القوة الناعمة نموذج تنموي / حسام الدين مسعد

في الأول من شهر مارس المقبل ستنطلق فاعليات الدورة الثامنة من المهرجان المسرحي الدولي لشباب الجنوب، في محاولة من إدارته، ومؤسسه الناقد الفني”هيثم الهواري”، التأكيد علي رسالة التظاهرة المسرحية التي تتخذ من العروض التراثية، وعروض الموروث الشعبي مساراً للتسابق بين الفرق الدولية، والمحلية في محور عروض المسرحيات الكبري، لتنفي عنا رداء ثقافة المنقطع مع تراثه، وترسي ثقافة المتصل ما بعد حداثويا من خلال إستلهام التراث، والموروث الشعبي في محاولة لقراءة الواقع المتغير باستمرار، وخلق علاقة جديدة مع المتلقي الذي تستهدفه التظاهرة المتنقلة عام تلو الآخر، ومن مدينة الي أخري من مدن الجنوب، والعمق المصري (صعيد مصر ).

لا يتوفر وصف.

ومن ثم فإن فلسفة هذا المهرجان في انتخاب العروض المشاركة في دوراته تنطلق من تأكيد الإبداع محطمة في ذلك سطوة الحداثة من حيث، هي قرينة للشك، والتجريب، وحرية البحث والمغامرة في إكتشاف المجهول، وقبوله، إذ أن تحطيم القوالب المتحجرة الثابتة لمنظومات القيم البالية، لن يتأتي لنا إلا إذا تخلصنا من المبني القديم الإتباعي، وبواسطة آلة من داخل التراث نفسه، وفقا لرأي” د. جابر عصفور”، وفي هذا الهدم يجب التوكيد علي ما قاله الشاعر العربي”أدونيس” (من أن الحقيقة ليست في الذهن بل في التجربة ).

ـ إن الحقيقة التي أدركها “الهواري” وكتيبة عمله من الهياكل التنظيمية واللجان المختلفة في هذا العرس المسرحي الجنوبي، تكمن في كشف المستور من موروث المجتمع الصعيدي، ووضع هذا التراث في مناخ الأسئلة لإبراز الثابت القديم ونفيه، وتأكيد الإبداع من خلال التجربة التي تستقطب عروضاً دولية تحمل ثقافة خاصة لمجتمعاتها، كي ينصهر المتلقي المستهدف في بوتقة المهرجان مستوعباً لثقافات الآخر من خلال إستراتيجية بروكسيمية “هي العلاقة بين التجليات الثقافية المختلفة، والإهتمام بكل ماله علاقة بالقرب، او الجوار الصفتين المتلازمتين بالمكان، والزمان، ومن خلال المسافة الفاصلة بين طرفي العملية الإتصالية (الباث،والمستقبل) لتحديد العلاقة بين المتحاورين (نوع العاطفة-التأثير-الدرجات الإجتماعية- الطباع -انماط السلوك المختلفة)، تشجيعاً علي تغيير التقاليد، والإنصهار في بوتقة المجتمع الحديث، ودون التشرذم، وتحلل الروابط الإجتماعية، بين الفرد، والجماعة.

ـ إذا كانت الحداثة تفسر كل حدث إجتماعي، او ثقافي بمكانه علي محور التراث، فإن ما بعد الحداثة تفصل ما ارتبط، ومعني ذلك انه لم يعد للمجتمع أي وحدة، وبالتالي ليس هناك شخصية، أو لافتة إجتماعية، أو خطاب يحتكر المعني، وهذا يفسر حالة الفصام المرضية، والمتسارعة والتي يشهدها العالم من إزدياد نسبة الفقراء، وبعدهم تدريجيا عن الفئات التي تشارك في النظام الأقتصادي العالمي، وحالة الشك وفقدان اليقين التي اوصلت الإنسان في شكه في العقل، وسيادته، ورفضه ليقينية العلم التجريبي، لا الي الشك في الأمور الميتافيزيقية فقط، بل إلي الشك حتي في الحقائق العلمية القائمة علي التجريب والإختبار .

لا يتوفر وصف.

 

لا شك أن الخروج بتظاهرة مسرحية خارج وبعيدا عن أسوار العاصمة، وأضوائها البراقة مغامرة جديرة بالإحترام تسلط الضوء ذاتيا علي أقليم من أقاليم مصر المهمشة ثقافياً، ومسرحياً بفعل مركزية العاصمة التي أستحوذت قديماً علي كافة الفاعليات الفنية، والثقافية، ولقد كان إختيار مدينة “قنا”لدورتين متتاليتين، بعد أن حط المهرجان رحاله في مدن الأقصر، واسوان، واسيوط، إختيار بالغ التوفيق، يشير الي مبادرة ذاتية تنطلق من وعي محموم بدور القوة الناعمة للمسرح في مواجهة الظواهر الغريبة التي طرأت علي مجتمعنا المصري عن طريق بث الوعي الثقافي بين أفراده والذي تجلي في إتاحة مجموعة من الورش الفنية المتخصصة علي مدار دورات سبعة، تستهدف شباب الجنوب المصري، ويتولي تأطيرها مجموعة من المدربين الأكفاء، ليس فقط من أبناء مصر الأبرار، ولكن من شتي بقاع العالم، إذ كانت ثمار ذلك،حصد التفاعل الإجتماعي الإيجابي لسكان المدينة التي تنطلق التظاهرة فيها، بل كان نتيجة حتمية، ومباشرة في تزايد طلبات التطوع من الشباب، ومن المدن المختلفة غير المدينة التي تنطلق منها الدورة بغية الإشتراك في اللجان، والهياكل التنظيمية للمهرجان الذي كان علي وعي دام سبعة أعوام بالأستمرار والتآذر السلوكي الذي تجلي بمظاهره في المكتبة المتنقلة والمجانية التي استهدفت القري التابعة للمدينة، والتي كانت تحوي إصدارات كل دورة،وبعضاً من الكتب التي تخاطب الوعي الشبابي، وكذا عروض محور مسرح الشارع،والمواجهة،وعروض الحكي، والأراجوز،والتي استطاع المهرجان من خلالها اختراق القري واستهداف سكانها، وتكوين صداقات وروابط قوية استمرت مذ عقد دورته الأولي وحتي الآن، كنموذج ثقافي تنموي ينطلق حتماً من مشروع مجتمعي يهدف إلى بناء مجمتع حداثي ومتضامن، يسعي إلي ترويج منتوج ثقافي وفني لا يطغى عليه الطابع التجاري والإسفاف والضحالة، بل بعمل متأصل في الثرات والإبداع، المنفتح على أرقى ما يُنتج في العالم، من خلال تشجيع الطاقات والكفاءات الخلاقة التي يعُجّ بها الواقع المسرحي، فهذا التحديث الشامل يجعل من هاته الموارد البشرية، الدعامة الأولى للتقدم والتطور، ولا يمكن أن يتم هذا في ظل النماذج الحالية، والقديمة، بل بوضع اللبنة الأولي بإلقاء الضوء علي مثل هذه النماذج من التظاهرات الشبابية التي تسعي لتبصير وتثقيف المتلقي وتطرح النموذج الثقافي التنموي من خلال عرسها المسرحي الدولي الذي مازال يعاني من ندرة الموارد المالية،كما لا يحظي بالدعم الإعلامي الرسمي اللائق بدوره الهام في التنمية الثقافية المستدامة لبقعة هامة في العمق المصري.

لا يتوفر وصف.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت