المسرح والذكاء الاصطناعي/ د. مدحت الكاشف
إن الصورة المسرحية بشكل عام هي تلك الصورة المشهدية/البصرية،التي يتخيلها المتلقي ذهناﹰ وشعوراﹰ وحركة، حيث تتكون الصورة المسرحية في الغالب من مجموعة من الوحدات البصرية التخيلية المجسدة، أوغير المجسدة على خشبة المسرح، وهي ليست مجرد شكل مرئي يدركه المتلقي بحواسه فقط، وإنما هي بمثابة الإطار الذي ينظم العلاقات البصرية واللفظية، الساكنة منها والمتحركة، الجماد منها والحي، وهي أيضاﹰ ﹸتعد تجسيداﹰ تعبيرياﹰ أو رمزياﹰ مصغراﹰ للواقع وللحياة عموماﹰ، وعليه فإن العرض المسرحي يتضمن صوراﹰ متعددة تتحد في علاقة واحدة بسياق فكري وفني عام محدد،ويشكل الممثل وجسده محوراﹰ أساسياﹰ تلتقي عنده دلالات جميع الصور في العرض المسرحي، وهذه الصور المتعددة تأتي من خلال أشكال مختلفة وهي: (الصور اللغوية اللفظية، والصور الحركية، وبالطبع الصور التشكيلية، وهذا النوع وثيق الصلة مع موضوع هذا المقال، والصور التشكيلية هي تلك الصور التي ترتكز على تأثيث الفضاء أيقونياﹰ ودلالياﹰ، وتحويله إلى إبداع تشكيلي، وهو كل ما هو مرئي على المسرح، وجسدي ويشمل كل الأجساد المتحركة على المسرح،وصوتي ويتمثل في كل الصوتيات اللفظية وغير اللفظية في المسرح،ولوني يتمثل في ألوان الاضاءة ، الأزياء، والماكياج، وضوئي يتمثل في استخدامات الضوء والظل، وأخيرا إيقاعي وهو ما يشغل حيزاﹰ في الزمن كالموسيقى، والرقص، والحركة.
وبشكل عام تتميز هذه الصور التشكيلية المتعددة في العرض المسرحي بالتحول الوظيفي الديناميكي والانتقال من حالة إلى أخرى، أثناء العرض، حيث تتأرجح الصورة التشكيلية بين الوحدة اللونية والوحدة الشكلية للخطوط والكتل والمساحات المكونة لها، ومن جانب آخر فإن الصور التشكيلية غالباﹰ ما تنهض على الأبعاد الرمزية للخطوط والأشكال والألوان، والتي تتضافر مع حركة الممثل في دلالات مشتركة، سواء بالتماثل أو بالتباعد والتضاد، وفضلاﹰ عن ذلك فإن الصورة التشكيلية في العرض المسرحي لاتكتمل، ولا يمكن إدراكها إلا بفعل عنصري الإضاءة واللون اللذان يقومان بدور مهم ودال في التأكيد على الحالات الانفعالية والنفسية والمشاعر، وجعلها دالة دلالة مقصودة، فاللون سواء في المناظر أو الأزياء أو الإضاءة هو المتحكم في المزاج اللحظي الذي ينتاب الشخوص على خشبة المسرح في مواقف درامية معينة، والألوان في الصور التشكيلية قد تكون بسيطة أو مركبة، ودلالالتها قد تكون حرفية تقريرية مباشرة أو إيحائية وتضمينية مجازية وفق السياق الدلالي العام، فالضوء هو شكل ما من أشكال الطاقة المشعة، التيتكشف السطوح ثلاثية الأبعاد، ومع تغير الضوء تبدو الأشياء-التي تضاء من خلاله- وكأنها تتغير،وتتبوأ الإضاءة كأحد عناصر التشكيل في العرض المسرحي أحد أهم العناصر الدالة والفاعلة في تأكيد الصورة العامة للعرض المسرحي، لما تحمله الإضاءة من أهمية في عمليات الدلالة والإشارة والرمز،فهي التى تجذب انتباه عين المتفرج على الصورة التي يبغي صناع العرض بثها أمامه، وهي أيضاﹰ العنصر الذي نال حظاﹰ وفيراﹰ من التطور، بتطور التكنولوجيا، حيث وصلت في المسرح الحديث إلى درجات قصوى من التطور والتقنية، وذلك بتقدم التكنولوجيا، واستخداماتها في الإضاءة المسرحية، وأشعة الليزر التي يمكن أن تغمر جسد الممثل دون أن يكون لها امتدادات أو انعكاسات خارج حدود الجسد المضاء.
ومن خلال ما سبق يمكن القول إن تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل عام والرقمية بوجه خاص قد فتحت أمام للفن المسرحي آفاقاﹰ أرحب وإمكانيات متعددة،حيث دفعت الفن المسرحي إلى مناحي أخرى للتجريب فى لغاته التعبيرية المتعددة والمتداخلة، والتي تغير معها مفهوم المسرح نفسه، بل وأيضاﹰ مفهوم المسرحة، كما ألقت بظلالها على عناصر المسرح السمعية والبصرية، حتى وجد المسرح نفسه محصوراﹰ بين قضايا تؤرقه حول الفن والفن المصنوع Artefact، ومن ،فإن توظيف التقنيات داخل العرض المسرحي كانت له تداعياته، وانعكاساته فى ميلاد عروض مسرحية (مهجنة) تمزج بين سمات المسرح التلقائية مع عناصر أخرى مصنوعة، إن هذه الأشكال المسرحية (المهجنة) نراها وقد تجلت من خلال سياقات إبداعية أكثر تعقداﹰ عن ذى قبل، حيث تتولد علاقة تأثير وتفاعل متبادلة بين المسرح وبين التقنيات الحديثة، بما يطرح العديد من التساؤلات الفكرية والاجتماعية والإنسانية من جانب، كما يجذب انتباهنا من جانب آخر إلى قضايا جديدة تتعلق بحقوق الملكية الفكرية وحقوق الأداء العلني، إذ تتولد عنها قضايا ليس من اليسير حسمها، وستحتاج لمزيد من الدراسات العلمية المتأنية .
أما بالنسبة للقضايا الإنسانية ذات العلاقة بإشكالية بحثنا فإنها تتبلور فى عملية جدلية، متبادلة بين المسرح والتقنيات الدخيلة عليه، فكما أن المسرح يطرح أسئلة على التقنيات كيف يوظفها، كيف يفيد منها، ما مدى تأثيرها، أو قدرتها على تحقيق التأثير المطلوب، وما إلى ذلك، فإن التقنيات تطرح بدورها الأسئلة على المسرح، بل وعلى إنسانية الإنسان نفسه، فنحن إزاءإنسان حى (جسد حى وروح) يهاجم من قبل الاستخدام الرقمي الذي يتيح مجالات واسعة للإتصال والتواجد أو الحضور عن بعد، ذي طبيعة تتجاوز النطاق الجسدي، والتقنية تستطيع إلغائه أو إبداله أو استنساخه اعتمادا على تقنيات رقمية ذات ذاكرة محسوبة ومبرمجة ومراقبة ومحسنة، عندئذٍ يجد الجسد الحي (الممثل) على خشبة المسرح نفسه تحت وطأة التقنية الدخيلة عليه، التي توفر المثال لكل نقش فني بإتاحة رؤية الجسد في لحظة انفصاله،وفي لحظة انهياره، وأيضاﹰ في لحظات تجلياته وتداعياته اللانهائية في التعبير.
ودون الخوض في سرد تاريخ تطور الصور التي تمتع بها الجسد الإنساني في الأداء المسرحي منذ بداياته وحتى اليوم، نجد أنه حري بنا أن نركز في هذا المقام على صورة الجسد [جسد الممثل/المؤدي] بعد أن اقتحمته الإبداعات الرقمية، محاولة اخفائه، وطمسه أو استنساخه، أو على أقل تقدير تحوله إلى صيغة خاصة بها، ومع ذلك فإن هذا الجسد البديل أو المستنسخ، لم يغير من طبيعة المسرح الذي يحاول بطبيعته أن ينشط كل ما هو إنساني، ومهما تعقدت تلك التقنيات فلم تستطع أن تحل محل الفن المسرحي كفن حي، ومن جانبٍ آخر، وفى ذات الوقت لم يستطع المسرح الاستغناء عن توظيف كل المستجدات التكنولوجية، لاسيما أن مستجدات التكنولوجيا بثورتها التي لاتنتهي قد ولدت خطوطا واضحة من الصراعات،رهاناﹰ على تحولات جذرية في بنية المسرح، انطلاقا من أنه ليس نسقاﹰ مغلقاﹰ،أو ثابتاﹰ من الادراكات، ولأنه أحد القوى الفاعلة في المجتمع التي طالتها هذه المستجدات، فلابد أن يتحرر من أية قبضات مسبقة، وعليه أن ينجز خطوات تحولاته، متخلياﹰ عن عزلته التي تحجب عنه الاستفادة من تلك المستجدات.
فمنذ “عصر التقنيات الرقمية أصبح المسرح معملاﹰ حقيقياﹰ لما هو إنساني ليس عليه إلغاء الحدود بين فنون الإنسان فحسب، بل عليه أن يغير من مكانها، حتى تولد لدى المشاهد من خلال غرابة الصورة المتخيلة، الرغبة في البحث عن شيئ آخر، الأمر الذي فتح آفاقاﹰ جديدة في مجال الممارسة المسرحية من جانب، وفي مجال الدراسات المسرحية التحليلية لتلك الممارسات من جانب آخر، كما فتح المجال لآفاقٍ فلسفية وكونية أرحب، أصبحت تعيد التأمل في مستقبل الإنسان، وفي معنى الحياة، من خلال البحث عن العلاقة الجديدة بين الجمهور والمسرح في ظل توظيف الأخير للإبداعات الرقمية، كطرح جديد لثقافة متجددة، من خلال خلق سبل جديدة ومغايرة للتفاعل المتبادل الذي لن يستغني عنه المسرح بينه وبين جمهوره.
وهنا لابد من التأكيد على أن توظيف الإبداع الرقمي في العرض المسرحي هو جزء من سعى المسرح نحو ابتكار وسائل جديدة للتعبير، عندئذٍ فإن جهاز الحاسب الآلي المستخدم في العرض المسرحي لا يكون مجرد أداة أو ماكينة لصنع الصور التي يستخدمها المسرح فحسب، ولكنه أداة للتحليل والتصور المسرحي،لأنه يتيح عملية تشكيل نماذج لاستراتيجية الشخصيات الدرامية،حيث يساعد على تقديمها إلى المتفرجين في الصورة التي تخيلها مؤلف النص ومن بعده كل من المخرج والممثل ودورهما في جعل ماهو غير مرئي مرئياﹰ أمام المتفرجين، الذين يتسنى لهم رؤية كل ما هو غير مرئي مثل المشاعر والانفعالات وتجليات الشخصيات الدرامية المختلفة، وعليه ذلكفإن ما أضافته التقنيات الحديثة فيما يتعلق بالزمن الفعلي للصورة والصوت إنما يعود إلى الرغبة في الانفصال عن الأشكال التقليدية للمسرح، مما يؤدي إلى تناول جديد للعلاقة بين الممثلين/ الجمهور، في مشهد مصنع يبرز الجانب المرئي في العرض أو يجعله أكثر اتساعاﹰ بتحريره من قيود المكان، ويعني ذلك أن توظيف التقنيات الرقمية في العرض المسرحي قد امتد أثره إلى عمليات التلقي نفسها، حيث وجد المتلقي نفسه أمام عرض مسرحي غير مألوف، تتحقق فيه عناصر الادهاش بشكل يدخل فى إطار الإبهار،والرؤى الجديدة للفن وللحياة.
فالتقنيات الرقمية المستخدمة في الفضاءات المسرحية المعاصرة، والتي تعتمد ضمنياﹰ على سمات إعلامية ترويجية لترسيخ الأفكار السائدة فى المجتمع الكوني، مجتمع مابعد العولمة، حيث تتحول عناصر العرض الأصيلة من أجساد حية متحركة وألوان، ونغمات، وأصوات، وما إلى ذلك إلى نظام رقمي يتم تخزينه ومعالجته بالإبداع الرقمي، واعادة عرضه كصورة متداخلة منفصلة ومتصلة، وعليه فكما كان للإبداع الرقمي أثره في الصناعات والسلع التجارية، بات أيضاﹰ يؤثر في ثقافة المجتمع، فالتدوين الرقمي نجح فى فصل المعطيات عن أرضها الملموسة، إلى واقع آخر)، كما انتزع من المكان والزمان الواقعيين التجربة الإبداعية الإنسانية الحية في المسرح، وقامت بتخزينها على شكل معلومات data ، باتت متاحة بمعزل عن سياقاتها المكانية والزمانية الأصلية، حيث أنه بفضل الترقيم فإن أية معطيات يمكن جمعها فى أي مكان وأي لحظة، والحصول على معطيات مرقمة وافتراضية للمتخيل والمقلد،،وهي القضية التي يجب أن تلتفت إليها قوانين الملكية الفكرية وحماية حق المؤلف.