نص مسرحي: ” البيت لنا” / تأليف: جبار القريشي
مكان العرض: المسرح عبارة عن فضاء غرفة بسرير نوم، وبعض الاغراض والملابس المعلقة
شخصيات المسرحية: شاب يعيش مع أمه، حارس شخصي لجهة ما، حرس حدود
اللوحة الاولى:
(الشاب يحضر لشيء ما)
الام: الى أين يا ولدي؟.
الشاب: الى حيث يُلقي بي القدر يا أماه.
الام: وبيتنا!؟.
الشاب: بيتنا.. لم يعد بيتنا.
الام: لكنه بيتنا يا ولدي، ولدينا من الاوراق ما يثبت ذلك.
الشاب: الأوراق وحدها لا تعيد الحقوق المسلوبة يا أماه.
الام: لا يا ولدي، إنه بيتنا الذي ولدنا فيه، كيف نفرط به!؟.
الشاب: كان بيتنا قبل أن يحيلوه الى معتقل.
الام: لكننا مازلنا نسكن فيه، وها نحن نتحرك بارادتنا.
الشاب: (باستياء شديد) نزلاء يا أمي.. نزلاء.. نحن عندهم نزلاء، وهم سجانون.
الام: لا يا ولدي، إن بقائهم مجرد وقت.. وسيرحلون يوماً.
الشاب: واهم من يظن أنهم سيرحلون يوما يا إماه، ألا ترين كيف عززوا الابواب والشبابيك بقضبان الحديد، ووضعوا الحواجز في الطرق المؤدية الى البيت، وأقاموا الجُدُر العازلة؟.
الأم: كل الحَواجز والجُدِر التي بنوها ستزول يوما باذن الله وهمتكم رغماً عن انوفهم.
الشاب: كفانا نحلم يا أماه، أنسيتي كم من الأبرياء قُتلوا على أعتاب الحواجز والجُدُر العازلة؟.
الأم: كيف لي أن أنسى؟.
الشاب: ألم أقل لك يا أماه إننا نعيش في معتقل؟.
الام: وما الحل يا ولدي؟.
الشاب: لا أريد إن أموت يا اماه كما مات أخي، وقبله أبي، لنترك الجمل بما حمل، ونسلم بجلودنا.
الأم: لا يا ولدي، أن نموت جميعا في بيتنا بكرامة، خير لنا من أن نموت أذلاء في بلاد الغربة والشتات.
الشاب: (مستاءً، وهو يخرج يقول)أوووو بيتنا.. بيتنا.. بيتنا، أما تكُفي من لوك هذه الأسطوانة السمجة كلما عزمت على الهجرة، لقد سأمت تكرارها.
الام: (تمسك برأسها بين كفيها وتجلس محزونة على حافة سريرها وهي تقول)سامحك الله يا ولدي، لقد خيّبت ظني وظن أبيك وأخيكَ فيك، وفرطت بدمائهم.
(موسيقى حزينة وظلام يتسلل فيغرق المكان)
……..
اللوحـــة الثانيـــة:
(بقعة ضوء تظهر الشاب وهو يعود يجر خطاه نحو غرفة أمه حاملا حقيبته، الام ما زالت تجلس منكسرة على حافة سريرها)
الشاب: ها..؟ هل حزمتي حقائبك يا أماه؟.
الام: (بمرارة ترد)أية حقائب تلك التي أحزمها!؟.. قلت لك لن أترك بيتي أبدا، وإذا كان لابد منه، وأنك عازمٌ على الهجرة، هاجر أنت، ودعني أنا.
الشاب: كيف أتركك وحدك بين جموع الذئاب والغربان النهمة يا أماه!؟.
الام: لا عليك بي يا ولدي، الله موجود، أنا أتدبر الأمر، فلقد ألفت العيش مع الذئاب والغربان، وهو قدري الذي لا مناص منه، لكن لن أترك بيتي مهما كلفني ذلك.
الشاب:(متذمرا)أوووه.. قلت لكِ لم يعد بيتنا يا أماه.
الام: إنه صندوق ذكرياتي الجميلة ياولدي، ولم تطاوعني نفسي على هجره.
الشاب: لقد غيروا معالمه يا إماه، ولم يبق شيء من ذكرياتك.
الام: ما زلت أشعر بانفاس أبيك تملأ فضاء البيت، ما زالت ضحكاتُ أخيك تدوي في كل ارجائه، ما زالت الغرف والممرات والجدران تحدثني عنهما.
الشاب: الذكرى مخزونة في ذواكرنا يا أماه، وليس على الجدران.
الام: ذكرياتي أنا محفورة على جدران بيتي، وشخوصها أشعر بهم يعيشون معي، يحدثونني في لحظات خلوتي، ويؤانسونني في سويعات وحشتي.
الشاب: قلبي عليكِ يا أماه، أخشى عليكِ من أن يداهمك الجنون من تلك الهلوسات.
الأم: هلوسات!؟، أوَتخشى علي من الجنون!؟. المجنون يا ولدي من يهجر بيته ويتسكع في دروب الغربة بحثا عن ملجأ يُؤيه.
الشاب: أفهم من ذلك أنك مصممة على البقاء؟.
الام: نعم يا ولدي، ولم أفكر يوما أن أغادر بيتي مهما حصل، ولن أغادره إلا حين يُحمل نعشي الى حيث مثواي الأخير (تهتف غاضبة) وأكثر من ذلك، وأرجو أن تسمعها جيدا.. حتى وإن مُتُ فسأوصي بأن أدفن هنا، في بيتي.
الشاب: (بعد تردد، وذهاب واياب)إذاً.. فأنا مضطر للهجرة وحدي يا أماه.
الام: (متحسرة) لي الله ياولدي، هاجر ما زلت عازما على ذلك، حفظتك السلامة
(الولد يحمل حقيبته، ويودع أمه ويخرج، الام تشيعه بنظرات منكسرة وهو يبتعد.).
…….
اللوحــــة الثالثـــــة:
(الظلام مازال مطبقا، بقعة ضوء تظهر الأم تجلس على سريرها في زاوية من الغرفة، ويبدو أنها محزونة، يدخل الحارس الشخصي للجهة المستحوذة على الدار، وهو يحمل ورقة.. يقدمها لها)
الحارس الشخصي: (يقول بصوت آمر) لقد صدرت الأوامر بإخلاء الغرفة فورإً، نحتاجها لمهمة خاصة.
المرأة: (باستغراب) أي غرفة!؟.
الحارس الشخصي: الغرفة المجاورة لغرفتكِ، إخليها فوراً.
المراة: لكنها غرفة نوم ولدي!.
الحارس الشخصي: (يضحك مستخفا، ويؤشر بيده كحركة طائر) ولدك قد هاجر، وسوف لن يعود أبدا.
المرأة: ولدي طير زاجل، وسيعود مثل كل مرة، فكلما عزم على الهجرة تحت ضغط الايام، وتوالي إستفزازاتكم، داهمه حنين الوطن.
الحارس الشخصي: إطمأني، الجرعة التي تلقاها هذه المرة كفيلة بان تنسيه الوطن وما فيه.
الام: أبداً.. لاجرعة في هذا الكون تنسينا حب الوطن، فحبه يسري في عروقنا.
الحارس الشخصي: دعكِ من تلك الشعارات يا امرأة، وخلينا فيما نحن فيه، فلقد صدر الامر بإخلاء الغرفة فوراً، ولا جدال في ذلك.
الأم: (تصرخ بوجهه) ما الذي أبقيتموه لنا؟ فلقد استحوذتم على كل شيء، إنها غرفة ولدي!.
الحارس الشخصي: (مهددا ومتوعدا يلوح بسبابته)أحذركِ من التمادي يا امراة، لسنا طارئين، لا تُجبِرينا على اتخاذ إجراء حازم ضدكِ قد يجعلكِ تندمين.
المراة: (تضج باكية) رباه.. أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. ماذا تريدون منا!؟، سنين وسنين وأنتم جاثمون على قلوبنا، كاتمون على أنفاسنا، مستحوذين على أرضنا وبيوتنا، دعونا نتنفس، إففففف.
الحارس الشخصي: (متهكما يضحك) وهل أرقكِ بقائنا يا امراة؟. ألسنا شركاء في البيت؟.
المراة: كلا.. لستم شركاء، فالبيتُ بيتنا، والارضّ أرضنا، وما أنتم إلا دخلاء غاصبون.
الحارس الشخصي: بل شركاء، وها أنتِ تعيشين بيننا كأي واحد منا.
المراة: (بانفعال) ليتني متُ قبل هذا وكنتُ نسياً منسيا، أشعر وأنا في بيتي، وكأنني تحت الاقامة الجبرية.
الحارس الشخصي: هوني عليكِ يا امرأة ولا تنفعلي.. سنخفف عنكِ الاجراءات، من الآن فصاعدا لك كامل الحرية في التحرك والتجوال داخل حدود البيت، شريطة أخذ الإذن.
المراة: أنا حرة في بيتي، ولن أأخذ إذناً من أحد.
الحارس الشخصي: إنها الأوامر يا امراة، ولا يمكن لأحد أن يخالفها، وكل من في الدار هنا لا يتحرك دون إذن سيده.
المراة: أنا هنا في بيتي سيدة نفسي، ولا سيدا لي أتلقى منه الأوامر.
الحارس الشخصي: إسمعي يا امرأة، لا أحد هنا سيداً لنفسه، إنه سيدي وسيدكِ، وسيد الجميع.
المراة: سيدك أنت، اما انا فلن أمتثل له.
الحارس الشخصي:(هازئا، يضحك عاليا)إنك تحلمين يا امرأة، لا أحد هنا سيد نفسه، كلنا نأتمر بأمره، وهو سيد الجميع بلا منازع.
المراة: لماذا لا تأخذون البيت كله، وتعطونني حريتي!.
الحارس الشخصي: قلت لك مراراً وتكراراً، كل شيء هنا بات ملكنا، والحريات جزء من هذا المُلك.
المرأة: من أعطاكم هذا الحق لتتحكموا بمصائرنا!؟ ألم تقل عندما صادفتك أول مرة، أنها مسألة وقت!؟، وأنكم سترحلون يوماً.
الحارس الشخصي: لا تتعجلي يا امراة، حتى وإن رحلنا، فهناك من يبقى ليرعى مصالحنا.
المرأة: (متذمرة) أففففف.
…..
اللوحــــة الرابعـــة..
(بقعة الضوء تكشف لنا الشاب وهو يرتجف بردا، محاولاّ النفاذ عبر الاسلاك الشائكة لدولة ما، حارس الحدود بملابس الشتاء، المعطف وغطاء الوجه والرأس والكفوف، يقف تحت علم بلاده، وهو يحمل سلاحاً يصوبه نحوه.).
حرس الحدود: قف عندك.. وارفع يديك الى أعلى أيها اللص.
الشاب: (ينبطح على بطنه رافعا يديه)أرجوك.. دعني أعبر الى الجهة الاخرى، سأموت من الجوع والبرد إن بقيت هنا.
حرس الحدود: عُد من حيث أتيت أيها الصعلوك المتسول، وإلا أرديتك قتيلاً.
الشاب: يا سيدي أرجوك، لستُ لصاً، أنا فقط أبحث عن وطنٕيّؤيني.
حرس الحدود: ولم هجرتَ وطنك؟.
الشاب: الوطن هو من هَجٌَرَني.
حرس الحدود: من يطردهُ وطنه لا مكان له بيننا، نحن هنا لا نستقبل العاقين والمعاقين.
الشاب: لست عاقا ولا مُعاقا، فسواتر القتال تعرف كم كنت بارا، وميادين العمل تشهد بهمتي ومهارتي، لكن الأمور تغَّيرت رأساً على عقب حين داهمونا.
حرس الحدود: ولماذا طردك وطنك!؟.
الشاب: ياسيدي.. لم يطردني وطني، لكن لو أتيح له أن يهاجر، لهاجرَ هو الآخر هربا منهم.
حرس الحدود: ومن هؤلاء الذين داهموكم!؟.
الشاب: الذئاب والغربان النهمة يا سيدي، إنها تلتهم كل شيء يقع في طريقها، ولا حدود لنهمها، لقد أكلت بيادر الامل داخل نفوسنا، وشوهت كل شيء جميل.
حرس الحدود: ومن أين جاءت تلك الذئاب والغربان!؟.
الشاب: إنها البلاء الأعظم يا سيدي، داهمتنا على حين غرة، تجمعت من كل حدبٕ وصوب، فأفسدت الحرث والنسل.
حرس الحدود: صف لي تلك الذئاب والغربان ياهذا.
الشاب: يا سيدي، إنها وحوش لم نرَ مثلها من قبل، وجوه سوداء كالحة، وبطون منتفخة لا تشبع، وذيول طويلة تمتد بعيدا.. بعيدا يا سيدي.
حرس الحدود: وما الذي منعكم من أن تتوحدوا وتمنعونها من أن تهاجمكم؟، وتنفث في زرعكم، وتفسد حرثكم.
الشاب: لا أحد يستطيع مقاومتها يا سيدي، لديها مناقير ومخالب وأنياب فتاكة، إن اقترب أحد منها لا تتورع في قتله وتمزيقه والتهامه.
حرس الحدود: فَعٌِلوا قوانين مُكافحة الآفات والكوارث.
الشاب: أي قوانين تلك التي نُفعِلُها، حتى القوانين يا سيدي فصلوها وأخاطوها قمصانا وفق مقاساتهم.
حرس الحدود: (مندهشاً) الذئاب والغربان..!؟.
الشاب: نعم الذئاب والغربان يا سيدي.
حرس الحدود: (مندهشاً) أي غربان تلك!؟. أخشى أن تكون داينصورات طائرة بهيئة غربان.
الشاب: يبدو أنها كذلك، إنها البلاء الذي نزل على رؤوسنا يا سيدي.
حرس الحدود: والآن قل لي، عن ماذا جئت تبحث عندنا، وتجازف بحياتك!؟.
الشاب: أبحث عن كرامتي المهدورة يا سيدي ولا غير.
حرس الحدود: نحن لا نمنح كرامات لمن ضيٌَعها في بلده. أليس عندكم مثلاً يقول: “من خرج عن داره، قلٌَ مقداره” إبقَ في دارك، ودافع عنها، فهناك الكرامة التي تنشد وليس عندنا.
(يجلس الشاب محبطا، لا يدري ماذا يفعل).
……..
اللوحــة الخامســة:
(ما زال الظلام مطبقا، وبقعة الضوء تظهر لنا الشاب وهو يعود الى بيته يجر عربة السفر.. يصادفه الحارس الشخصي).
الحارس الشخصي: ها.. ما الذي جاء بك ياهذا؟ لا تقل لي حنين الوطن.
الشاب: عدت لأنظف وأكنس بيتي مما علق به من نجاسات و أزبال.
الحارس الشخصي: رجل النظافة هو من يتولى هذا الأمر، ولست أنت يا هذا، ولا تنسى أنه يتقاضى أجره منا.
الشاب: لا تتطهر البيوت ولا تنظف من نجاساتها ما لم يتولاها أهلها، وليس الغرباء.
الحارس الشخصي: الغرباء يصبحون أهل دار حين تتقادم عليهم الايام والسنون.
الشاب: لكنهم يبقون غرباء كونهم بلا جذور، وسيتطايرون مع أول عاصفة صحو تهب في نفوس وهمم أهل البيت، لترمي بهم خارج الحدود.
الحارس الشخصي: عن أي نجاساتٕ تتحدث يا هذا!؟.
الشاب: لا أستثني أحدا، كل غريبٕ داس بقدمه طهارة بيتنا دون إرادتنا فهو نجاسة.
الحارس الشخصي: (ينظر اليه بدهشة ويقول مستغرباً) من الذي زرع تلك الأفكار السوداوية في رأسك أيها ال….
الشاب: لست بحاجة الى من يزرع في رأسي أفكاراً أيها ال…فلقد تربيت عليها منذ نعومة أظفاري، وقد رضعناها جيلا بعد جيل.
الحارس الشخصي: (مندهشاً) أرى أنك قد تغيَّرت كثيرا عما قبل يا هذا، وصار وجودك مصدر قلق ينبغي التحوط له.
الشاب: مثلما هو وجودكم أصلا مصدر قلق يهدد وجودنا، ينبغي التخلص منه بأي وسيلة، فالأضداد دائما لا يجتمعون.
الحارس الشخصي: أتدري أن أفكارك هذه إن لم تتخلى عنها، ستكلفك الثمن غالياً؟.
الشاب: واستفزازاتكم لنا إن لم تتخلوا عنها هي ايضا ستكلفكم ثمنا أغلى.
الحارس الشخصي: نحن لدينا من الوسائل ما ندافع به عن أنفسنا، أما أنت فما الذي لديك لتدافع به عن نفسك؟.
الشاب: إيماني بعدالة قضيتي أمضى سلاح من كل أسلحتكم.
الحارس الشخصي: (مندهشا يفغر فاه، وتتسع حدقة عيناه..يبقى للحظات ثم فجأة ويغيّر اللهجة محاولا إستلطاف الشاب، يقترب منه، يمسح على أكتافة ويبتسم) أنت شاب طيب، والحياة أمامك، فقط كف عن هذه الأوهام التي تدور في رأسك، وعش حياتك، ولك منا أن نحقق لك كل مطالبك، ونسهل لك الهجرة لاي بلد تشاء، ونتعهد لك من أننا سنجد لك فرصة عيش مناسبة تليق بك، ما رايك!؟.
الشاب: (ينظر له نظرة إحتقار)العيش في بيتي وبيت آبائي لهو غاية ما أتمناه اليوم، ولا حاجة لي بالهجرة، ولا بفرصة العيش المذلة التي تعدونني بتوفيرها.
الحارس الشخصي: لكن الهجرة كانت حلما يراودك منذ سنين، ما الذي تغير!؟.
الشاب: كان ذلك قبل أن أسترجع عقلي، أما اليوم فحلم العودة هو من يراودني.
الحارس الشخصي: (مندهشاً) عودة من يا هذا!؟.
الشاب: عودة بيتي وكرامتي.
الحارس الشخصي: با لتأكيد إنك تحلم.
الشاب: هب إني أحلم، ما الظير في ذلك، فكل الاهداف العظيمة تبدأ بحلم.
(يخرج الحارس الشحصي مستاءً وهو يهز بيده).
………
اللوحــة السادســة:
(يدخل الشاب الى غرفة أمه، يجدها غارقة في الظلام، بقعة ضوء تدور في المكان تظهر لنا ملابس معلقة على الجدار، صاية وعقال وبعض الاغراض التي تعود لأبيه، وفي الزاوية الاخرى تظهر أمه وهي جالسة على حافة سريرها وقد عصبت رأسها بيشماغ أبيه، يتوجه نحوها بخطوات بطيئة ووجهه غارق في الحزن، يتناهى الى مسامعها صوت خطواته، وكأنها شمت رائحته، تصرخ!).
الام: مَن!؟.. ولدي!؟.
الشاب: نعم يا أماه، ها أنذا قد عدت.
(يرتمي بأحضانها وينفجر باكيا، تشمه بحرارة وتشده الى صدرها وهي تبكي، يتلمس عينيها، يجد أنها قد عميت، يتصاعد نشيج بكاءه).
الشاب: سامحيني يا اماه، عيناي فداءً لعينيكِ. انا السبب، انا السبب.
الأم: لا يا ولدي، إنها إرادة الله، وأحمده أنك عدت لي سالماً.
الشاب: سأبقى ملازما لكِ يا اماه ماحييت ولن أغادر البيت بعد الآن، وسأكون عيونكِ التي بها تبصرين الطريق.
الأم: عيوني ستعود مبصرة عندما يعود بيتنا مُلكِنا يا ولدي، لا يشاركنا فيه أحد مثلما كان.
الشاب: قسماً سننتزعه من أعينهم باذن الله، ويعود حرا محررا.
الأم: بارك الله فيك يا ولدي.(تخرج مفتاح من تحت وسادتها) خذ يا ولدي، مفتاح البيت، أمانة عندك، كان قد اوصاني ابوك قبل استشهاده بان اسلمه لك عندما تكبر، وها أنت كبرت ونضجت، خذه يا ولدي.(تنزع اليشماغ التي كانت متعصبة به، تعصب به رأسه) وهذا يشماغه، أعصب به رأسك، وتهيأ لحمل الأمانة،
الشاب: السمع والطاعة يا أماه. (يأخذ المفتاح ويعلقه قلادة في رقبته)قسماً لن أحيد عن الدرب الذي سلكه أبي وأخي من أجل أن أنتزع حقي من عيون غاصبيه.
الام: (تخرج حجارة عليها بقعة دم، كانت تخبئها تحت ثوبها، تقبلها ثم تعطيها ولدها)وهذه الحجارة التي كانت بيد أخيك قبل أن يسقط شهيدا، خذها يا ولدي، لقد ظل ممسكا بها لحظة أن سقط شهيدا مضرجا بدمه، لم يستطع أحد أن ينتزعها من يده، غير أنه نزعها من يده بسهولة حين طلبتها منه، كأنه سلمني إياها أمانة، إحتفظت بها كل هذه السنين. خذها يا ولدي وأكمل الطريق الذي سلكه أبوك وأخوك.
الشاب: (يأخذ الحجارة، يتأملها، كأن روحه تمتلأ بالحماسة، يقبل يد والدته ويتأهب للخروج والحجارة بيده، يرميها، ومن خزانة قديمة يخرج بندقية، يتأملها وعلى وجهه ملامح غضب وهو يخفي وجهه تحت يشماغه، يعاود المسرح غارقا في الظلمة).
«ستـــــــار».