يوسف السياف يكتب مقدمة مسرحية “جرعة أخيرة من الحياة” للكتاب العراقي كرار فياض المنشور في دار اكاد
بعد أن كانت محنة الكاتب هي (السلطة) وبكل أشكالها لاسيما سلطة الحاكم أو سلطة النشر والترويج أو سلطة الدين… إلخ, إلَّا أنَّ الآن وفي ظل الهيمنة التنكورقمية وسيولة الثوابت وكثرة منافذ الترويج. أصبح القارئ أو المشاهد هو محنة الكاتب الرئيسة بخياراته التي لاتعد ولاتحصى, وإحالة منجزه الأدبي أو الدرامي إلى روافد الصناعة الإبداعية, بالإضافة إلى تفاقم محنة الهدف والغاية من الكتابة, فقد غابت عنا تلك التأثيرات التي تتركها النصوص الأدبية والدرامية في كسرها للمألوف من الناحية الاجتماعية أو السياق الأدبي ذاته, وبهذا نحن في حيرة كحيرة الكاتب في أنْ يبحث عن ثيمة تمكنه من التخلص من أرق الليل, والقوى ذات التابع العقلي كالمبررات والبواعث والقوى ذات الطابع الوجداني كالأهواء والدوافع,
فما الكتابة إلّا بداية الرحلة من العدم, نعم نحن أمام لغة درامية كتبت بأحرف عربية صيغت بجمل من القرارات والأفكار التنويرية المتعالقة والمتجابهة ما بين الكاتب والمجتمع, وبما أنَّ كتابة النص الأدبية والدرامية تلامس الواقع وتطرح الأسالة أجد بِأنَ أعظم النصوص هي التي تنطلق من مشكلة الحرية كأقدم المشكلات الفلسفية ومفتاحها وتلامس الماء والهواء والتراب, وأكثر المواضيع اتصالاً بالمفاهيم الوضعية والميتافيزيقية, وهي ما تتمحور في ذهن الكاتب وتنبى عليها الأحداث الدرامية, فما الحرية فيما يخص الصراع الدرامي إلَّا تذبذب بين الأشياء فيتولد الصراع, انطلاقاً فاجعة هيكتور الهوميروسية ومروراً بعقدة أوديب السوفوكليسية وثورة نورة الابسنية وبالمبستية هانز مولر, وما نجدة من علاقة الإنسان بالإنسان والإنسان بمحيطة في النصوص المسرحية التي تركت أثرها في الساحة الأدبية عالمياً نجد بِأنها أصبحت حلقة يمكن الاستغناء عنها في ظل موت الما قبل والركون إلى التشظي وضياع الثوابت, فما أحدثه روبيك الثقافة المعصرة في المجتمعات الأجنبية لا يمكن استعارته أو استحضاره في المجتمعات العربية التي من المستحيل أنْ تعيش عصر الما بعد وبعده وهي إلى الآن في دوامة الما قبل,
وهذا ما ينذر بالخطر ويجعل كاتب السطور يتساءل (هل يمكن للكاتب المسرحي العربي أن يحقق ما حققه الكاتب الأجنبي من ثورات فكرية وثقافية إنْ لم ينسلخ من لعبة الرايسز ويترك جماح خياله بِأنْ يصول بعيداً عن الساحة الأجنبية؟)(هل يمكن للكاتب العربي أنْ يؤسّس له منهجاً يعتمده في كتابه نصوص الأدبية أو الدرامية وينطلق من فكرة بكر خالية من الشوائب والسرقات والاستعارات من الفكر الأجنبي؟)(هل يوجد نص مسرحي عربي خالص؟).
وبما أن هذه التساؤلات أجد بأنها كالنفخ في قربة مثقوبة سأغادرها وأتجه نحو سياق نص مسرحية “جرعة أخيرة من الحياة” للكاتب المسرحي العراقي (كرار فياض), وانطلاقاً من عتبة العنوان باعتباره سمة النص وبنية مستقلة في إنتاجه ومتعالقة في نفس الوقت مع متن النص ومحفزات إنتاجه, لكونه يعد نصاً بحد ذاته له مرسلاته الدلالية, ومن خلال مقاصد متن النص الدرامي التي يتعرف عليها المستقبل على ضوئها يصاغ العنوان المناسب, ويمكن لنا الدخول إلى النص من خلال العنوان كونه يحيلنا إلى بداية النهاية لحتمية العيش وهو مرتبط بالجملة الواردة في نهاية النص والتي أعطى المؤلف ملاحظة إخراجية في أنه يمكن أن تبث بصرياً عند تحويل النص إلى عرض؛ إذ يمكن لهذه الجملة أن – تنتمي إلى نتيجة طبية كالجرعة التي يمكن أن تنتمي للنفس, وبمجرد المرور على العنوان سنشرع في التَنَبُّؤ من خلال التلميح ومحاولة إعطاء مقترحات – تندرج تحت مفهوم سوماتولوجيا ومرتبطة بالسوماتولوجيا- كمساحات تغطي مفهوم النص ومبثوثات العنوان, وما تعالق مفردة (الجرعة) في العنوان مع اليافطة ذات المعلومة الطبية.
في ختام النص إلَّا سردية عالية لتقعيد مفهوم الحياة, وهذا ما يعترضه النص وتبَخُلَهُ الحرية كطائِلة تهيمن على خط الفعل الرئيس والهدف الأعلى للمتن الحكائي للنص, انطوت حكاية النص حول شخصيتين تعارض ابتسار الإنسان في ظل المجتمعات المنكوبة كمحاولة لإثبات الذات وفق مبدأ الغاية, فما تحمله شخصية (الزوج) من دلالات كيفية انتقالية تترجم غاياتها وهدفها في امتلاك الحرية بلغة ثورية احتجاجية بوصفها علامة أيقونية تمتثل للحرية كفعل وليست حالة, في حين نجد إن شخصية (الزوجة) كانت طيلة الأحداث تحاول كشف أسرار وفك ألغاز الحرية, إلَّا إنها ورغم ثوريتها وتنويرها كانت تحاول كبح جماح القرارات للمحافظة على مفهوم العائلة, وكنتيجة لرفض مفهوم الموت وإنكار ثقافة الحروب, وإن الصراع الدائر ما بين الزوج والزوجة والمستعر ما بين العيش بكرامة أو الموت بمهانة يكشف المشكلات التي هيمنت على الإنسان الحر وبدأت تستفحل, أحلام وكوابيس وسماع الأصوات تسلب راحت الزوج وهي ذاتها التي اشعلت فتيل الثورات الشعبية, ولكن المشكلة في سرعة استغلال هذه المنبهات.
فقد أراد المؤلف أن ينوه على مسألة الزمن وفي أن الفرص قليلة ويمكن أن يكون الغد غير مستحيل في تحقيق الأحلام والتخلص من الظلم أما اليوم فهو مستحيل, وعلى الرغم من زراعة مشهد رومانسي ضمن السياق. إلا إنّ الجو العام بقي غائماً بالمعاناة رغم صخب المفردة الاشتراكية والبوح بتأجيج الاحرار, فهو نص منتمي إلى أجواء مدن العالم الثالث تلك المدن التي تعاني من الوعي الزائف تربكه الايديولوجية حسب قول ماركس, نص مكمل لصرخات ما قبل وبعد الحرب ينبض بالوعي الذاتي وإدراك الذات الاستنباطية, نص يترك القارئ يتأمل ومنهمك في المشكلة, إذ أراد (الفياض) جمع عيدان الشهداء الأحرار لإشعال فتيل الثورة وإنارة الطريق الحق, وبرغم هذا السرد النصي السيمولاكري فكرياً وميتاتياتري استعاريا وفق مفهوم الكتابة على الكتابة إلا أنه يتناول ثيمة اليوم وصراع الآن بعيداً عن التأرخة أو استلهام التراث, بل الشروع بتهديم البون ما بين النص والمتلقي, والنضر إلى الواقع كشيطان لابلاس وتوقعاته المستقبلية, فثمة ربوبية تحرك الإلهام.