حسن المنيعي كما ألِفْتهُ.. / يوسف الحمدان
حسن المنيعي..
ألِفْتُهُ في حياته التي عاينتها في لقاءاتي به في مهرجانات وملتقيات المسرح العربي وادّعا هادئًا حدّ السكون، بالكاد تسمع صوته الهامس أو خطواته الوئيدة الصامتة التي تتجول في الأروقة أو تتهجى طريقها على عتبات المسارح كي تستقر على مضض في أحد مقاعد صالة العرض أو في ركن من أركان فضاء الفرجة..
ألِفتهُ بوجه خجول تكتسي براءة الأطفال تقاسيمه الدقيقة غير الظاهرة وبأنفاس روح يتعذر عليك في كثير من الأحيان التقاط أو فهم ما يصدر منها من ذبذبات هي في عداد الكلام المفكر والمتأمل..
ألِفته وهو يحاور ويقلب صمته طويلاً قبل أن يأذن لبضع كلمات بأن تأخذ حيزها المتاح في حديثه أو دلوه..
ألِفْته وهو يحتفي بمنكبين ضئيلين متوشحين ببعض ما جاد به معطف غوغول من خرق تحمي نتوءات الزمن المهتريء وبرأس ثابتة تنازع ثقل ياقتي المعطف كي تبدو جديرة بـ(بريه) الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير التي تحدرت من سلالتها القشبية (بريهات) فلاسفة القرن العشرين..
ألِفُته متقشفًا في مظهره لا يعنيه فيه ومنه ربما سوى ملامح وجه أذنت لها مرآة الرؤية أو الطلّة الأولى بالمضي بهو الحياة ودهاليزها بسمات المكتنزين بجوهر دونه كل المظاهر..
ألِفْته وهو ينزوي في ركن ناعس يحتفي بظل الصباح في أحد المقاهي أو الحانات الرفيقة الحانية وهو يتعاطى الوقت مع بعض الأصدقاء، يصغي إليهم كثيرًا وطويلاً وبالكاد يتحدث أو يهمس وكما لو أنه يحتفي في هذا الوقت بكلامهم أو كما لو أن رفقته يحتفون في هذا الوقت بصمته..
ألِفتهُ وهو يمنح الوقت الطويل للحكواتي المعتق عبدالحق الزروالي وهو يصغي إليه باهتمام شديد وكما لو أنه يبحث في هذا المرتجل من الحوار عن منفذ آخر يضيء به كتابه (المسرح والارتجال)، أو كما لو أنه اعتاد اختبار صمته في حموة الحكي الكثير والطويل..
ألِفْته ذلك الناقد المفكر المسرحي الذي حين يتحدث أو يدلي بدلو حول قضية أو عرض مسرحي فاعلم وتيقن بأن ما أثاره ودعاه للحديث شيء أو أمر يستحق الحديث حوله سواء كان ذلك الحديث من قبيل الإعجاب أو نقيضه، إنه ذلك الناقد المفكر الذي لا يطالبك بجلسة لحوار قط، ذلك أنه سرعان ما تبدأ هذه الجلسة وحدها ودون سابق ترتيب أو إعداد، بمجرد رأي عابر ومختزل يباغتك به المنيعي تعليقا على رأي أبديته في عرض مسرحي أو ورقة نقدية أو بحثية قدمت في إحدى الندوات الفكرية، وغالبا ما يكون هذا الرأي في محل استحسان لرأيك وقراءتك..
ألفته ذلك الناقد المفكر المحيط والمكتنز بغزارة محيطات المعرفة في شتى بقاع التاريخ والتراث والثقافة النيرة الخلاقة في هذا الكون ومن كنز عاصمة النور باريس خاصة، والذي لم يزعم يوما أنه بمعزل عن ما يشغله ويهمه ويعنيه ويؤرقه ويقلقه في محيط مسرحه المغاربي والعربي بسبب نهله الفلسفي والأكاديمي من محيطات تلك المعرفة، فكل الكتب تقريبًا التي أصدرها تبحر في محيطات المعرفة في المغرب والوطن العربي، ومن أهمها «أبحاث في المسرح المغربي»، و«المسرح الحديث… إشراقات واختيارات»، و«عن المسرح المغربي… المسار والهوية»، و«حركية الفرجة… الواقع والتطلعات»، و«المسرح والارتجال»، و«المسرح المغربي… من التأسيس إلى صناعة الفرجة»، و«المسرح… مرة أخرى» و«مقاربات مسرحية».
إن هذه الدراسات والبحوث تبدو ذلك الحوار المؤجل أو الصمت الذي باحت به كلماته التي قلّ أن أصغيت لها في حوار معه، وهي الدراسات والبحوث التي لا تدعي وصلاً بليلى في أوربا وتنسى أو تتناسى أو تتجاهل أو تنأى بما يضفي إليها من سحر في بلد المنشأ والحلم والهم..
إنه في مخاض ومعترك الصعب، حيث النقد والفكر والتحليل والتفكيك والقراءة الباحثة الشاخصة الرائية والدالة، مخاض ومعترك ندر من يطرق أبوابهما، بل يصعب على بعض أهل المخاض والمعترك الاستمرار أحيانًا في الإبحار في لججهما، لذا يعتبر المنيعي واحدًا من أهم النماذج النقدية في حقول المسرح الذي يستدل ويحتذى به في هذا المجال، ليس على صعيد النقد المسرحي في المغرب العربي بل في الوطن العربي، فهو رائد من أهم رواد الحركة النقدية المسرحية في الوطن العربي، ومرجع من أهم مراجعها الفكرية، ولعلنا عرفنا المسرح المغربي برؤية مختلفة ومغايرة بعيدة عن التسجيلية والرصدية الشائعة في كتابات كثير من النقاد المغاربة أو العرب، عرفناه من خلال بحوثه ودراساته.
ألِفْتهُ واحدًا من أهم النقاد المسرحيين الذين أوْلوا النقد التطبيقي كبير اهتمامهم، انطلاقًا، كما أرى، بأن الدراسات والبحوث التي تتعرشها بعض العناوين العامة لا يمكن أن تكون ذات أهمية في رؤيتها الفكرية والفلسفية دون مستدل تطبيقي يعزز مساراتها وآفاقها في هذا السياق، وكم احتاجت الكثير لدينا من الدراسات إلى مثل هذا الاهتمام بالنقد التطبيقي الذي من خلاله تتشكل الرؤية البحثية وتستضيء مناطقها المتعددة المتعرجة.
ألِفْتهُ ذلك الصعلوك النبيل الذي تضج روحه بصخب المعدمين والمهمشين فلا تألف غير من يشاطرها حياة هي في عداد المغامرة المرشحة للموت في أي لحظة أو سانحة، هكذا يبدو المنيعي في هيئته ومع أغلب من ينتقيهم أو ينتقونه للحوار معهم في شؤون يتقاسمها عذب الوقت وصديقه وقاتله.
لشد ما يؤلمني في هذه السانحة أيها الصديق الأستاذ والمعلم أن أكتب عنك في وقت لم يسعفني على أن أكتبك فيه وأنت تقرأ اللحظة ما كتبته عنك.. ولعل ما يشفع لي اللحظة هذه هو أني أكتب عن قامة بحجم النسمة العابرة، فإن غادرتنا اليوم فنسمة بنفسجتك لن تغادرنا في كل فجر تباغتنا فيه برهيف صمتك ودعتك..
حسن المنيعي..
ألِفْتك.. وألفيتني صادق الحزن في فقدك حقًا