نقاد الحريات السوداء !! صرخة رابعة في وجه النقد المميت .. / بقلم : يوسف الحمدان

ما أسوأ وما أبشع هؤلاء النقاد المسرحيين الادعياء الذين يرفلون بثياب واغلال وعقول وتركات الحريات السوداء لوأد الرؤى المسرحية الخلاقة المضيئة في عالمنا العربي والذين يستميتون لجعل هذه الحريات السوداء ظاهرة مسرحية ينبغي على الكل الاحتذاء والاحتماء بها وتمثل مظاهرها البائسة التي لا تنتج سوى العقم الفكري والفني في أسوأ حالاته ..
هذا النوع من النقاد نجدهم بكثرة في أغلب مهرجاناتنا المسرحية العربية خاصة، والذين تحدد وجودهم لمواجهة هذه الرؤى المضيئة التي تغاير رؤاهم ومسالكهم بشتى أنواع الهجوم الهش الذي يروم ترجيح كفة التخلف على أية كفة تسعى إلى خلخلة كل موازين هذا التخلف في رؤاها الفكرية الجريئة التي تقرأ الحياة والكون من منطلقات مغايرة تهز عروش هؤلاء النقاد وتقاليدها السائدة منذ ازمنة بائدة ..
لذا لم يكن الفنان الاسباني فرانشيسكو دي غويا عندما شبه هؤلاء بالوحوش التي سخرت لاغتيال المخيلة والعقل في لوحته الشهيرة (عندما ينام العقل) والتي اثارت في حينها زوبعة مزدوجة من التأييد والرفض، تغيرت على إثرها مسارات ورؤى فكرية وفنية، وتنامت في حيزها ثورات مضادة لكل سلطات التخلف والعقم الفكري والفني في إسبانيا واوربا، وصل صداها إلى السجون لتحفز الباحثين عن فضاءات الحرية على مواجهة غول التخلف والقمع في بلدانهم .
مثل هذا النوع من الوحوش لا يزال يحيا ويقتات ويتحين الفرص لوأد كل رؤية مغايرة في المسرح، ونلحظهم بوضوح لا تعوزه كشافات ضوئية في الندوات التطبيقية التي تناقش العروض المسرحية المشاركة في المهرجانات، وخاصة تلك العروض التي تتصدى للتابوهات بأشكالها وأنواعها السياسية والفكرية والدينية والأخلاقية والجنسية، فما أن يتصدى عرض مسرحي لتابو من هذه التابوهات الا وتكالبت عليه أنياب هؤلاء الوحوش، طعنا في أخلاق وعقيدة وفكر من أنتجه وأخرجه وأدى فيه، ولي أن استحضر في هذه السانحة مسرحية (القرن الأسود) لمؤلفها ومخرجها الفنان القطري حمد الرميحي والتي تم عرضها ضمن عروض مهرجان المسرح الخليجي التابع للجنة الدائمة بمجلس التعاون الخليجي بالعاصمة الاماراتية أبوظبي في في أواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث لم يسلم المؤلف المخرج من الطعن في أخلاقه وفكره إلى حد لم يتبق معه سوى الحكم عليه بالصلب، وذلك لجسارة رؤيته الفكرية والفنية وملامسة ذلك الجسد المحرم في عرضه وبشكل يعد حينها جرأة وتجاوزا على التقاليد والأعراف والأحكام، وبسبب ذلك اقصت لجنة التحكيم حينها هذا العرض عن ترشيحها له بجوائز كان يستحقها حقا وبجدارة، وكنت حينها أحد المدافعين بشراسة عن هذا العرض المسرحي ومخرجه والذي واجهت على ضوء هذا الدفاع عاصفة من الرفض لرايي وشخصي.
وأذكر أيضا كيف واجه المخرج المسرحي المصري الشاب منصور محمد من الهجوم والرفض عندما تجرأ في أحد مهرجانات القاهرة التجريبية من تسعينيات القرن الماضي عبر مسرخيته (اللعبة) وقدم مجسما لأحد المقدسات ترقص فوق سقفه جماعة يبدو أنها تتملك مصائر البشر باستحواذها على هذا المجسم المقدس، والذي على ضوئه استبعدت إدارة المهرجان في حينها هذا العرض وأوقفت هذا المخرج عن مزاولة عمله المسرحي كمخرج مما ادى الى وفاته قهرا وكمدا بعد فترة وجيزة من تقديمه لهذا العرض.
فهل هذا المخرج ضحية إدارة سياسية فحسب أم كان لأمثال هؤلاء النقاد دورا في إشعال فتيل هذه الحرب الظالمة المقيتة القهرية ضد هذا المخرج المسرحي المبدع الذي لم يقبل بسائد واقعنا الاجتماعي السياسي حينها ولا بأشكال الرؤى المسرحية المتخلفة التي كانت تصوغ حراكنا المسرحي بحرياتها السوداء لفترة طويلة ولا تقبل بالتمرد والتجاوز ومحاورة الموروث السجني المتخلف بديلا  ؟ ..
لا يتوفر وصف.
إنهم نقاد ضد حرية التعبير والتغيير والمصطلح والتأويل، ولنا في ذلك أمثلة أخرى، فمسرحية مثلا مثل ( حدائق ) الأسرار لمبدعها المخرج المسرحي المغربي محمد الحر، لاحظت أن كثير من النقاد و(كتبة) المسرح يرفضونها رفضا تاما لأنها لا تحاكي أو تحاور ذائقتهم التقليدية البائسة، بل ان بعضهم يرفض مسبقا ودون حوار أو  جدال فن يطلق عليه (ما بعد الدراما) ويعتبر ذلك دخيلا على تقاليدنا المسرحية العربية التي تربت ذائقتنا عليها منذ زمن طويل، ويطالب بضرورة الارتكاز على الأعمال الواضحة، لذا عندما حصدت هذه المسرحية جائزة أفضل عرض مسرحي بقرطاج الدولي 2022 ثارت ثائرة هذا النوع من النقاد لانه حسب رأي هذا النوع من النقاد بأن هذه المسرحية لا تتوفر على دراما !!!! .
إنهم نقاد ردود الفعل ضد التفيير والمغايرة والتجدد والتجاوز، وكل ما هو خلاف قناعاتهم يعتبر رجس من عمل الشيطان، إنهم يمقتون العروض المسرحية التي لا تخاطب قناعاتهم، لذا ليس بمستبعد أن تكون عروض المخرج المفكر المبدع توفيق الجبالي مستهدفة لدى هؤلاء النقاد بجملتها، وخاصة عروض ( كلام الليل ) التي عرى وكشف فيها عورات الواقع العربي بمختلف تابوهاته السياسية والدينية والجنسية والأخلاقية وبجراة فاضحة فاقعة، فالجبالي إذ يفضح ويعري فإنه في الوقت نفسه يؤسس لاتجاه مسرحي ابداعي مغاير ومؤثر، وقد انضوى تحت مظلته الكثير من شباب المسرح المبدعين في تونس وخارجها، فهل ننسى هذا الجهد الخلقي الابداعي لدى الجبالي ونحتذي بامثال هؤلاء النقاد الذين ليس لديهم سوى سيوف المواجهة للحريات بشتى أشكالها؟ ..
إنها التابوهات .. عقد النقاد (الاخلاقيين)، والتي لم تزل تستولي على أغلب جلسات النقد التطبيقي في المهرجانات، مما ساهمت في فترة من الزمن في نفينا خارج اروقتها المغلقة بسبب مشاكستنا من يديرها ومن يشارك فيها من حملة رايات الحريات السوداء من النقاد، لنجد ملاذا آمنا لنا في اروقة متعددة اخرى، سواء بفندق الوفود أو  في المقاهي أو في بعض الغرف، وأذكر من الصحبة المتمردين المشاكسين الذين جمعتني بهم حياة كان لها دورا في تأسيسنا نقديا وفكريا، وأعني صحبة الهامش، الدكتور سامح مهران والدكتورة ساميه حبيب والأستاذ احمد خميس والاستاذ السيد السباعي رحمة الله عليه وغفرانه، وازعم أن جلسات الهامش لها أثر علينا اكثر من جلسات الندوات التطبيقية والفكرية المغلقة، وقد وجدنا من خلالها ذواتنا وهي تفتح افاقا واسعة على رؤى تجريبية وفكرية ونقدية جديدة اكثر في اهميتها مما تعلمناه في اكاديميات ومعاهد المسرح وندواتها المغلقة، وهي التي جعلتنا وساهمت في تشكيل خلايا التمرد في عقولنا ومخيلتنا ضد وحوش التخلف والتسلط القهري كما أطلق عليهم فرانشيسكو دي غويا، وكانت الناقدة القديرة الدكتورة نهاد صليحه رحمة الله علينا توشك أن تكون الوحيدة من بين المشاركين على طاولة الندوات التي تتقبلنا وتحتوينا حتى صارت فيما بعد واحدة من أعز الصديقات في هذا المجال ..
ولأننا نرفض هذه الحريات السوداء التي اساءت كثيرا لمسرحنا العربي بتوجهاته الابداعية المغايرة عبر ممثليها من النقاد السجانين، سنظل نبحث دائما وباصرار عن هذه الحرية المشاكسة، عن هذا الأفق المضيء الذي ينسل بين حشود الأغصان والأشجار كالشمس المشرقة في أكثر الغابات كثافة ووحشية ايضا، فلم نعد نحتمل هذا البؤس الذي همش كثيرا من العروض المسرحية ذات الرؤى الخلاقة والمؤثرة بسبب هؤلاء ( النقاد ) !!.
لا يتوفر وصف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت