الاستيطيقا فتنة التلقي ودهشة الابداع المسرحي قراءة في كتاب (جدليًة الجمال .. النشأة والتمرحل) للكاتب والمخرج علي العبادي / قراءة: عقيل هاشم
في مجمل الاعمال الفنية قد تبعث الأعمال الفنية على الدهشة أو السخرية، الأمل أو اليأس، الإعجاب أو النفور؛ قد يبدو العمل الفني مباشرًا أو معقدا، غامضًا أو جليا، واضحًا أو عبثيا، لكن المقاربات والمواضيع التي أفضت إلى خلق العمل الفني ترتبط بمخيلة الفنان وحده. وقد نتفق على جمال أعمال فنية إنما قد لا نتفق على جاذبيتها بالضرورة. الجمال هو قياس تأثير، إنه مقدار انغماسنَا بالعمل الفني – مدى وصولنا لتصور الفنان حول عمله الفني. الفن الجميل هو ذاك الذي ينجح في تصوير أشدّ انفعالات الفنان المتوخاة عمقًا. سواء كانت جذابة ومشرقة، أم مظلمةً ومنفرة. في نهاية المطاف، ليس في وسع الفنان أو المشاهد التأكد من أن فكرة العمل الفني قد وصلت كما أرادها الفنان تمامًا. لأن الذائقة الجمالية مسألة ذاتية.. سلسلة من الاصدارات قام بكتابتها الكاتب علي العبادي كانت تهدف الى الاشتغال على حمولات فكرية وفلسفية تشتغل على منظومة المسرح الجمالية من تأليف وعرض والتعريف بالدراما مع عرض نقدي لنصوص مسرحية , اما كتابه هذا ، “جدليًة الجمال النشأة والتمرحل” والصادر مؤخرا عن دار امجد للنشر والتوزيع 2023- يكشف الكتاب ،عن الاستيطيقا –مفهوم الجمال /علم الجمال , سمات الانجذاب والدهشة الى الاعمال الفنية والعروض المسرحية ، خاصة في العصر الحديث، تستمد تلك الاعمال رؤاها من معطيات الجمال كمفهوم وفلسفة بالقدر الذي يؤرخ فيه الكتاب لتاريخ هذا المصطلح وحسب الرؤى والنظريات الفلسفية ومنذ بواكير ظهور مفهوم الجمال-علم الجمال تاريخيا ، منذ فجر التاريخ وتطوره في عصر الأنوار والى القرن العشرين ، إضافةً إلى فلاسفة آخرين يمثلون أعمدة الفلسفة المعاصرة. الكاتب في سعيه الدؤوب في قراءة المفهوم الجمالي وعلاقته بالشعرية –الانزياح اللغوي للنص المكتوب .
في مجال الفنون الادبية , ومن ثم التعرض الى نص المؤلف –نص المخرج. تداخل علائقي بين العرض المسرحي و اللغة الادبية, وذلك من تنظيرات و تأثير أفكار هؤلاء الفلاسفة. المحتويات : في علم الجمال وفلسفة الفن/ معنى الجمال والحكم الجمالي /الجمال عند سقراط/الالهام الافلاطوني/ المنطق الارسطي/ الارادة عند شوبنهاور/الجدل الهيجلي / المعيار والجمال عند كانت / جماليات الشكل لدى جورج سانتيانا / جون ديوي وخبرة الفن / مفهوم الفلسفة والنقد عن امبرتو ايكو/ في النقد /النظرية النقدية الارسطية / النقد والنظرية النقدية في المسرح /فن المسرح وشعرية المصطلح /مفهوم الانثريولوجيا واشتغلاته في المسرح/ نص المؤلف –نص المخرج قراءة في الثابت والمتحول.. الجماليات (الاستطيقا)، هو دراسة الفن، ويتطلب موقفا جماليا يتعاطي مع التجربة الفنية كغاية مطلقة قائمة بذاتها , ووسيلة لتذوق العمل الفني.
ومع أن في وسع المرء أن يخوض ‘ تجربة جمالية’ من خلال منظر طبيعي، أو نكهة أو مذاق، إلا أن العمل الفني يتميز عن هذه الأشياء في كونه منتَجا، لذا، يمكن تعريف الفنّ على أنه نقلٌ مقصود لخبرةٍ ما، بوصفها غاية في ذاتها. محتوى تلك الخبرة ضمن سياقها الثقافي قد يحدد إن كان العمل الفني عابرًا، او مهما لكنه فن في كل الأحوال. وإن الفارق الجوهري بين الجمال والفن يكمن في أن الفن يتعلق بمن يقدّمه. الفن هو وسيلة للتصريح إحساس، أو التأسيس لرؤية أخرى للعالم، سواء كانت مُستلهمة من أعمال الآخرين أو من شيء مبتكر وجديد كليا. غير أن الجمال جانب من ذلك أو فلنقل إنه كل ما يبعث على السعادة والإيجابية في الأشخاص. الجمال وحده ليس فنًا، لكن الفن يمكن أن يُصنع من، أو حول أو من أجل الأشياء الجميلة. “الفنّ” هو صياغة المعنى فيما وراء اللغة.
يكمن الفنُّ في خلق المعنى بأداة ذكية، تستثير ردّ الفعل الجمالي فينا. إنه وسيلة التواصل حينما تفشل اللغة في تفسير ووصف محتواها. في مقدوره البوح بالمسكوت عنه، ولأن ما يعبر عنه الفن وما يبثه هو في جزء منه فوق كل وصف، فإننا نجد من الصعب تحديده أو ترسيم معالمه. يقع تعريف الفن ما بين نيّة الفنان وتعبيره وما بين خبرة الجمهور بالفعل الفني، يشترك الجميع في صياغة معناه، ولذا فمن الصعب القبض على تعريف للفنّ. إنه متنوع واستمراري. وحتى هاجس الاختلاف في تعريفه، يعبّر عن شيء ما. إذن أين يقع المفهوم الذاتي بإمكانية العثور على الجمال في الفن، من هذا كله؟ إن كان الجمال محصلة عمليةٍ نحصل من خلالها على أحاسيس الرضى والسرور فمن الأفضل له أن يظل مسألة إدراك شخصي، حتى وإن نادت قوى خارجية بالسيطرة عليه. بكلمات أخرى، لا أحد، بمن فيهم نقاد الفن، ينبغي أن يملي على الناس ما هو الجمال من عدمه.
فعالم الفن قائم على صراع مستمر ما بين الحفاظ على الذوق الخاص وتعزيز القبول الجماعي. أن الجمال يتجسّد في الفكر وليس في المظهر والشكل الخارجي وعلى هذا نجد أنه يميّز بين نوعين من الجمال الطبيعي والفنّي، فالجمال الطبيعي يرفضه تماماً لأنه تقليد ومحاكاة وبالتالي يكون خالياً من أي إبداع ذهني. في حين نجد هيغل يعلي من درجة الجمال الفنّي، لأنه وليد فكر الإنسان وروحه، وما دام أن هذا الفنّ وليد العقل، ولا بد من ضرورة أن يكون وسيلة لتمرير الأفكار والحقائق، وهنا يصبح الفنّان فيلسوفاً. وهذا ما أكد عليه هيغل في كل أبحاثه على أن مهمة الفنّان هي التّعبير عن الرّوح المطلق وإذا فشل في التعبير على هذا يصبح فنه لا قيمة له ولا جدوى منه.. إذاً، الجمال الفنّي هو وحده الذي يكفل التوحيد بين الفكرة والشكل، لأنه ينبع من روح الإنسان وجوهره، وليست الرغبة هي ما يربط الإنسان بالعمل الفنّي؛ لأن الحكم الجماليّ موضوع للفكر والتأمل غير أن التأمل الجماليّ يختلف عن التأمل في العالم، لأن التأمل الفنّي حسي والتأمل في العلم جوهري. لقد تبيّن لنا أخيراً، أن معرفة حاجة الإنسان إلى النشاط الجماليّ تنبع من رغبته في معرفة نفسه، وتلبية احتياجات روحية عميقة لديه، ومنه فالإنسان في تلقيه للعمل الفنّي يتأمّله دون أن يستهلكه. أن التّصور الهيغليّ للجمال حلقة أساسية، متلاحمة ومتواصلة في تاريخ الفكر الفلسفيّ عموماً، وفي تاريخ علم الجمال خصوصاً، هي حلقة متواصلة مع ما سبقها من أفكار جمالية سواء كان هذا عند القدماء ,ثم كان داخل الثقافة اليونانية تارة بتجاهل الحقيقة المحسوسة على أساس انعكاس ضعيف ومبهم لعالم آخر رائع ومتكامل وهذا مع أفلاطون، وتارة أخرى مع أرسطو بالبحث عن الأفكار العامة والعالمية والتي ساعدت على قيام العلوم الطبيعية ووضعت منهجاً للتفكير لقرون طويلة. وهناك عدة قراءات تاريخية مختلفة إلى كانط الذي عبّر عن نظريته في الجمال من خلال مصنّفه «نقد الحكم» والذي يعدّ مقدّمة لا غنى عنها في علم الجمال، وخاصة باتجاهه للبحث عن عناصر أولية سابقة على التجربة.
-اما الفصل الاخير للكتاب تناول موضوع نص المؤلف نص المخرج – قراءة في الثابت والمتحول : تنتمي جدلية المخرج المؤلف في العرض المعاصر لمرجعيات فكرية وجمالية بالغة القدم وولد المخرج المؤلف وحسب مفهوم تشاركية بين اللغة والعرض المسرحي, ظاهرة تفاعل بين وجهات نظر المخرج/المؤلف وتعاطيهما مع العناصر الادبية واللغوية للمسرح وها ما حصل في تجربة المخرج ستانسلافسكي وتشيخوف. الكاتب المسرحي عندما يكتب نصه يعي تمام الوعي أهمية هذه العناصر لترجمة نصه على الخشبة وإعطائه الروح والحياة، كي يصبح عرضاً كاملاً يوصل المسرحية إلى هدفها وتجربتها الكاملة للمشاهدين، فالنص المسرحي يُكتب كي يعرض وليس كي يُقرأ، وهو بالتالي لا يصل إلى قيمته الكاملة إلا عندما يعرض على خشبة المسرح.
ولكن هذا لا يعني أن النص المسرحي ليست لديه قيمة معنوية، بل على العكس، إن النص المسرحي يستعمل كعنصر أساس من عناصره اللغة، ولهذا يسمى بالأدب المسرحي، وبالإضافة إلى اللغة، فإن الكاتب المسرحي يستعمل أيضاً كعنصر أساس في عمله خلق شخصيات المسرحية، وهذا بحد ذاته عمل إبداعي، لأن القصة المسرحية مكونة من أحداث معينة تجري مع شخصيات معينة يتفاعلون مع بعضهم، وهذا بالتالي يخلق أحداثاً أخرى خاصة ومحددة، وكذلك فإن النص المسرحي يحاور موضوعاً معيناً أو فكرة معينة ليطرحها على الجمهور، ولذلك فإن النص المسرحي يمكن اعتباره أدباً غنياً ولكن ترجمته على خشبة المسرح مع رؤية المخرج، تعطيه قيمته الفعلية الكاملة كتجربة يشارك فيها المشاهد.
المخرج هو من يترجم النص المسرحي على خشبة المسرح . المخرج الجيد هو من يستطيع أن يفهم النص حق الفهم ويعطيه معناه الكامل وقيمته الحقيقية. بعد تجليات ما بعد الحداثة التي بدأت تتخذ أدوارها المتنوعة في معظم الفنون الإبداعية في ثمانينات القرن الماضي باتت النصوص المسرحية من وجهة نظر المخرج، مخططات أولية لمشاريع عروض مسرحية، وباعتبار المخرج يجد نفسه خالقا ومبتكرا ومكتشفا للعرض فإن حدود هذه المسؤولية تستدعي منه أن يصحب النصوص إلى محترفه الذاتي، ليسلط عليها مشرطه بدون الوقوف عند محددات نماذج معينة، مستندا في فاعلية دوره إلى منطق قائم في قواعده على الافتراض والتخييل لشكل العرض بدون أن يضع في اعتباره ضرورة الحفاظ على أي صلة مع النص، فالمهم بالنسبة له أن يكون خطابه مستمدا ديناميته من الفضاء المسرحي وليس من لغة النص..
واشار الكاتب الى تجربة صلاح القصب في مسرح الصورة بالعراق، كما أشار الى، عرض “هاملت”، الذي قدّمه في كلية الفنون الجميلة ببغداد عام 1980.حيث تقوم التجربة على اخذ حدث درامي مقتطع وتوظيفه بعد تغريبه مكانيا. تقوم بنية الخطاب المسرحي في مسرح الصورة، كما فصّلها القصب، على شبكة من التكوينات الجسدية، والأشكال الحركية والإيمائية والسينوغرافية المركبة، الغامضة، المصمّمة وفق علاقات إيحائية متغيرة، وتصاحبها إيقاعات صوتية بشرية مختلفة.
وتجربة الفنان الرائد سامي عبد الحميد في مسرحية “عطيل” حين قام بتغريب المكان والحدث .. وتطرق الكتاب إلى أهمية الخطاب المسرحي المعاصر، ودور المسرح في بناء وعي المتفرج، بأن يكون العرض المسرحي مدركا فنيا وجماليا، وتناول الإخراج المسرحي باعتباره لعبة العقل والخيال والمشاعر، وعرج المؤلف إلى إشكاليات النص المسرحي، والعلاقة بين المخرج والمؤلف باعتبارهما شريكين في خطاب العرض، وكذلك ناقش الكتاب ما يتعلق بالكتابة المسرحية المعاصرة، من حيث توازن الشكل مع المضمون، وختاما يمكن ادراك الجمال في التجربة الفنية بوصفه معايشة واكتشاف، لأن القارئ حين يقرأ نصا فانه يعيد فهمه من خلال تجربته هو وثقافته.
وبذلك يمكن للقارئ اكتشاف رموز الجمال في التجربة الفنية. وكل ما في العمل الفني يبدو ناجحا على قدر الأثر الذى يتركه في نفس القارئ، وهو المقصود بمعنى الجمال, ويسمى انفعالا جماليا لأنه من ابداع القارئ, ويعكس تجربته الخاصة مع النص. وسيظل الجمال خلاصة حياة, والكاتب والمخرج علي العبادي هو نموذج مثالي للفنان الطموح والشغوف بالفن وفلسفة الجمال وشعرية المسرح .
لقد أدرك بحسه النقدي أن الكتابة وحدها لا تصنع فنا وانما الفهم والتفسير -القراءة الجادة للفلسفة الجمالية – وحدها فاتحة إلى الفن الخالص والحقيقي المؤثر، واثارة الاسئلة المصيرية ليضع تلك الأسئلة في سياقها المعاصر, بعد ان اصبح الفن بمثابة قياس للضمير الجمعي الانساني. العبادي وبعد هذه التجربة الجمالية والفنية من التأليف والاخراج والنقد صار معنيا فلسفيا ان يفلسف ما يكتب ويبثها تلك المفاهيم الجمالية اسئلة بلغة ادبية – بصرية يمكنها أن تكون مقنعة للذائقة والوعي الفني والجمالي . وبهذا يكون قد امتلك ناصية انتاج خطابه النقدي المعاصر لاسيما وانه يشتغل بهدوء على هندسة مشروعه الجمالي الخاص باليات المسرح وكيفية التأثير في الاخرين , فالكاتب اليوم ليس لديه سوى الجمال ليدافع عن قضيته كونها رسالته السامية في الحياة..