في منزل تولستوي / د.فاضل الجاف

صدر مؤخرًا كتاب ” في منزل تولستوي” باللغة السويدية يغوص في حياة الأديب الروسي الشهير ليف نيكولايفيتش تولستوي (1828-1910). وقد ألف هذا الكتاب الباحث الفنلندي، الدكتور بن هيلمان، الذي يعمل بجامعة هلسنكي ويتخصص في الأدب الروسي.

تتناول صفحات الكتاب العديدة من تفاصيل حياة تولستوي، مع التركيز على علاقته مع الضيوف الذين زاروه، ليس فقط من روسيا، ولكن من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك كتاب وفنانين ومفكرين وسياسيين.

استقر تولستوي مع عائلته في قصر واسع وسط طبيعة خلابة يطلق عليه “ياسنايا بولكي” باللغة الروسية. وكان هذا القصر مكان استقبال ضيوفه، عدا فصل الشتاء حيث كان يتوجه مع عائلته إلى موسكو لأغراض التعليم.

أوضح الدكتور هيلمان أن تولستوي كان يرحب بجميع الزائرين، سواء كانوا أصدقاء قدامى أو زوارًا جددًا جاءوا للقائه للمرة الأولى، أو حتى من يرغبون في مناقشة أفكار عالمية. ونظرًا لبُعد منزل تولستوي عن موسكو، كان كثير من الزائرين يقضون الليل هناك. ويستهدف الكتاب خصوصا الزوار من دول الشمال مثل السويد وفنلندا.

لا يتوفر وصف.

تشير أجزاء من الكتاب إلى الأخلاق العالية وكرم الضيافة التي تميز بها تولستوي. يسبر المؤلف أغوار شخصية تولستوي وتقديره للفن والأدب وحبه للحوار والاستماع لوجهات النظر المختلفة، حتى وإن كانت تأتي من ثقافات مغايرة، مما يبرز تفرد هذا الكتاب وعمقه؟.

تولستوي في فترة نضوجه كان ذا شخصية مختلفة عما كان عليه في شبابه، حيث غمر نفسه في شبابه بمتع الحياة مثل المأكولات، الشراب، الجنس والقمار. ولكن، بعد أن غمرته أضواء الأدب والمسرح وتعمق في عالم الاختراع، نمت روحانيته وازداد إيمانه بالتعاليم المسيحية، وبالرغم من ذلك، ظل حتى نهاية حياته يعارض الكنيسة وهيمنتها. في أوائل حياته، قرر تولستوي الابتعاد عن تناول اللحوم وشرب الكحول.

ورغم أن تولستوي كان من نسل أرستقراطي ثري وأبوه كان الطبيب الخاص للقيصر، وورث ثروة عائلية تشمل قصر ياسنايا بولكي، إلا أنه كان يتميز بكرمه وتبرعاته للفقراء. وقبل قرار إلغاء نظام العبودية، قام تولستوي بتحرير جميع عبيده.

كان الامتناع الذي اتبعه تولستوي عن تناول الطعام والشراب، خصوصًا اللحوم والكحول، له فوائد صحية، حيث عاش لفترة طويلة، ونجا من العديد من الكوارث التي شهدها القرن التاسع عشر. عاش تولستوي أحداث الحروب الكبرى وكتب عنها في رواياته، مثل “الحرب والسلام”

وفي القرن التاسع عشر، شهد تولستوي حروبًا مثل حرب القرم، حيث اجتمعت قوات من دول مختلفة ضد روسيا بهدف التقليل من نفوذها.

الحرب الفرنسية ضد روسيا وغزو نابليون لها أثرت بشكل عميق في نفس تولستوي، دفعته لكتابة أبرز أعماله “الحرب والسلام”. رغم أن تولستوي عاش طويلا ليشهد مجريات عديدة من الحروب خلال قرن، إلا أن تلك المواجهات الحربية للقرن التاسع عشر كانت بمثابة مجرد مباريات بالمقارنة مع الحروب المعقدة للقرن العشرين. بالنسبة له، شكلت هذه الأحداث نقطة فارقة في حياته.

كان استقبال تولستوي للضيوف يتبع طقساً محددًا، حيث يأتون عبر القطار من موسكو إلى تولا، ومن هناك، حسب الفصل، يصلون إلى منزله بواسطة عربات ثلجية أو عربات تجرها الخيول. وكان استقبالهم دائماً حافلاً بالترحيب والدفء، مع الأخذ في الاعتبار أن المكان كان بعيداً عن محطة القطار، مما يضطر الضيوف للبقاء ليلاً.

مع بداية كل زيارة، كان يسأل ضيوفه بأي لغة يفضلون الحديث. سواء كانت الروسية، الإنجليزية، الفرنسية أو الألمانية. وكان يلتزم بقاعدة التواصل باللغة المشتركة بين جميع الحضور. إلى جانب اللغة الروسية، كان يتقن الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وهو ما يظهر جليًا من خلال رسائله المتقنة لغاندي.

غاندي له مكانة خاصة في حياة تولستوي، فبينما كان الأول ينظر لروسو على أنه مرجعه، كان يعتبر تولستوي هو المرجع الأعظم. وقد تُلقّبا بضمير الغرب والشرق على التوالي.

وحسب الكاتب هيلمان، فقد كان تولستوي قد قرأ وكتب بتسع لغات مختلفة، ورغم إتقانه للغات الأوروبية، فقد قضى بعض الوقت في تعلم العربية والتركية. وخلال آخر فترات حياته، استضاف العديد من الكتاب.

لم يقتصر عطاء تولستوي على مجال الأدب والفلسفة، بل تجاوز ذلك ليظهر حسه الإنساني. أسس مدرسة لأطفال المنطقة، وخصوصاً أطفال العبيد، وصمم لهم كتابًا تعليميًا خاصًا. كما كان يقدم الدعم والمساعدة للكتاب والفنانين المحتاجين لتحقيق مشاريعهم.

رغم عيشه في ركن نائي من العالم، كان تولستوي يتابع أحوال العالم بكل اهتمام. شهد عصره الاضطرابات السياسية التي مرت بها روسيا والعالم، وكان له نظرته الخاصة حول معظم القضايا، من الحروب والثورات إلى الاحتجاجات والمظاهرات.

في الأوقات التي مرت بروسيا بفترات المجاعة، لم يدخر تولستوي وعائلته جهدًا لمساعدة الفقراء. حتى زوجته، كانت تكتب الرسائل وتنشرها بحثًا عن الدعم للمحتاجين الذين كانوا يعانون من شدة الجوع.

وفي منزل تولستوي بذلك الركن الهادئ من العالم، كان يجتمع مفكرون من جميع أنحاء الأرض. وقد خلد العديد منهم ذكرياتهم وملاحظاتهم حول زياراتهم لمنزل تولستوي في كتاباتهم ومذكراتهم.

وفقًا للكاتب هيلمان، تمكن تولستوي من قراءة وكتابة بتسع لغات متنوعة. وبالرغم من إتقانه للعديد من اللغات الأوروبية، فقد بذل جهدًا لتعلم اللغة العربية والتركية. في مراحل حياته الأخيرة، استضاف تولستوي العديد من الأدباء في منزله.

لم تقتصر مساهمات تولستوي على مجال الأدب والفلسفة فقط، فقد أبرز أيضًا جانبه الإنساني. أنشأ مدرسة لأطفال المنطقة، وتركيزًا على أطفال العبيد، وأعد لهم مواد تعليمية خاصة بهم. بالإضافة إلى ذلك، كان يقدم الدعم للأدباء والفنانين المحتاجين لتحقيق مشروعاتهم.

على الرغم من موقعه النائي، كان تولستوي دائم الاطلاع على أحداث العالم. عايش الأحداث السياسية المضطربة في عصره، وله رؤية فريدة حول الكثير من القضايا، منها الحروب، الثورات والاحتجاجات.

خلال الأوقات التي شهدت فيها روسيا مجاعات، بذل تولستوي وعائلته كل جهدهم لدعم ومساعدة الفقراء، حيث ساهمت زوجته بكتابة رسائل تبحث عن الدعم للمتضررين من المجاعة.

ومن منزله المتواضع، استقبل تولستوي مفكرين من مختلف أنحاء العالم، حيث خلدها الكثيرون في كتاباتهم وذكرياتهم حول زياراتهم للعبقري تولستوي.

اعتبر بيت تولستوي بمثابة منارة للفكر الإنساني، حيث كان يستقطب العقول المفكرة والباحثة عن الحقيقة والعدالة. ومن خلال هؤلاء الضيوف، استطاع تولستوي أن ينقل تجربته وأفكاره إلى أقاصي نقاط العالم.

في كل مرة، كانت النقاشات تدور حول مواضيع مختلفة، مثل السلام والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، ولكن موضوع الحرب كان دائمًا في صميم النقاشات، خاصة بالنسبة لتولستوي الذي شهد على تأثيرات الحروب وخاصة حرب نابليون ضد روسيا.

لا يتوفر وصف.

ليف تولستوي

 

لقد اعتبر تولستوي الحرب واحدة من أكبر الكوارث التي يمكن أن تصيب الإنسانية. وقد انعكس هذا التفكير في روايته “الحرب والسلام”، والتي تعتبر واحدة من أفضل الروايات في التاريخ الأدبي. من خلالها استعرض تولستوي تأثير الحرب على النفس البشرية والمجتمع ككل.

ومع مرور الوقت، تطور فكر تولستوي ليشمل مواضيع أخرى مثل الدين والأخلاق والفلسفة. وكان يرى أن الحقيقة الحقيقية تأتي من خلال البحث الذاتي والتأمل.

بالإضافة إلى ذلك، كان تولستوي يعتبر أن العمل الإنساني هو واحد من أفضل الطرق لخدمة الإنسانية. ومن هنا جاءت فكرته في إنشاء مدرسة لأطفال الفقراء، حيث كان يعتقد أن التعليم هو المفتاح لتحقيق مستقبل أفضل.

في الختام، يمكن القول أن تولستوي لم يكن مجرد كاتبًا أو فيلسوفًا، بل كان رمزًا للأمل والتغيير. وكانت حياته مصدر إلهام للكثيرين، وما زالت أفكاره وكتاباته تؤثر في الناس حتى اليوم.

 

في منزل تولستوي

دار النشر: ابيل فورلاغ

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت