هيمنة الصورة التليفزيونية / د.مدحت الكاشف
تلعب الصورة التليفزيونية فى عصرنا الحالى بشكل عام دوراﹰ مهماﹰ فى تشكيل ثقافة المشاهد ومزاجه ووعيه بما تتسم به من خصائص استطاعت أن تغير بشكل حاد فى وسائل الاتصال والتواصل بين البشر، الأمر الذى ﹸيثير مجموعة من التساؤلات حول تأثيرها فى الأفراد والمجتمعات والسلوكيات، وفى النظر إلى الأشياء، بل إنها ربما تخلخل فى هويتهم ورؤاهم للكون.
وكأحد مظاهر العولمة والحداثة وما بعد الحداثة وذلك الانتشار المرعب لوسائل التواصل الاجتماعي باتت الصورة عنصراﹰ خطيراﹰ لما تتمتع به من تخطى كافة الحواجز اللغوية بين كافة الأمم والشعوب، وبالتبعية فهى التى تؤثر فى الصياغات والأنماط الثقافية والسياسية والإجتماعية، وليس ذلك فحسب، بل إنها أصبحت وسيلة مؤثرة فى إنتاج المعرفة كبديل أكثر هيمنة من اللغة فى عملية إنتاج التجربة الإنسانية ونقلها، فالصورة فى الأصل أحد الأنشطة الرئيسية للعقل البشرى، حيث إنها تعتبر ركن أساسى فى بنيان ذلك العقل، كما أنها أحد خصائصه، ووسائل إدراكه وإتصاله بالعالم، وهو ما تنبأ به الفيلسوف الإغريقى “أرسطو” عندما قال: إن التفكير مستحيل من غير صور، وهوما أكده أيضاﹰ الفيلسوف المعاصر”جيليه دولوز” الذي قال “إن الصور تغير واقعنا وتؤثر على إدراكنا الذاتي، وإدراكنا البصري للبيئة المحيطة بنا، وتجعلنا-أردنا ذلك أم لم نرد-محكومين بإنطباعاتنا البصرية، وهكذا أصبح العالم المعاصر يفضل الصورة على الحقيقة والنسخة على الأصل، والوهم على الواقع .
إن الإبداع الإنسانى على مرّ العصور والمتمثل فى فنونه وآدابه قد أفرز العديد من أشكال الصور البلاغية التى ﹸيناط بها التعبير عن الواقع عن طريقة إعادة إنتاجه عبر العملية الإبداعية، بشكل يزيد وعى المتلقى بالعالم وقوانينه، بينما الصورة التليفزيونية على اختلاف أشكالها فهى تقوم بنسخ الواقع كما هو ولكن من وجهة نظر من يروجون لتلك الصور،الأمر الذى كان له عظيم الأثر فى البنية العقلية والوجدانية،الفلسفية والفنية والإبداعية.
إن خطاب الصورة التليفزيونية بدوره يترك انطباعاﹰ وتأثيراﹰ فى كل شي حتى المشاعر والأحاسيس، بل وإعادة صياغتها وتشكيلها من جديد، ففى عصر الصورة التليفزيونية وجد الإنسان نفسه مضطراﹰ إلى التفكير عن طريق استخدام الصور الحسية التى يراها أسهل من إستخدام امكانياته الذهنية التى كان يرهقها من قبل فى قراءة المعانى والدلالات،الأمر الذى بات يشكل خطراﹰ داهماﹰ على التفكير العقلى للجنس البشرى، حيث استطاع التلقى المعرفى بالصورة أن يحل محل التأمل والخيال التصورى،ولم يعد من الممكن نقل الأحاسيس والمشاعر الإنسانية على حقيقتها كما كان الأمر من قبل، وخلاصة القول إن أحد أهم سمات عصرنا هو انصهارنا داخل إطار ما يعرف بثقافة الصورة، أو بمعنى آخر باتت الصورة هى العنصر المهيمن فى علاقاتنا ومعارفنا وثقافتنا وخبراتنا،أوحتى على إبداعاتنا، وبشكل عام ﹸتعد الصورة في الفنون الأدائية هي التجسيد المرئي لنص أو لفكرة العمل الدرامي (مسرحياً كان أو تليفزيونياً)،حيث تتكشف الدلالات والمعاني عبر هذه الصور، ومن ثم، فهي التي تقود المشاهد للقيام بفعل التلقي، ذلك الفعل المعني بجماليات التأثير الناتج عن إنعكاس العمليات العقلية والفكرية لتلك الصور على المتلقي، ولذا فإن الصورة في أي عمل درامي تعتمد على عناصر ثلاثة هي [ اللغة – الفكر–الخيال ]، الأمر الذي يفرض على المتلقي نوعين من القراءة، كما يقول الناقد الفرنسي المعاصر”باتريس بافيس”،أولاهما القراءة الأفقية، وتتمثل في التلقي المطيع للنص والسرد والأحداث والأفكار، [وبالتالى للصور الدالة عليها]، وثانيهما القراءة الرأسية: وتتمثل في تلقي مستخلص من الأحداث، وهو ما نستنتج معه مبدئياً أن الصورة في كافة الفنون الأدائية ارتبطت بعملية الإدراك، والذي هو – وفقا للدكتور شاكر عبد الحميد-عبارة عن عملية معرفية تُفسّر من خلالها المثيرات الحسية التي ترد إلي المخ عبر الحواس الخمس … وإنه من خلال الإدراك تحدث الرؤيا للأشكال، ومن ثم، فالإدراك يختزل المعلومات، ويكتشف الموضوعات والأشخاص،ويترجم شفرات الدلالات،ويتعرف على العلاقات الزمنية والمكانية،عندئذٍ يمكن القول إن عملية الإدراك هي المسئولة عن وضع حدود التفكير وتنظيم الدلالات والمعاني لدى المتلقي، وهو الأمر الذي يدفعنا إلي البحث لمحاولة التعرف على ما يدركه المتلقي من العمل الفني، وبالتالي حول طبيعة هذه العملية المسماة بالإدراك، هل هي عقلية أم انفعالية أم سيكولوجية؟، لاسيما وأن كل الفنون الأدائية على إختلافها وإختلاف وسائلها وتوجهاتها، تقوم بالتمييز بين قصدية الإتصال وبين التعبير عن شيء محدد، بما تحتويه هذه الصور على عددٍ لا يحصى من العلامات التعبيرية، التي تسعى إلى إكساب المتلقي قيماً دلالية – متوقعة أو غير متوقعة – وذلك بغرض توليد أثر حسي فيه.
إن الصورة في المسرح تتمتع بصيغ فنية مصطنعة تؤكد أنها ليست الحقيقة وإنما هي تعبير فني عن الحقيقة، فإنها في النهاية تسعى إلي خلق ﹸبعد جمالي وآخر فكري لخدمة الرسالة التي يتوجه بها العرض المسرحي إلي جمهوره، أما الصورة في الوسائط الأخرى – كالتليفزيون مثلاً – تتجاوز ذلك عندما تتخذ لنفسها صوراً مغايرة ذات علاقة بالقيم الاجتماعية أو السياسية أو الأيديولوجية، لما تحمله من طبيعة إعلامية ترويجية، وبناءﹰ على ذلك فإن الصورة التليفزيونية تطرح نفسها في معظم الأحيان وكأنها الحقيقة ذات الوجه الواحد،ومن ثم، فإن تأثيرها على متلقيها يمكن أن ﹸيوصف بالحاد أو العنيف أحياناً، مما يمكن معه القول إن دخول التليفزيون-بتفوقه التكنولوجي في مجال الصورة – في منافسة مع الفن المسرحي يجعل عملية (التلقي) تتجاوز فكرة الإدراك الحسي إلى مستويات أخرى(فلسفية – دلالية – نفسية – أيديولوجية – إجتماعية – أنثروبولوجية – تقنية) ، وربما كان العامل الذي تشترك فيه الصور – بكافة فنون الأداء – هو عنصر الإيهام، إلا أن كل وسيط إتصالي يتميز فيه الإيهام عن وسيطٍ آخر، فإذا كانت المواجهة الحية المباشرة هي التي تميز الصورة المسرحية،فإن الشاشة -ذلك الحاجز المادي– هو الذي تتسم به الصورة التليفزيونية التي يتوقف تأثيرها على مدى إندماج المتلقي معها، وعندما يسعى كل من المسرح والتليفزيون إلى محاولة خلق صورة تبدو كما لو أنها إمتداد للواقع أو جزء منه، فإن ذلك يكون بدرجة أكبر في التليفزيون عن المسرح، حيث تكون الصورة في العرض المسرحي تصويراﹰ فنياﹰ مصطنعاً لهذا الواقع، بينما التليفزيون يحاول دوماً التظاهر بأنه ينقل الواقع كما هو في الوقت الذي يحاول فيه إخفاء الصنعة، مع العلم بأن التليفزيون – أغلب الأوقات – ينقل صوراﹰ منتمية لأزمنة وأمكنة مختلفة، إلى المتلقي في الحاضر الآني الذي يعيشه، وبهذا تجاوزت الصورة التليفزيونية ما سعت إليه الصورة المسرحية في المحافظة على المساحة بين الواقع والفن، وأنه لابد من صياغة الواقع بطريقة إبداعية، وذلك عندما فرضت الصورة التليفزيونية على المتلقين أبعاداً أخرى لقراءة الصور بوصفها حقائق مسلم بها، ومع مرور الوقت حدثت بعض التطورات لقدرات الصورة في التأثير على المتلقي، وتنوعت أساليب توظيفها في الميديا كوسائل للترفيه والترويج، ولم تعد خاضعة لمعايير الإبداع بقدر خضوعها لمعايير الإنتاج والسوق.
ففى عصر الصورة التليفزيونية إذن وجد الإنسان نفسه مضطراﹰ إلى التفكير عن طريق إستخدام الصور الحسية التى يراها أيسر في إستخدام إمكانياته الذهنية التى كان يرهقها من قبل فى قراءة المعانى والدلالات،الأمر الذى بات يشكل خطراﹰ داهماﹰ على التفكير العقلى للجنس البشرى،حيث إستطاع التلقى المعرفى بالصورة أن يحل محل التأمل والخيال التصورى،ولم يعد من الممكن نقل العلاقات الاجتماعية،وأيضاﹰ الأحاسيس والمشاعر الإنسانية على حقيقتها كما كان الأمر من قبل، بل بات يمكن اختزالها في مجموعة من الرموز التي أفرزها المجتمع بعاداته وتقاليده وأعرافه بل وعقائده، وهو الأمر الذي جعل أحد أهم سمات عصرنا هو إنصهارنا داخل إطار ما يعرف بثقافة الصورة،أو بمعنى آخر باتت الصورة هى العنصر المهيمن فى علاقاتنا ومعارفنا وثقافتنا وخبراتنا،وحتى على إبداعاتنا .
إن التغيرات المتواترة في المجتمع، والتي جاءت نتيجة لثورة الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات،قلبت العلاقات الثقافية السائدة في الحضارة الإنسانية المعاصرة لأنها أعلت من ثقافة الصورة على حساب ثقافة الكلمة،الأمر الذي يجعل إعادة النظر في بعض المفاهيم ضرورة لطغيان الصورة في العصر الحديث، وإذا كان في الماضي يتم تصنيف الحضارة الإنسانية تأسيساﹰ على نظاميين أو نموذجيين معرفيين هما الشفاهية والكتابية، فإننا نجد أن عصرنا الحديث قد أتى بنموذج ثالث إستطاع أن يتسمى باسمه وهو “عصر الصورة” حيث بات البشر يعيشون تحت وطأة مجموعة من الصور، فيمكن لصورة أن تغير وجهة نظر مجتمع في ثقافة ما نحو قضية معينة عند إستغلالها بطريقة أو بأخرى.
و”تمتد كلمة صورة image بجذورها إلى الكلمة اليونانية القديمة أيقونة icon والتي تشير إلى التشابة والمحاكاة والتي ترجمت إلى imago في اللاتينية، image في الإنجليزية، وقد لعبت هذه الكلمة ودلالاتها دوراً مهماً في فلسفة أفلاطون،وكذلك في تأسيس كثير من أنظمة التمثيل أو التمثل reperesentation للأفكار والنشاطات في الغرب، الأمر الذي دفع العديد من المفكرين والمنظرين المعاصرين، ومنهم “رولان بارت” إلى القول بأننا نعيش حضارة الصورة، و”جي ديبور” الذي أكد في كتابه “مجتمع الفرجة” بأننا نعيش في مجتمع المشهد،حيث ترتبط القيمة والجودة بالرؤية ومظهر الشئ، ومن هنا يمكن القول إن الصورة هي بمثابة صناعة ثقافية تسهر عليها المؤسسات والأفراد والكيانات العلمية والاجتماعية،وحتى النظم السياسية، ولنا مثال على ذلك في أفكار “إدوارد سعيد” التي تبلورت في كتابه “الاستشراق” حينما تناول بالتحليل رسم الثقافة الغربية ومؤسساتها العلمية صورة متخيلة عن الشرق لا تمت للواقع بصلة من أجل محاولة استيعابها وإدماجه داخل مركزيتها المعرفية، ومما سبق نجد أن الاهتمام المتزايد للصورة ومحاولة قراءتها، يكشف عن أهمية الصورة في صناعة الثقافة السائدة وصناعتها للمعنى، وأن كل ثقافة تزداد قوتها وحضورها الآن بقدرتها على صناعة الصور وترويجها في وسائط عدة مثل وسائل الإعلام، ومن هنا نجد أن الصورة المعاصرة إرتبطت بمعان ثقافية واقعية أو رمزية، ﹸيناط بها طرح أنماط حياتية جديدة وأسلوب مغاير للثقافة الشفاهية والكتابية، لا تؤطر في سياقات محددة ومقننة بل أنها تدخل فيها العلوم الانسانية مثل الفلسفة والمنطق وعلم النفس وبالطبع علم الاجتماع وعلم دراسة الإنسان”الأنثروبولوجيا”، والصورة بهذا المعنى هى ” تمثيل وتشخيص لشئ أو لكائن ما، وتختلف أدوات الصورة ودلالاتها من وسيط معرفي لآخر، فالصورة لها حضور أساسي في فن الرسم والنحت و التصوير الضوئي أو الفوتوغرافي، وبينما نجد الصورة الفوتوغرافية هي محاكاة أو نسخة عن الواقع، فإننا نجدها في الرسم أو النحت هي محاولة لإعادة صناعة العالم للواقع بصورة إبداعية أو رمزية، وبالطبع لا تشذ الصورة التلفزيونية الدرامية بوصفها نشاطاً إبداعياﹰ رمزياً في إنتاج الواقع بصورة إبداعية لأنها تعتمد على نقل المعاني الثقافية التاريخ والجغرافيا بصورة وجدانية بواسطة سياق مثير للذة والمتعة وفي إطار علاقات إجتماعية متخيلة ذات صلة وثيقة بعالم المتفرج تدمج المتفرج في سياقها نتيجة عوامل الجذب التي يبنى عليها بنائها الدرامي مقابل الإقناع العقلي في بعض الأحيان، ومن هنا تكمن خطورة الصورة الدرامية في تمرير بعض الرسائل الثقافية في سياقها الفني لأنها تنشأ في مناطق مشتركة ما بين الخبرات الموضوعية والخبرات الذاتية لمبدعيها ولمتفرجها، وبالتالي فإن الصور الدرامية التي تنتجها المسلسلات التلفزيونية، تجعل منها لو استخدمنا مفاهيم “بيير بورديو” منظومة رمزية ” باعتبارها أدوات للمعرفة والتواصل،أن تمارس السلطة وتفرض البنيات إلا لكونها تتحدد هي كذلك كبنيات، إن السلطة الرمزية هي سلطة بناء الواقع وهي تسعى لإقامة نظام معرفي، ومن هنا يمكننا القول إن الصورة التلفزيونية في الأساس تنتمي لمنظومة رمزية وأن لغتها هي لغة فنية/رمزية (قد تكون علامات مكتوبة أو علامات بصرية تنتجها الصور) غير بعيدة عن هذه التطورات المختلفة التي تحيط بالمجتمع والخطابات الثقافية التي تسبح فيه، تنتجها أنظمة معرفية مختلفة من دين واجتماع وفلسفة وأيديولوجيا، وتدخل في تشكيلها الفني، مما يجعلها تدخل في كتابة الثقافة المعاصرة ولذا نجد أن اللغة الفنية تخضع لبعض الخطابات التي تحاول إنتاجها منها خطاب الجنس الفني وأدواته الإبداعية والخطاب المعرفي السائد الذي يتحكم في إنتشار وتداول الخطابات ويكسبها شرعية الوجود.