آليات التلقي لعروض مسرح الشارع/ بقلم: حسام الدين مسعد
لطالما راودتني الأسئلة كثيراً، وانا ابحث عن كيفية التلقي النقدي لعروض مسرح الشارع في وطننا العربي، رغم ندرتها، وقلة تراكمها، فهل يتطلب من متلقي العروض الفرجوية حداً أدني من الثقافة العامة والمسرحية؟ وهل تختلف طبيعة الأستقبال حسب علاقة المتفرج بالعرض وبالفضاء الذي يقدم العرض فيه؟ وكيف يلاحق التلقي النقدي عروض مسرح الشارع رغم هذا الخلط المفاهيمي الشائع بين صُناعها ؟
– اعتماداً علي ما جاءت به” آن اوبرسفلد” في دراسة عناصر التلقي،انطلق باحثاً من خلال ثلاث محطات ترتبط بالمتلقي قبل وخلال وبعد العرض المسرحي .
(أ) المتلقي قبل عرض مسرح الشارع:
– هو “ذاك الشخص المار بالفضاء المادي الطارئ مصادفة، و دون معرفة مسبقة له بزمن تحول هذا الفضاء الي فضاء مسرحي”، وبالتالي فإن هذا المتلقي لا يمكنه ان يبني افق توقعه الخاص بعنوان العرض، والجهة المنتجة له واسماء ابطاله، ومؤلفه ومخرجه، وبالتالي لا يمكنه أن يبني تصوراته عن العرض قبل مشاهدته له.
(ب) المتلقي أثناء عرض مسرح الشارع:
(1) نقطة الإنطلاق والجذب:
– هي” اللحظة التي تنفجر فيها فوضوية فعل المؤدي في الفضاء المادي الطارئ، فتتجه انظار المتلقي الي ذاك الفعل الذي يبدو له للوهلة الأولي، انه فعل فوضوي يطرأ علي طبيعة الفضاء المادي الطارئ، والمألوفة لهذا المتلقي، فيثير فضوله لذة إكتشاف الحكاية، او موضوع العرض، ولذة فهم الأحداث التي ستتحقق لديه من عنصر المفاجأة، والصدمة والتأثير الفعال عليه من خلال الباث المؤدي، وإتصاله به.”،ويحدد لهذا الإتصال ثلاثة تأثيرات رئيسية مهمة بالنسبة الي تجانس الإستجابة الإجمالي هي: – (الإثارة، التثبت، التوحد).
(2) التلقي الحسي :
– تخلق بين الباث، والمتلقي علاقة تواصلية مباشرة أثناء سير العرض وهي قائمة علي منظومة علاماتية تستهدف المتلقي سواء كانت علامة سمعية، او بصرية يستجيب لها وفق ما تثيره فيه من ردة فعل او تأثير.
(أ) العلامة المسرحية:
– وللعلامة المسرحية خصائص حددت ب (الوجوب الدلالي ،التضمين، التحول، الترتيب الإفتراضي في الظهور) إذ تخضع عملية إنتاج الدلالة للتحكم (فكل شئ ولو كان إعتباطيا ضمن الخطاب المسرحي فإنه يقرأ بوصفه علامة دالة) فالخطاب في مسرح الشارع، وفي الفضاء المادي الطارئ يرتبط بفعل العلامة المتوالدة من تفاعل الممثل مع ما حوله من أنساق علاماتية، كون كل ما يوجد في هذا الفضاء المادي الطارئ بطبائعه المعمارية، والجغرافية، والإنفلاتية، وبشكل غير مبرر ينبغي أن يتسم بصفة العلامة، وقدرتها علي إنتاج وتوليد افكار قد تكون مغايرة لدي المتلقي لما هو موجود ضمن خطاب العرض، فضلا عن التضمين المتمثل في سيادة دلالية ثانوية علي دلالات أولية، وإمتلاك العلامة القدرة علي التحول الي علامة مغايرة ضمن الخطاب، فالتحول يتبعه تغير علامي في الأنساق الدلالية للخطاب المسرحي،
اما قوة العلامة المسرحية، فإنها تتناسب طرديا مع قدرتها، وتأثيرها في الخطاب، وفي ذهنية المتلقي في تحليله وصولا للمعني الدلالي لتلك العلامة.
– إن مشكلة تحديد مدلول العلامة المسرحية في الفضاء المادي الطارئ يتطلب التعامل معها من خلال وجهات نظر ثلاث هي كالتالي:
(1) -تجريد العلامات الإجتماعية من مدلولها الأكثر شيوعا، وإستدعاء ما يسمي (بتأثير عدم التحقق) لكسر المعني السابق حتي يتم منحها مدلولا آخر. لكن وجهة النظر السابقة ستؤدي الي إيجاد إنقسام في السلسلة الرمزية التي تستعمر عقل المتلقي
(2) عرض المرجع مثلما يتم بناءه إجتماعيا إما لنقده، أو إلغاؤه، وتحوله.
(3) ترك الحرية الكبيرة للمتلقي لمنح معني ومدلول للعمل المسرحي وعلاماته. “ونتفق مع وجهة النظر الأخيرة، والتي هي عملية ينخرط من خلالها الأفراد في قراءة عرض مسرح الشارع مع إمتلاك القدرة علي إدراك المغزي الدقيق للمعاني.
(ب) طبيعة الفضاء المادي الطارئ كفضاء يسمح بالتفاوض، وكافة التفاعلات الثقافية المعقدة التي اتخذت سيناريوهات تتراوح بين الإستيعاب الثقافي، الإستقطاب الثقافي، فعلاقة المؤدين بمن يواجههم ،وبماذا يواجههم من خلال أفعالهم الأدائية تحقق اشكالا جمالية فضلا عن تكوينات إجتماعية جديدة، وهويات إجتماعية جديدة.
(ج)”لحظة تحرر المتلقي”
هي” اللحظة التي يتم فيها كسر القيود التي جبل عليها المتلقي من الوضعية السائدة لمشاهدته السلبية داخل قاعات العرض المسرحي، بأن يشارك صناع العرض في بلوغ الغايات الدلالية منه، إما مشاركة فعلية بالتداخل، او التعليق، او بالحوارات الجانبية، مع نظارائه المشاهدين،اوبالتنقل أثناء العرض لإيجاد أفضل مكان يتيح له حرية المشاهدة، وإما مشاركة ذهنية تتيح له طرح التسأولات، وفك شفرات العرض، وتوقع الأحداث مسبقاً أثناء المشاهدة، وهي ايضا اللحظة التي يتحول فيها المشاهد الي متلقٍ ثم الي متلق مؤدٍ يتجادل ديالكتيكيا لتقديم حججه، وبراهينه حول القضية اليومية المعروضة أمامه، أو هي اللحظة التي يدرك فيها المتلقي أثر العرض الذي شاهده وكيف أثر في معارفه،وسلوكه،
وإتجاهاته محدثاً جدلا بين الأنا /الأنا العليا لهذا المتلقي .
-(ج)-المتلقي بعد عرض مسرح الشارع: – إن مجموع تأويلات الجماهير للعرض، هو “الأثر” السوسيوثقافى الواقعى للعرض، فكيفية تفاعل، وتلقى الجماهير للعروض المسرحية، هو السبيل الوحيد لتجذير المسرح فى التربة الثقافية ومن ثم تطويره، وهذا يستوقفنا لنطرح السؤال علي أنفسنا، هل مازال الوطن العربي يعيش في ظل نظام “باتريمونيالي”، أي يعتمد على علاقات المحسوبية والولاء للسلطة المركزية، التي توزع المنافع والنفوذ؟
ذلك لا ينبغي أن نستهين بهذا المعطى في تشكل الوعي لدى المتلقين، فالحمولة التي يتضمنها، على المستوى الواقعي اليومي، وعلى المستوى الرمزي، تطبع إلى حد بعيد، تصور المواطن للنظام السياسي، وجوهره، وطبيعته، وعلاقته بالسلطة، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تكريس سلوك العزوف، وانعدام الثقة في المؤسسات التي تهيمن علي العملية الإنتاجية للمسرح،والتي تتحكم في ممارسة هذا الفن بالمنع، اوالمزاولة -لذا فإن التلقي النقدي لعروض مسرح الشارع في وطن.
لذا فإن التلقي النقدي لعروض مسرح الشارع في وطننا العربي ينبغي له ان يخرج من عزوفه بدراسة المرحلة البعدية لعرض الشارع ،دراسة وافية من خلال الأبعاد الأيدلوجية، والسيسيو ثقافية للمتلقي، وما احدثه العرض الشارعي من تأثيرات بفعل رسالته الإتصالية علي هذا المتلقي، سواء في معلوماته، ومعارفه، او في إتجاهاته، ومواقفه إما تثبيتاً، او تغييراً، وأخيراً في سلوك هذا المتلقي .