بلاغة الخطاب التحذيري في النص المسرحي “في حضرة الشيخ القوقل” / بقلم: الباحث رشيد بلفقيه

1/ تقديم:

تفرض الثورة الرقمية على الإنسان المعاصر تحدّياتكثيرة، تسحبه من عوالمه الواقعية تطبيقا بعد آخرلتزجّ به في بعد افتراضي تتبدل فيه المعايير والقيم؛ منذرة بسلبه سمات إنسانيته، بوثيرة متسارعة تفوق قدرته على التّكيف بما يجعل زمام القيادة يفلت من يديه، في هذا الواقع المتسم بالصراع من أجل الحفاظ على السمات القديمة، يعيش بطل النص المسرحي “في حضرة الشيخ القوقل” منزويا في بيته بوصفه ركنه الركين، وكونه الحقيقي الوحيد الذي يمكنه أن يحمي أحلام يقظته، ويتيح له أن يمارسها في هدوء، حسب تصور غاستون باشلار[1]، وبوصفه القلعة الأخيرة التي تؤمن له الحماية وتضمن استمراره في ظل متغيرات لم تعد له القدرة على التكيّف معها.

يُصوّر النصّ بطريقة تراجيدية مآل الإنسان في ظل هذه التحديات، منبّها إلى آثارها الخطيرة على الفرد وسلوكاته عندما يفكّر في الوقوف في وجه قوة التقنية، كما يكشف سلبيات مجتمع الاستهلاك الممتلئ بالخطابات الحجاحية السرابية التي لا هدف لها إلا تعزيز سيطرتها على الإنسان، وذلك وفق رؤية تراجيدية سوداوية رغم طابعها الساخر ينتهي فيها البطل ميّتا، في ظل واقع يسلبه كل شيء حتى حياته، وقد أطّرنا قراءتنا بالتساؤل ما هو الخطاب الذي حملته عتبات النص بوصفها المدخل الأول المؤدي إليه؟وكيف وظفت شخصية البطل، بوصفها مكونا من مكونات بناء النص الدرامي للتّعبير عن مقصديات الكاتب؟ وما هي تجليات خطاب التحذير من خطر التقنية وتغولها في النص المسرحي؟

2/ خطاب العتبات في المؤلّف

يتسم العبور إلى عوالم النص المسرحي بتعدد العتبات التي يتحتم على القارئ اجتيازها لبلوغه، بوصفها موجهات لا يمكن المرور بها دون قراءة تستجلي وظيفتها وتقف على تناسق خطاباتها مع خطاب النص؛ بدءا بالعنوان “في حضرة الشيخ القوقل” الذي جعله أسلوب الحذف الموظف في تركيبه يحتمل الإفادة بأن النص المتضمن في المؤلّف قد يعرض لنا ما سيجري في حضرة ذلك الشيخ المهيب الذي ليس سوى محرك البحث الشهير google، والذي قٌدِّم تقديما استعاريا أكسبه هيئة شيخ بشري، في استثمار بليغ للتورية الساخرة التي تتهكم من تحوله لدى بعض الباحثين إلى شيخ ذي معرفة مطلقة وموثوقة، متنذرا بذلك من تعودهم على الإحالة عليه وعلى علمه الرقمي الغزير بطريقة مبالغة تنافس الرجوع إلى الشيوخ الحقيقيين وإلى مصادرهم وكتبهم الحقيقية، متوهمين كما أشار خالد أمين: “أنهم يستطيعون معرفة كل شيء عن موضوع ما دون ممارسة طقوس القراءة، وعناء مؤانسة الكتاب الورقي أو الانتقال إلى المكتبة”[2]، ويثير هذا الاختيار في المتلقي فضول اكتشاف تفاصيل اللقاء الموعود بهذا المحرك الباحث حين يتخذ شكله الجديد.

في العتبة الموالية نقف عند الاختيار الأيقوني للغلاف ممثلافي لوحة “الفيلسوف” الشهيرة، ذات التشكيل الغرائبي الذي يحتل فيها الكتاب الورقي مكانا رئيسيا بوصفه المادة الوحيدة الموظفة لتشكيل وجه إنسان يقرأ بدوره كتابا، بما يوحي بانغماس مطلق في عوالم الكتب والبحث المعرفي من أجل تحقيق تشكل تام، يعبّر التركيز على تركيب الوجه البشري دون غيره من عناصر الجسم على الانشغال بهوية الإنسان وكيفية بنائه بناء سليما ما دام الوجه هو العنصر المهم في تعريف الكائن البشري وتحديد سماته، كما يعبر تعدد الكتب المشكلة لذلك الوجه عن أهمية تعدد معارف الإنسان ليكون تشكله متسما بالكمال والتوازن، إذ يستحيل بناء إنسان كامل بتوظيف فرع واحد من فروع العلم أو المعرفة مهما كانت أهمية ذلك الفرع، فالمعارف تسند بعضها لتشكيل ذلك البناء المنسجم، كما تسند الكتب بعضها البعض في ذلك التشكيل الفني.

وبعبور هاتين العتبتين يجد المتلقي نفسه أمام تقديمين دقيقين، ركز الناقد خالد أمين في الأول منهما على هيمنة الرؤية الكابوسية بوصفها ميزة مشتركة بين النصين المسرحين، وما توحي به من سوداوية الواقع الذي يعيشه إنسان اليوم في نظام معرفي يتسم بهيمنة الصورة، والوسائط، وتغولهما في تصدير خطابات إقناعية تسعى إلى سلب الإنسان حريته، وبوصفها رؤية ذات بعد استشرافي يحذر المتلقي من مآلات الإفراط في الاعتماد على الوسائط الرقمية التي باتت تزاحم المنشورات والكتب الورقية، وتغذي أوهام المعرفة السطحية التي باتت متوفرة بنقرة مما كرس معرفة سطحية قوّضت التفكير النقدي لدى الكثير من مدمني محرك البحث الرقمي غوغل[3]، وترسم لوحة لحياة الإنسان المعاصر تسمها السخرية السوداء، تلك الحياة  التي “أضحى الاستعراض سمة بارزة تهدد إنسانيتنا في أبسط تجلياتها”[4]، وهو ما يضع القارئ وجها لوجه في وضعيات يمتزج فيها البكاء والضحك. وركز التقديم الثاني الذي كتبه الناقد عبد الرحمن بن إبراهيم على البعد الأسطوري في صورة الفنان والمبدع المؤسطر في الكتابة، ذلك البطل الإشكالي الذي تشكل تلقائيا حين اختار “الكاتب القذف ببطله الإشكالي في دوامة الإعصار العولمي واختزل ذاته ومعارفه ووجدانه وأحلامه وعلاقاته التواصلية والحميمية في مجرد نقرات ووخزات على الشاشات”[5]، من خلال تيمة اجتمع فيها النفس الفنتازي بالعجائبي والتخييلي، بوصف إنجازه -ذاك في حد ذاته- إنجازا أسطوريا يتعلق بـ”فعل تخييلي يخترق حجب الواقع، وينتهك القواعد، ويسائل الثوابت، ويفكك ويعيد تركيب ما بات مطبقا في المخيال الجمعي بما يتناسب ورؤية المبدع”[6].

يجمع الناقدان على وصف تجربة الكتابة عند كريم الفحل الشرقاوي بالتجربة الرائدة، لما راكمه من نصوص مكتوبة وعروض مسرحية حظيت باهتمام النقاد في المغرب وخارجه، لاتسامها بالتجديد الذي يعزى جزء منه إلى مميزات شخصية الكاتب المؤسّسة على تنوع هوياتي ولغوي ساهم في جعلها مبدعة منفتحة ومقبلة على التجريب، وهي الرؤية التي ستسهم في الدفع بالإبداع المسرحي إلى مزيد من المكتسبات ما دامت الحاجيات في المرحلة الراهنة تفرض على المبدعين التحلي بالانفتاح الفكري والإبداعي، والقدرة على التجديد في أساليب الكتابة وفي المواضيع التي يتخذونها مجالا لاشتغالهم، مع التجريب المبني على معرفة وخبرة لمعالجة الإشكالات المطروحة على طاولة الإبداع المسرحي المغربي.

3/ الإنسان المحاصر في عصر التحديات الرقمية: شخصية “مسرور” نموذجا

بتجاوز العتبات يبلغ المتلقي عوالم النص الذي ارتأى الكاتب تقديمها في معالجتين الأولى مونودرامية استأثرت بها شخصية “مسرور” مع حضور خافت لشخصية “الشيخ القوقل”، والثانية متعددة الشخصيات استدعيت إليها المجموعة المكونة من “الشيخ القوقل”، وزوجة البطل “شبشوبة المسعورة”، ثم الضابط العبوس إلى جانب شخصية الرئيسية أي “مسرور” دون أن تسحب أي منها دور البطولة منه، واختار الكاتب لهذه الشخصيات التفاعل في فضاء القبو الذي قدمت سماته بالاعتماد على الوصف المؤثر ليسهل تشكيله في ذهن القارئ بوصفه مكانا منسيا، مهملا، لا رفاهية فيه ولا يوفر ظروف حياة كريمة، فهو كما وصفه الكاتب: “قبو سفلي معتم إلا من نافذة عالية تكاد تلامس السقف، جدرانه المائلة عبارة عن رفوف محفورة تزدحم جنباتها بالكتب والمجلدات”، كما أنه كاد يتحول ‘إلى قسم مستعجلات تحشر فيه الحشرات حشرا كي تتلقى العلاجات الأولية والثانوية وحتى الثلاثية الأبعاد”، بما يعبر عن الفقر المزري الذي يعيش فيه، وتغدو الشخصية في النص طباقا حيا، كما حددته آن أوبرسفيلد[7]، بوصفها في المعالجتين معا للنص المسرحي موضعا رئيسيا للتوتر الدرامي، كما يغدو مرجعها الاجتماعي تعبيرا عن حال طبقة معينة من المجتمع، طبقة اختارت الانزواء في أكثر الأماكن تحصنا خوفا من التغييرات التي تحيط بها، لكنها لم تستطع أن تسلم منها بالرغم من ذلك، وحسب آن أوبرسفيلد دائما من الممكن “أن تحتمل الشخصيات قدرا من الدلالات شريطة أن تستثمر هذه الدلالات أثناء القراءة أو العرض بإيقاع متكرر”[8]، وفقا لهذا يمكننا الجزم اعتمادا على مجموعة من السمات المتكررة في النصين، بأن شخصية مسرور شخصية تتسم بالمفارقة فواقع حياته يخبر بأنه لاحظ له من اسمه الذي يوحي بالفرح والسرور بالنظر إلى ظروف حياته المزرية، وجو الكآبة الذي يعيش فيه، ونهايته المأساوية، كما أنه شخصية تتسم بالبناء المتناقض فهو من جهة يقف موقف المنهزم أمام زوجته التي أطلقت العنان لتمردها على رجولته المفقودة، فكان يقف موقف المستسلم أمام نوبات غضبها، فنجده يقول:” … عند مستهل كل مكالمة مع شبشوبة أمنحها فسحة من الوقت لكي تفرغ جحيم سعارها الشهير وحممها البركانية المشحونة بالزعيق والنعيق والبصق والسباب والقذف بأقذع النعوت وأفحش المصطلحات من عيار خمسة نجوم تحت السرة وسبعة نجوم فوق الركبة، وهو سعار عادة ما ينتهي بالولولة واللطم والعويل والبكاء على شبابها وأيامها التي ضاعت مع رجل فقير حقير سكير مثلي”، لكنه يعرف كيف يستل سوطه ليدافع عن قبوه المعزول وعن أفكاره الفريدة ضد التيارات التي تحاول اخترق عزلته، مما يجعل منه شخصية مركبة، تعرف متى تنفض عنها ضعفها وتدرك المعارك التي عليها أن تخوضها بشراسة، فكما نقرأ في الإرشادات: “يظهر-مسرور- من بين الصناديق حاملا سوطا يلسع به اديم الأرض. يفتح الباب ويخرج هائجا. وينسحب مكبر الصوت من النافذة. يسمع بالخارج صوت عويل كلب يتلقى ضربا مبرحا ومؤلما، يعود مسرور إلى القبو وهو يلهث” وتتكرر ردة فعله نفسها مرة أخرى دفاعا عن فكره ضد التطرف وخطابه المحرض على الموت.

تختزل شخصية “مسرور” رؤية الكاتب لواقع الإنسان المعاصر ونمط عيسه، وتستشرف نهايته المقبلة لا محالة بفعل استمرار التقنية في الإطباق عليه يوما بعد يوم دون أن ينتبه إلى الخطر المحذق به، هذا الخطاب التحذيري توزع في النص بالتدريج على لسان الشخصية الرئيسية وصولا إلى تحققه بوصفه نهاية تراجيدية لذلك البطل.

 

4/ ختاما

تبرز قراءة النصين المسرحيين اللذين وحّدهما الموضوع، وفرّقتهما صيغة الطرح، هيمنة الخطاب التحذيري من مآلات الاستسلام للتطورات التكنولوجية على مقصدية كتابتهما، ذلك الخطاب الذي برز في تفاصيل الحبكة الدرامية، وفي أساليب توظيف مكونات العمل المسرحي، وفي  فضاء النص الذي غدا كونا حيا بمجرد تفعيل آليات قراءته، فخلق النص بذلك التشكيل كله عالما متخيلا تفاعلت في سياقه شخصيات غرائبية في فضاء واقعي، وتنامت أحداثه بهدف دفع المتلقي إلى الانحياز إلى موقف شخصية “مسرور”، بوصفها -حسب قراءتنا- المكون الذي يحمل أكبر قدرة على التبليغ والإقناع بقوة طرح الكاتب ورؤيته المحذرة من مآلات الانسياق وراء التحديثات التي تفرضها علينا الثورة الرقمية دون تفكير.

 

الهوامش

[1]– غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، سنة 1984، ص 36.

[2] ضمن تقديم الدكتور خالد أمين لمؤلف “في حضرة الشيخ القوقل”، ص 6.

[3] ضمن تقديم الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم لمؤلف “في حضرة الشيخ القوقل”، ص 15.

[4] نفسه، ص 8.

[5] نفسه، ص 15.

[6]نفسه ص 15.

[7] آن أوبرسفيلد، قراءة المسرح، عن وزارة الثقافة، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ص 151.

[8] نفسه، ص 153.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت