لذة قراءة النص المسرحي / حسام الدين مسعد
قراءة في نص “إستقراطية” للكاتب العراقي عمار نعمة جابر
ـ لاشك أن شرط جواز مرور المسرحية، أن تكتب لتمثل، وليست لتقرأ، ويعود هذا لأنها تحمل أحداثاً مثيرة، ومشوقة للمتلقي، لشرعيتها في تطور صراعها السريع، والمنطقي كناموس الحياة، وهذا لا يعني أن النص المسرحي يستحيل علي القارئ بلوغ الأثر من قراءته، إذ أن تعددية القراءة النصية تأتي بفعل المواكبة حيث أن النص المسرحي ماهو إلا مقترح لمشروع لا يكتمل إلا بتنفيذه في شكل العرض المسرحي، وهنا ليس بالضرورة أن يكون المقترح مكتملاً، بل فيه ثمة فجوات، وفراغات تستوجب علي المشتغل المنوط ( مخرج العرض ) بتنفيذ هذا المقترح بملئها بما يناسب فرضية العرض التي تنفذ المشروع المقترح من قبل مؤلف هذا النص المسرحيّ، فلكل نص مبتدأ، ومنتهي، وليس مفاد ذلك أن ما يستشعر به قارئ ما من أثر قراءته لأحد النصوص،هو ما يغنمه قارئ ثان من النص نفسه،إنما قوانين التذوق الجمالي غير موحدة من ثقافة الي أخري، لأنها خاضعة لضوابط تاريخية بما يجعل الذائقة العامة متطورة علي الدوام من حقبة زمنية الي أخري.
– ومما لاشك فيه، أن أولي خطوات القراءة للنص المسرحي، تكمن في تحديد نوعه هل هو نص مسرحي طويل؟ تتعدد مشاهده، وفصوله، ويكتب في صفحات كثيرة، ام أنه نص مسرحي قصير؟ يتألف من فصل واحد، أو مشهد واحد، يكتب في صفحات قليلة.
-اعتقد أن الخطوة الثانية لقراءة النص المسرحي تتمثل في نوع القراءة التي ينتقيها القارئ بنفسه، فهل هي قراءة المتعة؟ ام أنها قراءة اللذة؟ فالقارئ هو من يحدد مبتغاه من القراءة، فالقراءة التي يطلب صاحبها مخالفة النظم الجمالية السائدة، والمحمول الإيديولوجي الذي تنطوي عليه، مقتصراً همتها علي استقراء سطحي ظاهري للنص، هي “قراءة المتعة”، أما القراءة التي تخالف القناعات الجمالية، والإيدلوجية مزعزعة لها، من خلال الإنعتاق والتمييز، والتجاوز وبناء الكيان علي النحو المشتهي، الذي يهدف إلي استقراء عميق للبنية الدلالية، هي”قراءة اللذة”، فالقراءة في أبسط مفاهيمها تعني المعالجة “معالجة النص”، اي أننا بصدد عملية اقتحام لعوالم النص، بغية انتاج المعني، ومن خلال تلك اللحظة التي نستجلي فيها المعني انطلاقاً من المبني، او اللحظة التي تعيد بناء أفق الإستشراف لدينا كقراء، نضع النص المقرؤ جواباً علي سؤالنا في زمن إنشائه، وتدخل في الاعتبار صياغة المقروء كذلك، ونوعية المكتوب، وما هي الوظيفة التي هو مرصود لتأديتها، وهل كُتب بالكيفية التي تلائمها، وما هي الكيفية التي تلائم كل وظيفة من وظائف المكتوب؟.
ومن ثم يتمثل دور القارئ في تنشيط الحوار الخلاق مع النص من أجل تطوير فن القراءة، وفن الكتابة معا، والقارئ الإيجابي، أوالقارئ الفعَّال، مشروط طبعا بشروط ثقافية ومعرفية تسمح له بتحريك آليات النص وتجاوز إكراهاته.
– الكاتب العراقي “عمار نعمة جابر” يتميز في كتابة النص المسرحي القصير، والذي يماثل في السرد الأدبي النص القصصي القصير، ويعتمد علي علي الحوار أو الفعل الدرامي الذي تتميز لغته الحداثية بحواريتها الدلالية، والإحالية، والرمزية، والسيمائية المتعددة، والتي تنسج علاقات تفاعلية، وتناصية متعددة، مع باقي بنيات النص، فهو نموذج أدبي، لغوي،أولساني بالدرجة الأولى لكنه من التكثيف والتشويش الخارق الي حقيقة ما وراء الكلام، فغياب الحدث وقيامه علي الفعل الفردي، أو بضعة أفعال مركزة، وتفاصيل قليلة، وشخصيات محدودة، لا تزيد عن أربعة، أو خمسة شخصيات وذروة قريبة من النهاية، وخوضه في صراع مركزي واحد دون تغيير في المناظر المسرحية، ابرز ما يميز النص القصير بوحدة الآثر العام . – يستهل “عمار” نصه المسرحي القصير الموسوم “إستقراطية” بتحليل المقاطع الصوتية لهذا العنوان الي مقطعين كل مقطع منهما مكون من كلمة لها مرادف لغوي، فكلمة “إست” مفردة عربية مرادفها “المؤخرة”، اما كلمة” كراتوس” فهي مفردة أعجمية يونانية تعني “الحكم”، والمزج بين العربي، والأعجمي إشارة للتعميم، وليست للتخصيص، ليصير المعني في عنوان هذا النص هو (حكم المؤخرة)، وهذا العنوان لا يستطيع أن يبني القارئ من خلاله أفق توقعه للنص وللموضوع الذي يناقشه، إذ أن مفردة “المؤخرة” بإقترانها بكلمة حكم، قد تشير الي معانٍ متعددة، لذا فإن معني المؤخرة في عنوان النص، لا يرتكز علي المعني الحقيقي، والموجود بالواقع المادي الذي نحياه والذي يعني(العَجُز)، وأصلها السَّتَهُ، بل تكتسب معناها من اختلافها عن كلمة (العقل)، الباعث علي التفكير، والتأمل، والغائب في نص العنوان، وهذا يساعد المتلقي القارئ علي التحرر من طغيان الحضور، والبدأ بملاحظة التناقضات والطرق المسدودة في النص، فكل شيء يوجد في المغايرة والتأجيل وسلسلة الاختلافات، وهذه الاختلافات ما تعني، أن معنى أي شيء نقوله دائماً مؤجَّل لأنه يعتمد على ما سنضيفه، والأمر الذي سنضيفه يعتمد معناه على ما سنضيفه لاحقاً ؛ وهكذا، ثم إن أي كلمة نقولها يعتمد معناها على الأمور الأخرى التي لا تعنيها أيضا،أي أن النص يخلق واقعه ويفرض نفسه ويُكوِّن مجاله.
-إذا شرعنا في قراءة حوار النص المسرحي القصير، الذي هو المادة الخام التي تبتني منه المسرحية عند “عمار” الذي لا يعمد عادة الي الإرشادات النصية بين القوسين، سنجد أنه في هذا النص عمد الي ارشادات نصية تشرح للقارئ وضعية صورية للواقع الجسدي لشخصياته في فضاء المسرح كالتالي،[ تحت بقعة ضوء يسجد أحدهم علي الأرض، ومؤخرته للجمهور ]،[يرفع رأسه لحظة ثم يعود للسجود]،[ يأتي رجل 2 يرى رجل1 ساجدا، يكبر واقفا، ثم يسجد خلف رجل 1]،[ يدخل رجل 3 ، يجد الرجلين ساجدين، يكبر واقفا، ثم يسجد معهم] يدخل رجل 4 ، يشاهد الرجال الثلاثة ساجدين، يقف، يكبر، يسجد معهم]، [يسجد رجل2،ورجل 3،ورجل 4]،[يجلس، ينظر الى الرجال وهم يلصقون رؤوسهم بالأرض بقوة]،[ينهض رجل 1 ، ثم يغادر المكان، يبقى رجل 2 ورجل 3 ورجل 4 ساجدين بصمت].
-بهاته الإرشادات نلاحظ أن الكاتب صاغ نصه من أربعة شخصيات، وخلق نصاً صورياً موازياً للحوار من خلال الإرشادات النصية التي تشيرالي الزمكانية التي تؤكد علي أن الحدث الدرامي حاضراً يشكل لحظة ثابتة في الزمن، رغم تجهيل المكان، وعدم ذكر تفاصيله في إشارة إستهلالية الي واقع فانتازي يتناول الواقع الحياتي لمجتمع المؤلف من رؤية غير مألوفة، وهذا ليس بجديد علي “عمار” الذي يمتلك خيال جامح متحرر من قيود المنطق، فيثير مخيلة المتلقي القارئ بأحداث ما ورائية تخلق علاقة بين الأخير وبين المتن الحكائي، فتنعكس ذات المؤلف بدوافعها الشخصية للتعبير الجمالي في اختيار الألفاظ، والجمل، والتراكيب الدلالية خالقة لنظام حجاجي ديالكتيكي تنفذ منه القيم والأفكار والمشاعر التي تعبر عنها شخصيات النص بإقتدار، إذ يصف الحالة النفسية لشخصية الرجل الساجد ومؤخرته في مقابلة الجمهور بألفاظ، وجمل تتجلي فيها العلاقة الديالكتيكية بين النص،والمتلقي،[ رجل١:لست ساجداً لأحد،كل الذي يجري معي، انني احاول إفراغ جمجمتي، افرغها من بقايا الآخرين الذين لوثوها حتي التخمة ]
إن عملية التفريغ التي يشير إليها عمار لا تحدث في الجمجمة الحاضرة في حواره، ولكنها تحدث في المعدة الغائبة عن طريق التغوط بإخراج الفضلات من القولون، لكن نفي السجود لأحد يشير إلي أن رجل1 شخص لا ديني، متحرر من كافة انساق السلطة التي تسعي إلي إذلاله وقيد حريته عبر ايدلوجياتها التي تمثل الوصاية المجتمعية في الدروس، والنصائح، والعيب، والحرام، والتي أصبحت كروث تم حشوه في عقل رجل1 لسنين طويلة مما جعله يغلق فمه حتي لا يحشرون فيه المزيد، ويصبح نسخة مما ارادوه له أن يكون علي مذهبهم .
شخصية رجل2 التي تستمع الي حوار رجل 1، والمعتقدة أن هذا الرجل الساجد هو إمام الصلاة عند المسلمين،لكنه يقول في سجوده شيئا آخر غيرهم، فيثير فضوله لطرح السؤال غير المنطقي [وهل الصلاة مقبولة خلفك؟ ] ليجيبه رجل1 أنه لا يصلي،بل يسمو ويتطهر،إن “عمار” يناقش من خلال حواره فكرة التدنيس، والتقديس مستبدلاً الوصف الأخلاقي، والديني الي الرائع في المشوه، والمشوه في الرائع، فبدلاً من تسبيح الخالق عند السجود، يقول[ رجل1:الدم في جسدي يتدفق بشدة الى رأسي، يضغط عليه، ولكن بالمقابل، مؤخرتي، هناك في الاعلى، تتنفس بحرية، بعد ان تخلصت من ضغط الجلوس بأدب، كما يرغبون.]، يقطعه رجل2 بصوت عال [سبحان ربي الأعلي]، لكن رجل1 مستمر [هذا زمن تحكمه المؤخرات،… ] إن عمار يؤكد من خلال شخصية رجل1 أن العصر الذي نحياه هو عصر المؤخرات الذي لا خوف فيه لأننا لم نسمع عن مؤخرة تم قطعها من قبل لأن المؤخرات لا تحمل فكراً يناهض السلطة، ولأن الأخيرة اعتادت علي أن يتم التصديق علي أكاذيبها، فالصلاة التي تؤدي مناسكها من شخصيات النص، ليست الصلاة التي نقوم بطقوسها، بل هي صلاة أخري كماوردت في حوار [رجل 4: وما اسم هذه الصلاة، صلاة الشارع، ام صلاة الهواء الطلق، أم صلاة أبناء الليل؟]، والذي يعود في حواره ليخبرنا [ كل العالم يتغير، ما لذي يُبقي الصلاة على حالها ..]، رغم ما عمد إليه عمار من تناصات مع القصص القرآني في صورة اهل الكهف، للتعبير عن الكهف الذي تحيا فيه شخصيات نصه كالكلب الواصد ذراعيه، تعبيراً عن حالة شخصياته التي لا تستطيع تجاوز الحدود بالتفكير والتأمل وكأنها أشبه بكلاب راقدة علي ذراعيها لا تبتغي التغيير ثم يعود رجل1 يحدثنا عن المؤخرات، واستخدامها لأغراض نفعية تضع أصحابها في مناصب رفيعة بهذا العالم، وعلي سدة الحكم، ليكتشف القارئ إن “عمار” يتناول الواقع العالمي برؤية غير مألوفة من خلال مناقشة فكرة التدنيس، والتقديس، ومفهوم الحرية المطلقة للتشكيك في حقيقة الواقع المادي الذي نحياه، والذي أصبح الشاذ فيه محل المثالي، فأصبح للمثليين حقوق، ويعترف بزواجهم، ووجودهم في مجتمعاتنا، فأصبح المشوه في الرائع تلك العلاقة الروحانية في طقس الصلاة، ليجد القارئ نفسه تتلذذ بقراءة النص الذي اتسق عنوانه مع الغايات الدلالية منه ليبلغ القارئ المعني الذي أورده “عمار” في حوار رجل1 [إياكم أن تتركوا المؤخرات في الأعلى الى الابد]