نقاد الصراط المستقيم .. تارديو معاكسا .. صرخة سابعة في وجه النقد المميت !! / بقلم : يوسف الحمدان
تورطت ساحتنا المسرحية بنقاد لا يؤمنون بشيء غير الثبات والتشابه في كل ما يرونه في المسرح، وإن شذوا عن تلك القاعدة فإنهم حادوا عن صراط إيمانهم بالمسرح الذي يريدونه، فهم عبدة أصنام أفكارهم المتكلسة الميتة، لذا تراهم يرون المسرح المغاير المشاكس ويرون من يعمل في معامله بأنهم يعملون ويمثلون ويقدمون مسرحهم ولا أحد يسمعهم، إنهم يعرضون مسرحياتهم لأنفسهم، ومسرحياتهم يغلب عليها الغموض والإبهام ولا يمثلون بطريقة تختلف عما نشاهده واعتدنا عليه في مسرحنا، كما أنهم يقدمون مسرحياتهم في أماكن لا علاقة لها بخشبة المسرح، تارة في زقاق وتارة في حوش بيت وتارة على شاطيء بحر وهكذا .
طبعا هذه ( المآخذ ) كانت في أوجها في بداية ( الانحراف ) نحو هذا التوجه المغاير في المسرح، ولها مؤيدون كُثر، وكانت تحمل في طياتها حملات عنيفة، إعلامية وغير إعلامية ضد هذا التوجه أو ضد هذا الشخص من هذا المسرح أو ضد هذه الكتابة من بين هذه الكتابات الكثيرة، وكيل من الاتهامات لا أول لها ولا آخر .
طبعا هذه ( المآخذ ) وان استمرت حتى يومنا هذا بانواعها واشكالها، خصوصا بعد أن اتسع مجال التجريب في المسرح العربي، وحتى في البلدان الأوربية المتقدمة جدا في مجالات المسرح فانه لا يزال يحدث ما قصدناه من مواقف مضادة .
وهكذا كما نعلم واجه كثير من رواد مسرح الطليعة في العالم وخاصة في فرنسا ومن بينهم الكاتب المسرحي ( جان تارديو ) الممهد لبروز كتاب مهمين في مسرح العبث وتأثيرهم قوي وفاعل على المسرح في العالم، من أمثال أوجين يونسكو وصموئيل بيكيت وجان جينيه وأداموف، واجهوا الكثير من الصعوبات والرفض لمسرحياتهم ورؤاهم من قبل هؤلاء النقاد الذين اسهموا في تحريض السلطات، وخاصة سلطات الرقابة، لعدم اجازة نصوصهم وعروضهم أو وضع عقبات كبرى أمامها كي لا تخرج إلى النور تحت ذرائع وحجج رجعية متخلفة لا يفرح بها إلا المسرحيون المتخلفون الرجعيون الذين وجدوا لهذه الأسباب الساحة ممهدة لعروضهم ولجماهيرهم دون تجارب تؤرقهم أو تقلل في رأيهم من شأنهم وشأن المسرح .
ونقف في هذه السانحة ( الصارخة ) عند كبير رواد التجريب في فرنسا وأعني به تارديو ، الذي بدأ ينشر مسرحياته القصيرة جدا عام 1947 م ، وقد أثار من خلالها حفيظة التقليديين في المسرح، خصوصا وأنه لا يعترف بمسرحهم، بل يجد متعته الكبرى في تعريتهم .
وفي الوقت الذي احتدم فيه الصراع بين ركائز وثوابت المسرح القديم والحديث، فإن ( تارديو ) لم يتزحزح قيد أنملة عن المطالبة بكامل الحرية للكاتب المسرحي في التخلص من كل آثار المسرح التقليدي في ماضيه وحاضره، ووصل الأمر بتارديو بأن يرفض الانتساب إلى موجة مسرح العبث، واعتبر انتسابه لها فقط من باب التحوط كي يكسر جدران العزلة من جهة، ويساند موجة الحداثة والتجديد في المسرح الفرنسي خاصة والمسرح العالمي بوجه عام .
ومما يضاعف من مهمة الناقد، أن تارديو لا يقترح طريقا ثالثا للمسرح بقدر ما كان يقترح سلسلة من الاتجاهات المختلفة المتنوعة، وفي الوقت الذي كان المسرح في فرنسا يدخل بترف التقنية المسرحية، كان مسرح تارديو غاية في التقشف من ناحية الوسائل الفنية وأدوات التعبير، وقد أطلق على مسرحه مسرح الغرفة، مكان صغير وجمهور محدود وعرض مواجهة ساخر، وأصدر مجموعة مسرحيات قصيرة أطلق عليها (مسرح الغرفة)، منها (من هنا وهناك) و( الأدب العقيم ) و قدس الليل ) و ( كلمة مكان كلمة ) وغيرها .
هذه المسرحيات المشاكسة التي تهز أركان نقاد التشابه والثبات والتكلس، قدمت على مسارح العالم التجريبية، وفي تقديمه لمسرحياته يقول : “بأنها معالجة المسرح من خلال وسائله لا من خلال أغراضه وأهدافه، والاهتمام بقضايا المنصة أكثر من الاهتمام بموضوعات المسرحيات” .
وهذا ما يزعج نقادنا الذين نعنيهم في سانحتنا هذه، إذ النص، الموضوع أو ماشابه، هو أمر نقدس في المسرح والخروج عليه يعد خروج على المقدسات .
ومسرحيات تارديو تسخر من أشكال المسرح التقليدي ومكوناته، مثل الحوار المصنوع والتجنيبات والتحدث على انفراد، والموت في مسرحيات تارديو ليس النهاية التي ينتظرها أبطال بيكيت، بل هو نوع من الفناء أو الصمت الأخير الذي يهددنا في كل حين ولا سبيل من الإفلات منه.
ويرى مارتن أسلن بأن تارديو هو الوحيد من بين جميع كتاب المسرح الطليعي الذي يستطيع أن يؤكد أنه طرق أكبر عدد من التجارب وأكبر قدر من الكشوف، وهذا الذي جدد الدعوة إلى اعتناق آراء ( آرتو ) في الإخراج واللجوء إلى اللغات المسرحية غير الكلامية من حركة وإيماء وغناء، والإصرار على اكتشاف كل ما هو جديد في المسرح ومغاير وفاعل .
سيذهب البعض ويتهمني في التعميم فيما أذهب اليه، وأنا بدوري أدعو من يرى ذلك بأن يجلس ويصغي لفترة لا تتجاوز الثلاثين دقيقة في قاعة الندوات التطبيقية بعد تقديم عرض مسرحي مغاير مشاكس، سيرى مدى وجه الشبه في أغلب ما يطرح حول هذا العرض ولكنه سيفقد أهم شيء في العرض واعني به العرض ذاته من خلال الرؤية والآفق اللذين انطلق من خلالهما المؤلف أو المخرج !!!!