شكل إغراء لأبي قيس للسفر الى هناك. “تركب الى عمان فبغداد بالبصرة، وهناك تجد مهربين كثيرين ليهربوك الى الكويت”.
صراع أبو قيس، كهل يحلم بالعودة الى وطن، وهو في صراع هل يظل في المخيم لحين العودة او يذهب الى الكويت لتحسين الحال الاقتصادية مثل حال الذين سافروا. وهو صراع ما زال قائما لدى اللاجئين، (والآن للأسف صار يمتد الى غير اللاجئين).
مشهد حديث اسعد (محمد ابوحويلة) الشاب الوطني مع السائق أبو العبد (جميل السائح)، الذي يسافر من عمان الى بغداد. يضيق أسعد بالعيش بسبب التضييق السياسي عليه، فهو وطني مهتم بوضع اللاجئين، لكن يحلم بقليل من الحرية خارج المخيم، كذلك ليرد لعمه ما منحه من مال لتأمين تكاليف السفر، ربما ليتحرر من الاضطرار من الزواج من ابنة عمه. هو ينتقد العادات، وينتقد منطلق عمه في مصلحة ابنته على حساب العاطفة. عم أسعد يساعده من أجل ضمان زواجه من ابنته، مع ضمان مستقبل اقتصادي لابنته التي تقوم بدورها (سندس نصر الله).
يستغل أبو العبد (مهرّب) وضع أسعد الذي تطارده السلطات، فيصرّ على نزول أسعد قرب الحدود، حتى لا تتم مساءلته، لكنه يتركه بعد أن يكون قد سرق منه مبلغا كبيرا في ذلك الوقت.
مشهد مروان، (الفنان عبدالرحمن أبو سليمان) الفتى الذي وجد نفسه بدون سند، ما بين الأب والاخ اللذين انشغلا بأنفسهما، فيضطر لترك المدرسة من أجل العمل. بعد أن يتزوج أخوه خارج الوطن، ويقرر توقيف مساعدة الاهل، أما ابوه فيزوجه والد شفيقة منها، وهي المصابة خلال الحرب، ليرتاح من مسؤوليتها. كذلك لقاؤه مع الرجل المسن، المهرب العراقي على الحدود، (أسامة ملحس)، مع مروان وآخرين، وكيف صوّر نفسيته من الداخل.
مشهد أبو الخيزران مع أبي قيس وأسعد ومروان، الذي يظهر جديته، نتعرف على شخصيته، بأنه أصيب في حرب عام 1948، وفقد رجولته البيولوجية، وأصبح عاجزا، لقد فقد رجولته ووطنه. يهتم بجمع المال ليطمئن بقية حياته. (ثمة دلالة رمزية تحدث عنها النقاد عن عجز النظم العربية).
وهنا نصل الى الخاتمة المأساوية، حيث يمكث الرجال الثلاث الذي يهربهم أبو الخيزران من خلال صهريج ماء، أكثر مما ينبغي من وقت، بسبب عبث الجنـود على الحدود بين العراق والكويت، الذين يمزحون مع السائق، لتمضية الوقت، حيث تنال الراقصة كوكب وقتا من الحديث.
عودة الى الرؤية الإخراجية، خاصة ما تم إدخاله من خارج النص الى العرض، من ذلك عدم رضى ممثلين عن أدوارهم، وعدم اهتمام المخرج بمشاكل الممثلين، كذلك الجدل حول اللاجئة قبل 60 عاما والآن، إشارة الى دور بنت عم أسعد، كذلك الاختلاف حول شخصية أبو الخيزران هل هو مجرم أم ضحية.
كأننا هنا إزاء ما يمكن أن ينشأ في التلقي الأدبي والفني، لكن ذلك تم بطريق آخر، سلكه مخرجون من قبل؛ فمن مقاصد الأدب تحريك عمق الإنسان، حيث انه في الوعي يجد نفسه في العمل الأدبي، قريبا من شخصية ما، وهو في المجمل، خاصة في توفر نص عميق، يضع نفسه مكان الشخصيات، أو يتخيل آخرين وأخريات، ليبدأ التفكير والنقد الإنسان، لنكرر: هل كان في الإمكان أبدع مما كان؟ بهدف تجنب ما كان مستقبلا. تلك أحد أهم الأسئلة في المذهب الوجودي وما هو في حكمه من مضمون، باتجاه تعميق الالتزام الإنساني.
أما الطرق على جدران الخزان، من خلال اللوحة الأخيرة، فيمكن تخفيف جرعة الخطابية، في حين الاختتام ساحرا وباعثا للأمل وهو تصوير ممثلين من وراء شفافية الظل، وهم يحاكون فعل التحرر من السجن من خلال نفق الحرية شمال فلسطين.
لقد وفق المخرج في ربط النوازع النفسية المصلحية والفكرية أيضا بما هو محتمل من مضمون المسرحية بدون تكلف، حيث أن المسرحية-الرواية، قد انتقدت الخلاص الفردي.
كان التمثيل هنا رافعة من روافع المسرحية، حيث أقنعنا طاقم التمثيل بما قدموه، وهناك من قد أكثر من شخصية. لقد تآزر عنصر التمثيل مع الموسيقى والغناء (الأغنية عن البكجة) كذلك كان الديكور ملائما ومتحركا، قدم فضاء للأحداث، وهو ما قاده المخرج وعد النصّ، في التعبير الأمين والإبداعي لرواية “رجال في الشمس” إحدى أيقونات الأدب.
مسرحية عن رواية مهمة واقعيا وتاريخيا ورمزيا، تعيدنا لتأمل حياة اللاجئين الفلسطينيين، خاصة في السنوات العشر الأولى، التي اهتم فيها اللاجؤون بالبقاء، أكثر من اهتمامهم بالتغيير، وهذا ما اكسب رواية كنفاني المصداقية، فهو تحدث عن شخصيات حقيقية اهتمت بخلاصها الفردي، وليس الخلاص العام.هناك ما يجمع كل الشخصيات، الا وهو تحقيق المصلحة الشخصية. فلا أحد هنا يقدم مساعدة الا بثمن. كذلك فإن هناك على اختيار شخصيات المهربين.
آن الأوان للاتجاه الفعلي للخلاص الوطني العام، لعلنا.
قام بتصميم الاضاءة: محمد فروخ، ادارة خشبة مسرح: محمد مشارقة، تنفيذ الصوت : مرح ياسين.