مسرح فاسيلييف من المختبر الى الدير / الدكتور فاضل الجاف
اعاد عرض مسرحية “رثاء ارميا” للمخرج فاسيلييف عام 1996 طقوس المسرح الديني الى فضاء المسرح المعاصر في بهائه الكنسي. وانا اشاهد العرض في ستوكهولم، كنت و كأني جالس في احد اديرة القرون الوسطى اشاهد خاشعا عرضا من عروض مسرحيات الاسرار.
كأن الممثلون افراد جوقة او كورس كنسي يعيشون طقسا دينيا عميقا، وليسوا بمشخصين لادوار مسرحية. قبل مشاهدة هذا العرض في جولة الفرقة الى ستوكهولم ومسارح اوربية اخرى، كنت قد تابعت كتابات نقدية و صحفية عديدة عنه، اعدت النظر ثانية في معنى المسرح المقدس بالمفهوم الذي طرحه بيتر بروك في كتابه المرجعي” المساحة الفارغة.”
ما هي القداسة في المسرح؟ سؤال عميق يتعلق بجوهر المسرح، يطرحه بروك في نهاية الفصل، والسؤال ذاته كان يشغلني بعمق.
ويمضي بروك في تساؤلاته: كيف يتمّ التعبير عن القداسة؟
سواء عند آرتو أو عند كروتوفسكي يرى بروك أن مهمة المسرح المقدس تكمن في جعل اللامرئي مرئيا. وفي ختام الفصل المخصص للمسرح المقدس يتوصل الى قناعة مفادها ان: اليوم وقد عرفنا الزيف وعريناه وعرضناه، لكننا نعيد اكتشاف حقيقة أننا مازلنا بحاجة الى المسرح المقدس. اين نبحث عنه اذن … أفي الارض نجده ام بين السحب؟ مازلنا بحاجة الى مسرح مقدس.
تبدأ تجربة فاسيلييف المختبرية في تكوين نفسه ممثلا على يد كنيبل اولا، كنيبيل المدربة المسرحية والمربية القديرة، التلميذة اللامعة للمربي الكبير ستانيسلافسكي، اشتهرت ببراعتها وتعمقها في فهم و اتقان تقنية “سلسلة الافعال الجسدية” التي تشكل الحجر الاساس في تكوين الممثل والمخرج في منهج ستانيسلافسكي.
ويمكن القول بان كنيبيل طورت تقنية الافعال الجسدية لستانيسلافسكي، بل وأضافت إليها أبعادا عملية وتطبيقية جديدة، ثم سمتها “تحليل الفعل”, وكانت كنيبيل تدرس طلابها في معهد الدولة للفنون المسرحية بموسكو منهج ستانيسلافسكي. ويرى الباحثون ان كنيبيل كانت قد وضعت بصمتها على المنهج و مضت تطبقها بخصوصية مربية وفية للمنهج و مدربة قديرة في واحد من أهم معاهد العالم في تدريب الممثل” معهد غيتس” بموسكو.
المخرج فاسيلييف
أما فاسيلييف، فهو يجمع الى جانب موهبته في التمثيل والإخراج، مقدرة أكاديمية كبيرة، تنعكس في طروحاته وكتاباته النظرية وفي التعبير عن نفسه و الحديث بدقة متناهية عن رؤيته الفنية والجمالية في الحياة والمسرح معا. فهو يحلل أعماله الإخراجية في صياغات فكرية دقيقة، مساهما مساهمة فاعلة في تكوين ممثليه كمخرج ومدرب ومربي. فاشتغاله المختبري تذكرنا في بعض من جوانبه بمختبر كروتوفسكي، إلا أن مختبر فاسيلييف أقرب الى دير تمارس فيه الطقوس، بل وكأن المختبر عنده فضاء للعبادة، أكثر من كونه مختبرا خاصا بفنون المسرح فقط، وقد استعار من زميله البولوني” كروتوفسكي” تعبير ” المسرح العمودي” فيما يخص طقسية المسرح و فحواه الروحي و جوهره الديني.
ويؤكد النقاد من متتبعي أعمال فاسيلييف ومسيرته الفنية الى أهمية انطلاقاته من مسرح تاغانكا الشهير بإدارة المخرج” يوري لوبيموف” في موسكو، وقد ذاعت شهرته كمخرج لامع بعد عرض مسرحية ” سيركاو” عام 1985، بعد ان استغرقت التدريبات والأبحاث المختبرية مع تلامذته ثلاث سنوات.
ويرى النقاد “أن ذلك العرض كان بمثابة تطور نوعي ونقطة تحوَل هام في محاولات فاسيلييف للتخلي عن منهج الواقعية النفسية.
ولعل تعامل فاسيلييف مع الفضاء والعلاقة الفيزيائية بين الممثل والمتلقي في خضم الطقس المسرحي أهم نقطة في العرض. فتناول فاسيلييف للفضاء غير مألوف، كان الفضاء يمثل منزلا مستطيل الشكل ينحدر الى الاسفل نحو الخلفية موحيا بدير قديم، أما المتفرجون فكانوا يشاهدون الممثلين من خلال نوافذ جدران المنزل. وكان العرض يجري في إنارة فيضية شديدة الكثافة، والممثلون يجلسون ويقرأون ويتحدثون ويضحكون من دون عناء عاطفي أو جهود مضنية. بعد نجاح العرض بدأت الفرقة بجولة فنية في أوروبا استغرقت زهاء عامين. والمعروف عن فاسيلييف استخدامه نظام الايتودات في تدريب ممثليه، بهدف تحقيق الخفة و المرونة في الاداء، ومن أجل بلوغ حالة من الاسترخاء الذهني والجسدي.
وقد تحقق لفاسيلييف في عرض “سيركاو” ذلك النوع من الخفة التي قد لانجدها في ممثلي الواقعية النفسية. وتجدر الاشارة الى ان المعهد المسرحي في موسكو” غيتس” مهد ارضية خصبة لتجارب فاسيلييف المختبرية مع طلابه، وكان في سعيه الدؤوب في المسرح يبحث عن، كما يقول الناقد الروسي “اناتولي سميلينكسي” فهم علاقته بنفسه.
وقد تحقق له ذلك بصورة افضل إبان عمله الدؤوب على اخراج مسرحية “ست شخصيات تبحث عن المؤلف” للكاتب الايطالي لويجي بيراندللو. خلال تدريبات فاسيلييف الطويلة على المسرحية تحقق له اسلوب العمل المختبري المتسم بطقسية الدير تماما، حيث دامت التدريبات من عام 1987 الى 1991 على شكل ايتودات و طقوس مقدسة فامتزج المختبر المسرحي التدريبي بطقوس واجوائه القدسية.
وفي العرض كان اداء الممثلين يتسم بالحيوية و البساطة والخفة في سياق تركيبات فنية مؤثرة.
لعبت التركيبات المرسومة بدقة متناهية و بإيقاع منتظم تأثيرا فعالا على حيوية تلقي الجمهور للعرض ذهنيا وروحيا. ويؤكد المخرج مرارا على أهمية التركيب الفني في العمل المسرحي، وهو يرى بأن التركيب لا ينبغي ان يكون مطابقا لتركيبات الواقع، بل ينبغي ان يكون مطابقا لشروط تكوين التركيبات الفنية ذاتها، وبتعبير آخر: ان الممثلين على علم مسبق بانهم يمثلون تركيبات عبارة عن قطع فنية، وليست نماذج منقولة من الحياة.
أما بخصوص عمل المخرج ودوره في العرض المسرحي: فهو يرى بان عملية الإبداع تسير على مستويين: الاول يتعلق بالحياة الداخلية للشخصية، والثاني يتعلق بحياتها الخارجية. والاثنان يتفاعلان معا. ان مهمة المخرج تتمثل في اكتشاف ماهو مستور ولامرئي في النص. فهو يزيح النقاب عنه. ومثل ذلك كمثل اوراق الشجر التي تتسرب من خلالها اشعة الشمس. ثم ينقل المخرج كل هذه الخصوصيات غير المرئية الى الممثل، ويتوقف كيفية تمثيل كل ذلك على الممثل نفسه، وعلى صنعته. ولكن لو امتلك الممثل فكرة اخرى، فليتبعها.
في ” رثاء ارميا” تبلغ المعالجة الاخراجية اوجها في الاسلبة بطابعها الديني، فطقوسها توحي لنا بالمسرحيات الكنسية في القرون الوسطى، اما طابعها المؤسلب مسرحيا، فيذكرنا ببعض أعمال ميتيرلنك، خصوصا مسرحيته الشهيرة” الكاهنة بياتريس” والتي قدمها مييرهولد في مسرح كوميسارجيفساكايا عام 1906 في عرض غاية في الشرطية والاسلبة، تماما على منوال المسرحيات الدينية.
الممثلون في ” رثاء ارميا” مثلهم كمثل كهان في دير، فهم يدخلون في عباءات سوداء بغطاءات تغطي رؤوسهم مؤدين ادوارهم جماعيا في شكل اناشيد وتراتيل وبإلقاء طقسي كنسي مؤثر. ان المخرج، كما يقول الناقد سميليانسكي، كان يبتكر ما سماه ميخائيل تشيخوف بالجوهر الموسيقي لأجواء المسرحية، من خلال هذا الجوهر كان الجمهور يبصر واقعا اخر. فاناشيد المسرحية لم تؤد من قبل الممثلين، بل من قبل رهبان حقيقين. وكان سينوغرافيا العرض من تصميم فاسيلييف نفسه.
كانت فترات الصمت تخلق لغة بحد ذاتها، الصمت كان ناطقا بفصاحةفي عرض” رثاء ارميا”، وكانت كل وقفة صمت توحي برهبة دير قديم يعمها كورس من رجال في سواد و باغطية سوداء تغطي رؤوسهم.
وفي نفس الوقت كان الجو العام في العرض يوحي من خلال الاناشيد والتراتيل الكنسية باجواء كاتدرائية روسية بفنائها الفسيح، من القرون الوسطى. حتى ان فاسلييف لم يتوان عن استخدام طيور” حمامات بيضاء” في تلك الساحة.
ويدخل اعضاء الجوقة منذ بدأ العرض ليبدأو باشعال مئات من الشموع المثبة على الجدران وهم ينشدون رثاء ارميا. واثناء العرض يغير افراد الجوقة ملابسهم من ملابس سوداء الى ملابس بيضاء ثم الى ملابس زرقاء.
انه حقا مسرح طقس وعبادة وليس مسرحا تقليديا مألوفا.
مسرح فاسيلييف ينجح في ان يجعل اللامرئي مرئيا بحسب تعبير بيتر بروك، وهو مسرح يخاطب الروح قبل الذهن ويقنعنا باننا مازلنا بحاجة الى مسرح مقدس.
المصـــادر:
1/ الاستشهادات مقتبسة من كتاب الاخراج المسرحي، كريستوفر اينيس و ماريا شيفستوفا Theatre Directing: Christopher Innes and Maria Shevstova The Russian Theatre after Stanlin: Anatoly Smelinsky 2