مخاضات التجريب في مسرحية “حمام النسوان” للكاتب المسرحي (علي العبادي)/ حيدر جمعة العابدي
من البديهي أن كل تيار جديد يصاحبه وعياً جديداً مركباً في الشكل الذي يرتبط بعملية بناء النص وطريقة سبك أحداثه، وفي المضمون الذي يرتبط هو الآخر بمحاولة أحداث تجديد وتمرد على المفاهيم والرؤى السابقة، وبالتالي بث أفكار جديدة بإحساس جديد. كون المسرح يرتكز في وجوده على علاقة جدلية بين الثابت كقيمه فنية وتاريخية لها حضورها في الذات الفنية الفاعلة وبين متغيرات الواقع وتحولاته الفكرية والنفسية والاجتماعية، لذا هو يصنع وجوده بنفسه عندما يضف اليها تجاربه الجديدة، وعندما يعيد تفكيك وبناء الخطوط الفاصلة بين السائد فنيا، وبين تحولات الواقع المعاش. إن هذه الجدلية أو الصراع كفيلة بجعل المسرح مسرحاً يسعى للكشف والاكتشاف، وهو ما يفسر ظهور الحركات والاتجاهات المسرحية القديمة و الجديدة. إن ولادة أي اتجاه بالضرورة يكون مرتبطاً بمرحلة ما، فالاتجاه إلى الطبيعة أرتبط بالمدرسة الطبيعية، والاتجاه إلى التحرر أرتبط بالمدرسة الرومانسية، كما أن الاتجاه للتجريد انتج لنا المدرسة التجريدة، الاتجاه للواقع انتج لنا المدرسة الواقعية، وبما أننا بصدد اكتشاف الواقع وتحولاته ومخاضته الحداثية، لذا نجد أننا أمام أكثر من واقع، بل واقعيات متعددة ومختلفة تتحد وتتقاطع فيما بينها لتشكل حداثتها وخصوصيتها الفنية، وهو ما سنحاول اكتشافه في مسرحية (حمام النسوان) للكاتب علي لعبادي.
بداء من العنوان (حمام النسوان ) يضعنا الكاتب أمام واقعياتحاضرة قريبة لا تزال تتداول ثقافياً وفنياً، ليس على مستوى الفكري والاجتماعي فقط، بل حتى داخل المتون الأدبية والفنية والمسرح جزء من هذه المتون المهمة والمؤثرة. المكان (حمام) للنساء تتحرك وتتبادل الحديث في فضائه ثلاث شخصيات كما يقدمها الكاتب بطريقة فنية ورمزية جدلية لصنع الفارق الفني والدلالي، (الام، المرأة الثانية، المرأة الثالثة)، أمام كل امرأة إناء كبير فيه ماء، كل واحدة تسكب الماء على جسدها تزفر بآهات ملحنه. أن الوصول بالمتن إلى مستوى دلالي مؤثر، اعتمد الفعل اللغوي للحوار بين الشخصيات الثلاث على التداعي الحر للغة لرسم حالة من الحيرة والشك واليقين في وقت واحد.
الام: هذا الماء بارد.
المرأة الثانية : بارد جداً.
المرأة الثالثة : بل إنه دافئ.
الام: لا شيء في هذا الكون دافئ جداً.
وبما أن المسرح في عمقه الوجودي يشكل الحياة في صورتها الأكثر قوة وعنفا، لذا هو معارضة للسكون والموت والجهل والعجز والنفي، لذا كان الفعل الحركي داخل فضاءات المكان (الحمام) يأخذ شكل دائري مغلق بين الحمام بوصفه مكاننا للتخلص من النجاسات وتطهير الجسد، وهو ما ارتبط تاريخياً بذلك، فحركة سكب الماء على أجسادهن تدل على فعل الاغتسال من قذارة الواقع وفي وقت واحد، وبين أن يكون مكاناً للاعتراف من قسوة الواقع،للتخلص من كمية الحزن في قاع هذه الأجساد حيث جاء الاعتراف بعلاقة جدلية تعطي للمكان دلالات أعمق واوسع، فالجثة التي تخترق فضاء المكان برمزيتها تكسر حدوده الدلالية، فالحمام أصبح مكان لغسل الموتى، فجثة الابن الشاب حاضرة داخل المكان.
المرأة الثالثة : لنستثمر الوقت.
المرأة الثانية : الماء بدأ يبرد.
الام : هل أصبح مثل جثة ابني؟
تشكلت هذه العلاقة عبر تحولاتها من توليد وخلق حقل دلالي مختلف منح النص المسرحي عمقاً مجازياً ودلالياً عميقا تبرز أهميته في تجاوز الجزئي الضيق بالمطلق الشامل لتجنب الوقوع بالمباشرة الفجة للواقع (السائد) تتجلى هذه العلاقة في عنوان المسرحية كعتبة أولى للنص مروراً باختيار ثلاث شخصيات لما لرقم ثلاث من دلالات فنية وفكرية متجذرة في الواقع، وإنتهاء بالانقلاب على مفاهيم ذلك الواقع والتمرد على قوانينه.
الأمُّ : ( وهي مشغولةٌ بالاغتسالِ) ليس هناك متّسع للحضورِ، قد شارفَ اليومُ الأوّلُ من العزاءِ على الأنتهاءِ.
المرأةُ الثالثة : و ماذا عن طقوسِ الاغتسالِ ؟ هل ستبقيْنَ تغتسلينَ بالدّمِ؟ هذا الدّمُ نجسٌ؟
الأمّ : أيُّهما أنجس، القاتلُ أم دمُ المقتولِ؟ أنا لا أغتسلُ بهذا الدّمِ ، أنا أعانقُ ولدي من دمِه .
لذا كان اختيار الدم كفعل تطهيري مثله مثل الماء، هو انقلاب مفاهيمي عميق، وانزياح فني ونفسي،الهدف منه كسر القيود عن المسكوت عنه داخل واقع غير مكترث سوى بالسلطة والمال، واقع بات من المهم نقده وتفكيك مخرجاته التي يتعكز عليها حيث ارتبط كل شيء بالسؤال: (ومن قالَ أنّ الحروبَ تمزحُ معنا؟ ومن قالَ أنّ السكاكينَ لا تثملُ بغيرِ دمِنا ؟ ومن قالَ أنّنا على قيدِ الحياةِ؟ هذا الذي ترونَه ليس دماً بل بقايا لأناسٍ، ماتُوا بطرقٍ شتىً).