عروض أيَّام الشَّارقة المسرحيَّة الدَّورة (33)… حداثيَّة الطَّرح… ورؤى مُغايرة عن الواقع / د. عزة القصابي
كدأب أيَّام الشَّارقة المسرحيَّة، فإنَّها تفاجئنا بجماليات المحتوى المسرحيّ الإماراتيّ وتنوُّعه، وتكشف عن المواهب الفنِّيَّة، وتقدِّم وجوهًا شابةً جديدةً، مُحبةً لخشبة المسرح. لقد حرصت أيام الشَّارقة المسرحيَّة في دورتها (33) على تكريم الفنَّان الإماراتيّ والخليجيّ على حدٍ سواء، فقد مُنحت (جائزة الشَّارقة للإبداع المسرحيّ العربيّ) للفنَّانة العُمانية فخرية خميس؛ حيث جاءت الجائزة لتكريم مسيرتها الإبداعيَّة، كما كُرِّم في هذه الدورة الفنَّان الإماراتي عبدالله راشد بـ (جائزة الشخصيَّة المحليَّة المكرَّمة). وفي هذه الدورة أيضًا، نالت فرقة فوانيس المسرحيَّة (جائزة الشِّيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لأفضل عمل مسرحيّ عربيّ 2023)، والتي فازت خلال مهرجان الهيئة العربيَّة للمسرح بأفضل عرض مسرحي، الذي كان بعنوان (تكنزا…قصَّة تودة).
وانطلقت فعاليَّات الأيَّام بمشاركة عددٍ من العروض المسرحيَّة، حيث قُدِّمت مسرحيَّة (إسكان) لفرقة مسرح رأس الخيمة، ومسرحيَّة (مرود كحل) لجمعيَّة دبا للثَّقافة والفنون والمسرح، ومسرحيَّة (اصطياد) لجمعيَّة دبا الحصن للثَّقافة والتُّراث والمسرح، ومسرحيَّة (وليمة عيد) لفرقة المسرح الحديث بالشَّارقة، ومسرحيَّة (الطَّارق الأخير) لفرقة مسرح دبي الوطنيّ، ومسرحيَّة (المشهد صفر) لفرقة مسرح خورفكان للفنون، ومسرحية (كيف نسامحنا؟!..) لفرقة مسرح الشَّارقة الوطنيّ.
فضلًا عن إتاحة الفرصة للمشاركة بعرضَيْن مسرحيَّيْن من خارج المسابقة، هما: (زغرودة) لجمعيَّة كلباء للفنون الشَّعبية والمسرح، و(رماد) لفرقة مسرح الفجيرة، واستضافة عرضّيْن من الدَّورة العاشرة لمهرجان كلباء للمسرحيَّات القصيرة، هما: (الكراسي) للمخرج حميد محمد، و (الخيار الأخير) للمخرج عبدالله آل علي.
وسوف نرصُد الخصائص العامَّة للقضايا والموضوعات لعروض الأيَّام المسرحيَّة الدورة (33)، والتي اتَّسمت بتناولها موضوعاتٍ إنسانيَّة وأُخرى متَّصلة بالحياة الاجتماعيَّة، وسَاهَمَ ذلك في إنتاج عروضٍ مسرحيَّةٍ سخَّرَت الفعل المسرحيّ والتِّقنيَّة لإبداعِ عروضٍ بصريَّة احتفتْ بالصُّورة أكثر من الكلمة. واستثمرت الفضاء المسرحيّ لصُنْعِ صُوَرٍ بصريَّةٍ تقوم على التجديد، وتقدِّم فُرْجَة طقسيَّة تعتمد على الارتقاء بمكوِّنات العرض وفق معايير فنِّيَّة وجماليَّة حديثة، ساهمت في تقديم تجارب مسرحيَّةٍ حداثيَّةٍ ترتبط بالموروث الشَّعبي والقضايا الإنسانيَّة والفلسفيَّة، وهي أيضًا لا تخلو من المغامرة والابتعاد عن المألوف والتَّمرُّد. ويُمكن إجمال هذه الخصائص في العروض المسرحيَّة المشارِكة، كالتَّالي:
أولًا: مسرحيَّات ذات طابعٍ حداثيّ …تبحث عن الذَّات… وسط فوضى الحياة
1- مسرحيَّة (الكراسي): للكاتب العالمي يوجين يونسكو، وإخراج حميد محمد… إنَّ إخراج مثل هذه المسرحيَّة ليس بالأمر الهيِّن، وكانت مغامرةً من المخرج حميد محمد؛ للبحث عن ذات الإنسان المعاصر في النَّص المكتوب منذ قرون مضت… وظهرت منذ بداية المَشاهد شخصيتا الزوجَيْن العجوزَيْن اللَّذين كانا ينتظران المدعوين، بينما الكراسي ظلَّت خاوية!! لا أحد يجلس عليها، بينما العجوزان استمرا ينتظران… ولكن لم يحضر أحد!.. وظلَّت الكراسي خاوية.
سادت في العرض عبثيَّة الطَّرح وتكرار العبارات، والتفوُّه بحواراتٍ غير مفهومةٍ؛ فالزوجان يجلسان في بيتهما ينتظران المدعوين الذين لم ولن يأتوا!.. وهكذا استمرت الحلقة في سرد أحداثٍ تدور في الموضوع نفسه، بينما غاب الحدث والحبكة في المسرحيَّة… مما جعل الأحداث تبدو غير منطقيَّة.
أشخاص وهميون تخيَّلهما الزوجان بأنَّهما موجودون، مع تكرار المشهد نفسه، برتابة وقتامة الواقع… حيث سادت الكآبة والسوداويَّة في حياتهما…كما قام المخرج بتوظيف التِّقنيَّة في العرض المسرحيّ الذي جاء أقرب إلى المَشاهد السينمائيَّة، إضافةً إلى توليد ظلالٍ لأطياف المدعوين الذين ظلوا مجرد أوهامٍ تُسيطر على ذاكرة الزوجَيْن. وأسهمت المؤثِّرات البصريَّة والإضاءة في تجسيد خيال والأوهام التي يشعر بها الزوجان، خصوصًا عندما يتخيَّلان بأن هناك ضيوفًا معهما في المنزل!
أبدع الممثلان راشد المعيني وميرة المهيري، في دورَيْ الزوجَيْن العجوزَيْن، واللذان استطاعا استشعار الحالة العبثيَّة التي يعيشاها، وأنَّهما مجرد أصداءٍ للماضي، وكذلك ضيوفهما /المدعوون… حتَّى عندما يذكران أسماءً لشخصيَّاتٍ معروفة وهي أيضًا غير موجودة… كما أنَّهما استطاعا تجسيد الحالة التي يعيشان فيها بصورةٍ عبثيَّةٍ، مكرَّرةٍ، ورتيبةٍ… حتَّى وصولهما لمرحلة الانتحار والتخلُّص من هذا العالم… الذي يعيشان فيه منذ زمن!
وأسهمت السينوغرافيا في تقمُّص شخصيَّة (العجوزَيْن) اللذين ظلَّا أسيرَيْن لأوهامهما، وعاشا وحيدَيْن منذ زمن… وانتهت قصَّتهما العبثيَّة بالموت، وهذه من سمات مسرح (العبث)، المُتَّشح بالموت والحروب والدَّمار.. التي هي من مقومات نشأة هذا المسرح، الذي كانت انطلاقته خلال الحرب العالميَّة… التي نتجت عنها مشاهد رعبٍ، موجعة… عندما نشاهد تكدُّس الجثث، وانتشار رائحة الموتى، لذلك مال الكُتَّاب إلى الانزواء إلى عالم اللاوعي والأحلام والأوهام؛ هربًا من الواقع الصَّعب المتدثِّر بالحزن والكآبة والموت!
2- مسرحيَّة (زغرودة) التي تنصَّلت من الحوارات السَّرديَّة، وعبَّرت عن رسالتها بالإيماءات والزغاريد والإشارات غير المباشرة؛ كوسيلةٍ للتعبير عن مضامين المسرحيَّة، و جاء العرض أقرب لمسرح الصورة، الذي يعتمد على التمثيل الصَّامت والأداء الحركيّ والمؤثرات الصَّوتيَّة والضوئيَّة، وهو من تأليف علي جمال، وسينوغرافيا وإخراج عبدالرحمن الملا، لجمعيَّة كلباء للفنون الشَّعبيَّة والمسرح.
(زغرودة) عرض الحركة والاستعراض، أراد أنْ يقدِّم رؤيةً حداثيَّةً تتنصَّل من الكلمة المنطوقة. لذلك كان الأداء الجسديّ للممثِّل حاضرًا، و الاستعراضي بواسطة (الكورس) الذي كان يتمسرح، مُستخدمًا لغة الإشارة، الجسد والزغاريد… وترتبط “الزغرودة” في الخليج والوطن العربي بالمناسبات السَّعيدة، مثل حفل الزواج، نجاح الأبناء في الدراسة، أعياد الميلاد، تميُّز شخصٍ في حقلٍ معيَّن… وغالبًا ما يرافقها صوت الزغاريد النسائيَّة.
رافق الأداء التمثيليُّ عدد من المُفارقات والمواقف الكوميديَّة الضاحكة، بعضها عبارة عن مقالب فكاهيَّة بسيطة، لا تتعدَّى القيام ببعض الحركات الاستعراضيَّة بواسطة المجاميع، الذين كانوا يمثِّلون ويتراقصون على الأنغام الشعبيَّة. والبعض الآخر تمثَّل في الأداء المرتبط بالقصَّة أو الموضوع، علاقة الزوج بزوجته، والذي سرعان ما يتحوَّل إلى موضوع عام… بعد تفشي الوباء بين أهالي القرية، الذين سرعان ما يهرعون لتناول عقارٍ للشِّفاء من وباء كورونا الذي أصاب العالم، مما جعل العرض يقترب من الكوميديا السوداء!
وبعد إصابة “الرَّجل” وُضِعَ في حجزٍ انفراديٍّ بعيدًا عن الآخرين، وظهر وكأنَّه مصلوب في هيكل خشبي… وتكرَّر ذلك المشهد عندما أُصيب الآخرون بالمرض نفسه، كما شهد العرض تقديم سينوغرافيا بصريَّة شملت الديكور الذي كان (الكومبارس) التمثيليّ والاستعراضيّ ضليعًا في رسم ملامحه، حيث كانت المجاميع تتشكَّل… وتتراقص على الألحان الشعبيَّة… وظهرت امرأة وهي تدق الحبوب بالهاون وسط الأكواخ وخيام الحي.
اعتمدت الموسيقى في العرض على “الزغاريد” على اعتبار أنَّها الهُويَّة المُعبِّرة عن العرض، الذي تأرجحت مفرداته الثَّقافيَّة بين القرية وأهلها البسطاء، والوباء المعدي المستجد عليهم، الذي أصاب النَّاس بـ”فوبيا”. استمرار مشهديه التراجيك/ كوميدي جعل المخرج يُطيل زمن المسرحيَّة، مع تكرار المشاهد التي تصف مأساة أهل القرية بطريقة مُضحكة/ مُبكية، مع تعدد النهايات التي تُخبرُنا أنَّ الفيروس انتشر في القرية…
3- مسرحيَّة (رماد): من تأليف عبد الأمير شمخي وإخراج سعيد الهرش لهيئة الفجيرة للثَّقافة والإعلام… هذه المسرحيَّة من بطولة عبدالحميد البلوشي ومحمد اللافي وأحمد طارق وأحمد الكندي وجوان الكندي ونور الهدى… وأحمد عبدالله راشد… وغيرهم. تظهر شخصيَّات المسرحيَّة، تبحث عن ذاتها، تحاور ذاتها، وتؤنِّب نفسها على الماضي…كما أنَّ باقي الشخصيَّات عاشت رحلة البحث عن الذَّات مُرتديةً اللون الأسود؛ وكأنَّها ظلال للشَّخصيَّة المحوريَّة.
ويسرد الجميع ذكريات الشَّخصيَّة المحوريَّة، ثم يطلبون الاعتذار عما ارتكبه في الماضي!.. وتوجيه الاتِّهامات إليه؛ لأنَّه ارتكب أخطاءً بحق زوجته وابنته التي كانت تترجاه وتطلب المساعدة… وسرعان ما تظهر الابنة، تعاتب أبيها… وبدت وكأنَّها أصداء لماضي الرجل، وتعاتبه على أفعاله.
اتَّشح الفضاء المسرحيّ باللَّون الأسود، وظهرت الشَّخصيَّة المحوريَّة تتوسَّط خشبة المسرح، فيما أدَّت “الإضاءة” دورًا في تحليل نفسيَّات الرِّجال على خشبة المسرح، وكانوا يظهرون حسب المواقف التي مضت في حياة بطل العرض، وتطلب منه مراجعة نفسه والاعتذار عن الأخطاء السَّابقة. وتخلل “الإضاءة الزرقاء” الكشف عن حياة بطل العرض، ليتَّضح لنا بأنَّه ترك أقرباءه ليغرقوا ويهلكوا في زوارق الموت والهجرة للمجهول.
ظلَّ الحدث يتكشَّف بصورة جماليَّة، وسط الضَّباب والدُّخان، فيما كانت الشَّخصيَّات الثانويَّة تتسلَّل للتحدُّث عن ذاتها، وتؤكد “تعبيريَّة الأحداث” التي ظلَّت تلتف حول لاوعي الرَّجل، الذي ظهر وكأنَّه غير قادرٍ على الانسلاخ من ماضيه، وذاكرته وخيالاته.
دونما شك، أنَّ الإضاءة والمؤثِّرات الصَّوتيَّة والموسيقيَّة كانت عاملًا مهمَّا لإيضاح أبعاد الرَّجل، فيما كانت بقية الشَّخصيَّات أصداءً لماضيه، وغلبت على المنصَّة الألوان القاتمة؛ للدَّلالة على سوداويَّة حياة (الرَّجل). وعانت المسرحيَّة من سردية الحوار الذاتي الذي جاء أقرب إلى (المنولوج) الحواريّ المُعبِّر عن سيرة الأبعاد الاجتماعيَّة والنفسيَّة لحياة الرَّجل.
4- عرض مسرحيَّة (وليمة عيد): من تأليف يوسف مسلم، وإخراج إبراهيم سالم، لفرقة جمعيَّة الشَّارقة للفنون الشَّعبيَّة والمسرح. استُهلت المسرحيَّة بالرَّقصات التي يؤدِّيها الكومبارس أو الكورال، الذين كانوا يُغنُّون ويتشكَّلون حسب المواقف الدراميَّة… وهنا تبرُز مهارة وقدرة المخرج مسلم على تحريك المجاميع البشريَّة، التي كانت تتفاعل مع الأحداث المتَّصلة بحياة الرَّجل، الذي كان يُعاني من ويلات الزَّوجة والأُسرة والمجتمع الذين تكالبوا عليه جميعًا، ليُصبح “وليمة”.
وظلَّ الحدث منذ المشاهد الأولى يدور في حلقةٍ دائريَّةٍ ليُعود للنُّقطة التي بدأ منها… عبر لوحاتٍ صادمةٍ على مستويَيْن؛ منذ البداية شاهدنا الزَّوجة التي تتحكَّم بمصير الزَّوج/ الأب وتُمارس عليه أشكال التنمُّر، حتى أصبح مهزوز الشَّخصيَّة، كما أنَّها مكَّنت من إقناع الآخرين بأنَّ زوجها مريض نفسيًّا. وظهوره بصورةٍ كاريكاتوريَّة ساخرة… لذلك شاهدناه وهو مُغيَّب عن الواقع، تُقرِّر زوجته مصيره، وحتَّى نوعيَّة أحلامه!…كما ظهرت الابنة تُعلن تمرُّدها على أبيها، وقرَّرت الزَّواج من شابٍ لا يناسب مستواها، وهو شاب منحرف، يُمكن أن يُسبَّب الاقتران به أذى وضررًا بالآخرين، ناهيك عن سمعته السيئة التي يمكن أن تؤثِّر على العائلة.
وضمن نسيج النَّص الدراميّ لمسرحيَّة (الوليمة) ظهرت شخصيَّة (شاهد العصر) أو الرَّاوي الذي كان يُعلِّق على الأحداث ويراقب حكاية “الرَّجل” الذي حوَّلته زوجته إلى إنسانٍ مجنون… ويتدخَّل شاهدًا على العصر في قطع الإيهام وصدم المشاهد بحقيقة الأحداث والمواقف الدراميَّة مع كسر الحاجز الرابع، بأسلوب ملحميّ متفاوت الرؤى والاتِّجاهات، ومن سمات هذا المسرح، توظيف العرائس (الدمى)… جميع ذلك أكَّد المستوى الآخر للعرض من خلال تفسير المدلولات الفكريَّة والسياسيَّة؛ فالعرض قدَّم لوحاتٍ بصريَّةً وسياسيَّةً متفاوتةَ الرؤى والموضوعات.
إنَّ تصاعُد الأحداث وتحويلها لمشاهدٍ دمويَّة، جعل الأب/ الزَّوج يُصبح “وليمة” في متناول الجميع، وشاهدنا الدِّماء في قميصه والحاجز الزُّجاجيّ، في حين ظهر الجميع وهم ينهشون جثَّته!… ولا بدَّ من الإشارة إلى الحمولات الفكريَّة لعرض مسرحيَّة (الوليمة)؛ فالأب أو الزَّوج يرمز للشَّعب… وهو ضحيَّة للحكومات التَّعسفيَّة، التي تتحكَّم بمصير الشُّعوب وتُصادر أفكارهم، وتحوُّلهم لنسخٍ سلبيَّة، ليكونوا مجرَّد نسخٍ لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون!… فالرَّجل عندما حاول الاعتراض كان عقابه الاتِّهام بالجنون… وهذا كان شأن الرَّجل الذي سُلبت شخصيَّته، وظهر ضعيف الشَّخصية أمام أُسرته، التي عملت على تحويله لمجرد وليمةٍ وضحيَّةٍ ينهش الجميع منها، وضاعت حقوقه الإنسانيَّة في البقاء والاستمراريَّة.
5- مسرحيَّة (سامحينا): عبَّر العنوان عن عدد من المعاني والدَّلالات، وأنَّ هناك اعتذارًا عن الموضوع الذي سيُقدَّم!.. إنَّ القضيَّة مستمرة، والزمن قديم.. هي حكاية وطنٍ مفجوعٍ وتخاذُل الآخرين عن الدِّفاع عنه… لذا فإنَّ طلب “السَّماح والاعتذار” مستمر رغم تباين المواقع والشُّخوص والأهداف…مع تشابه الحكايات والنهايات!
مسرحيَّة (سامحينا) من تأليف إسماعيل عبدالله وإخراج محمد العامري. الرؤية البصريَّة للعرض تستوقف المشهد الإنسانيّ، لتتحدَّث عن ذاتها، حيث ظهرت ثلاثة مستويات في منصَّة العرض، لتشهد أحداثًا تستحق المشاهدة، وضرورة التَّفاعل معها، ومحاولة فك أيقوناتها الإنسانيَّة التي تطلب من الجميع (السَّماح والاعتذار)، وهي كالتَّالي:
في المستوى الأوَّل: ظهر الرَّاوي أو شاهد العصر… وهو الشَّخص الذي يقوم بكسر الإيهام بين الممثلين والصَّالة والتعليق على الأحداث. وبجانب الرَّاوي ظهر (صندوق) وكان عندما يُحرِّكه تتأثَّر الشَّخصيَّات والأحداث على المنصَّة، بصورةٍ سيميترية تتَّسق مع الأحداث والسينوغرافيا العامَّة للعرض. أمَّا في المستوى الثَّاني، فقد ظهرت المرأة التي وُضِعَ رأسها تحت المقصلة، وكانت ترتدي ثوبًا أحمر للدَّلالة على العُنف، القتل، الموت… والتي تحوَّلت لأيقونة رمزيَّة، تجسِّد حكاية وطن، والأيتام الذين كانت ترعاهم… فقد اغتيلوا … وهُم الشَّعب الذين صودرت أحلامهم وغُرِّر بهم، حتَّى أصبحوا مجرَّد رموز إنسانيَّة. وفي المستوى الثَّالث شاهدنا ظهور رموز للسُّلطة والسَّاسة ورجل الدِّين، الذين كانوا يتآمرون على المرأة/ الوطن والشَّعب ويُخطِّطون للنَّيل منها… وهذا المستوى شهد مشاركة أكبر عددٍ من الشَّخصيَّات والأحداث، وكانوا يتوزعون على منطقتَيْن على يمين ويسار المنصَّة.
وقدَّمت المسرحيَّة محتويَيْن؛ الأول منهما يميل للواقعيَّة من خلال قصَّة امرأة ترعى دار الأيتام، في حين “رجل الدِّين” وغيره من رجالات السُّلطات الزائفة والمغرضة، حاولوا إزاحتها والتغرير بها.. خصوصًا “رجل الدِّين” الذي كانت حقيقته غير ظاهرة في البداية، إلا أنَّه اتَّضح فيما بعد بأنَّ لا علاقة له بالدِّين!.. وأنَّه مجرَّد قناع يستتر خلفه لتحقيق مصالحه… وظهر ذلك جليًّا من خلال صراعه مع (المرأة)، ثمَّ مشاهدته مع رجال السُّلطة والخونة، يتآمرون ويشربون الخمر!
وظلَّت الأحداث تسير في نطاق دائري منذ البداية… وشاهدنا المرأة تحت المقصلة، مرتدية فستانًا أحمر للدَّلالة على العنف وإراقة الدِّماء، ثم سرعان ما تخوض هذه المرأة/ الوطن… حربًا ضد العدو الظاهر “رجل الدِّين” الزائف، وبقية رموز السُّلطة والخونة… لتخوض معركة غير متكافئة، ويسعى الجميع لانتهاك محارمها والنَّيل من شرفها.. وقدَّم المخرج لوحاتٍ ملحميَّة صادمة للمشاهد، بالرجوع بالأحداث للخلف أو ما يُسمى (الفلاش باك)، الذي اتَّضح من خلاله الكثير من التفاصيل؛ حيث عرفنا من خلاله لماذا كان مصير المرأة المقصلة.. بصورة عبثيَّة… تمثَّلت في ضياع القيم وتكالب السُّلطات الغاشمة على المرأة/ الشَّعب/ الأرض.
بشكلٍ عام، برزت شخصيَّة المرأة، والرَّاوي، ورجل الدِّين ورموز السُّلطة، بينما باقي الشَّخصيَّات كانت ظلالًا للسُّلطة الغاشمة… وكان هدفها جعل الشَّعب يخضع لها، مع استمراريَّة المشهد السياسيّ والملحميّ… وعبثيَّة الطَّرح عن الواقع العربيّ المعاصر.. عندما يُتاجَر بأحلام البُسطاء والأيتام والشَّعب؛ بهدف التنازل عن الوطن… وتحويل الآخرين لمجرد أطيافٍ وظلال… لا تُغني ولا تُسمن من جوع!
جاءت خاتمة المسرحيَّة بصورةٍ مُغايرةٍ عن المتوقَّع، وعلى الرَّغم من تكالب القوى الشِّريِّرة للسَّيطرة، على الأرض ومحاولة إعدام الحُرِّيَّات/ المرأة/ الأرض… فإنَّ المخرج محمد العامري استطاع أنْ ينتصر للشَّعب ويستعيد الأرض، ويُطهِّرها من الآثمين… وهكذا انتصر الخير على الشر، في نطاق دائري من حيث نقطة المقصلة والمرأة التي على وشك الإعدام، وفي النِّهاية عادت المسرحيَّة للنُّقطة نفسها حيث المرأة وعبارة (تموت الأمهات).
يُذكر أنَّ عرض مسرحيَّة (سامحينا) فاز بثلاث جوائز؛ وهي: جائزة أفضل إخراج مسرحيّ للفنَّان محمد العامري، جائزة أفضل تأليف مسرحيّ للكاتب إسماعيل عبد الله، وجائزة أفضل إضاءة للفنَّان ماجد المعيني.
ثانيًا: موضوعات اجتماعيَّة وإنسانيَّة
1- عرض مسرحيَّة (إسكان): من تأليف عبد الله صالح وإخراج عبدالله الدرزي، لفرقة مسرح رأس الخيمة الوطنيّ. استَهلت المسرحيَّة أحداثها بتقديم تشكيلات راقصة صنعت فُرجة بصريَّة، واختزلت الكثير من ملامح هذه المسرحيَّة بأحداثها وشخصيَّاتها الإنسانيَّة وفق منظومة بصريَّة ذات مدلولاتٍ اجتماعيَّةٍ واقتصاديَّة، لتصل رسالتها للمتلقي، وتتحدَّث عن حياة المهمَّشين في المجتمعات العربيَّة.
وقدَّمت المسرحيَّة رؤية بصريَّة وجماليَّة امتدت عبر الفضاء المسرحيّ، الذي تتوسَّطه قطع الديكور المتحرِّكة والمتغيِّرة والتي ظهرت حسب تسلسل المشاهد في المقدِّمة، بصورةٍ إبداعيِّةٍ تخدم مقتضيات الفعل المسرحيّ، وتتحدَّث عن الفقر والتباين الطبقي بين أفراد المجتمع… وتحكي عن معاناة الفئة المسحوقة في المجتمع… والتي تعاني من التهميش والمعاملة الدونيَّة.
امتاز العرض بوجود المجاميع المسرحيَّة التي كانت تتراقص وتؤدِّي أدوارها عبر أُفق الفضاء المسرحيّ. وبرزت شخصيَّة (الأم) لترمز لروح الإنسان الضائعة وسط هذا العالم الماديّ، والتي ظلَّت تبحث عن أرواح أطفالها… الذين حسب ما ذكرت أنَّهم فُقِدوا ذات يوم. بينما حاولت شخصيَّة (الحمَّال) مساعدة الأم في العثور على أبنائها المفقودين.
إنَّ التناقض الذي ورَدَ على صيغة أحرفٍ وأرقام، ولَّد صراعًا بين الشَّخصيَّات المُحبة للخير، وتلك التي تمثِّل الشَّر… وتباينت مفردات وعناصر الصِّراع، المستوحى من واقع الحياة البائسة، للأفراد الذين يُعانون من التهميش والظلم والحرمان، والتعبير عن الفوارق الطبقيَّة بين الغني والفقير، والعيش على هامش المجتمع.
كما انبثقت الرؤى الجماليَّة من خلال السينوغرافيا العامَّة للعرض، فاتَّسم الدِّيكور الذي نفَّذه عبدالله الرحمن الكاس، بالتفكير خارج الصندوق، مُستخدمًا البراميل في خشبة المسرح، والتي صُمِّمت بطريقةٍ تُوحي بأنَّ المال والسُّلطة وسيلتان للتحكُّم بمصير النَّاس، وكانت هذه البراميل بمثابة خلفيَّة دالَّة على البُعد المادي!…كما ساعد الدِّيكور في تعرية أبعاد الشَّخصيَّات، وأضفى رؤية جماليَّة عليها، مع المؤثِّرات الموسيقيَّة والصَّوتيَّة!… بينما أسهمت “الإضاءة” في رسم ملامح العرض العامَّة، واستكملت الأزياء أبعاد الرؤية البصريَّة للعرض، والتي صمَّمتها زهرة الحمادي.
2- قُدِّمت مسرحيَّة (المشهد صفر) لفرقة مسرح خورفكان للفنون، على مسرح معهد الفنون المسرحيَّة، وهي من تأليف أحمد الماجد وإخراج إلهام محمد. يُفصح عنوان المسرحيَّة (المشهد صفر)؛ عن أنَّ المسرحيَّة لم تبدأ بعد حتى الآن!.. لذلك فهي بمثابة (بروفة) للعرض الذي لم يبدأ بعد!… لذا وجدنا أنفسنا ضمن نطاق المسرح داخل المسرح (الميتاتياترو)… وضمن حلقات هدفها التخلُّص من نطاق العلبة الإيطاليَّة، ومكاشفة الجمهور بكسر الإيهام أو ما يُسمى بالجدار الرابع.
وتتحدَّث مسرحيَّة (المشهد صفر) عن مخرج وممثلين كانوا يستعدون لأداء بروفة لمسرحيَّة برؤية جديدة في مكان ما… وعندما ذهبوا إلى محطَّة القطار… فإنَّ القطار لم يأتِ وظلَّ الجميع ينتظرونه! وبعد انتظار طويل قرَّر الجميع القيام بالبروفة في محطَّة القطار الذي لم يأتِ ولن يأتي!… وهناك تكشَّفت بعض الحقائق من خلال حوار الشَّخصيَّات، والمواقف الصَّادمة التي جاءت أقرب إلى الكوميديا السوداء.
وانقسمت مستويات الأداء في العرض المسرحيّ إلى قسمين؛ الأوَّل: أداء الممثلين في الواقع، والثَّاني: أداء الممثلين في المستوى الأعلى حيث الجسر… والذي يرمز لمرحلة الانتظار إلى التمثيل… وتحوُّله لمنصَّة للعرض… ومثال على ذلك بَعد الجسر محطَّة للانتقال بين الواقع والمسرحيَّة الافتراضيَّة التي يؤدِّيها الممثلون … وسرعان ما عَبَرت الشَّخصيَّات “الجسر” للانتقال لمرحلة التمسرح.. ثم ما لبثوا أنْ عادوا لواقعهم حيث محطَّة القطار والانتظار… بجانب المخرج الذي كان يُعطي التعليمات للشَّخصيَّات منذ المشهد صفر .. وصولًا لمرحلة التمثيل وتقمُّص الأدوار التمثيليَّة.
وأثناء لحظات الانتظار تلك، نشأت علاقة بين الممثِّلة والمخرج في الواقع، ثم سرعان ما تنتقل الشَّخصيَّات إلى داخل المسرح (الميتاتياترو)، وإظهار المُخرج بشخصيَّة المتسلِّط… وحرصه على تفاعل الممثلين مع بعضهم البعض…. والعودة تكشف العلاقة الزائفة بين الممثِّلة والمخرج… وأنَّها كانت فقط لتحقيق النجوميَّة والشُّهرة…!
سعت السينوغرافيا إلى إبراز الفعل الدراميّ المتَّصل بحياة الشَّخصيَّات، والتي تخضع لتوجيهات المخرج…كما شكَّل الدِّيكور مرحلة الانتقال قبل التمسرح وبعد، من خلال الجسر.. وأكَّدت الأزياء فكرة التمسرح، والتي ظهرت تمزج بين اللَّونَيْن الأسود والأحمر؛ للدَّلالة على تبايُن المواقف المختلفة عبر محطَّات الحياة التي أصرَّ المخرج على أنْ ينقلنا إلينا.
وتباينت مستويات “الإضاءة والمؤثِّرات الصَّوتيَّة والموسيقيَّة” حسب تطوُّر المواقف المسرحيَّة، وتقديم مسرحيَّة ذات رؤى إخراجيَّة، بصورةٍ حداثيَّة تمزج بين التمثيل والتمسرح، والأداء التمثيليّ الاستعراضي.. وبشكلٍ عام سعى العرض إلى كسر الجدار الوهمي بين الممثِّلين والمتلقِّين، بأسلوبٍ فنِّيٍّ وجماليّ.. وتوطيد العلاقة بين النظارة والفضاء المسرحيّ، والذي يؤكد أهمِّيَّة الفصل وكسر الجدار الرابع، والبُعد عن المسرح التقليديّ، وأنَّ ما يُقدَّم ليس تمثيلًا، وإنَّما تمسرح ولعبة تشاركيَّة تطلب من الجمهور التفاعل مع العرض المقدَّم.
3- مسرحيَّة (الخيار الأخير): استلهمت موضوعها عن رواية (وليمة للغربان) للكاتب الأمريكي جون. ر. ر مارتن، وقام بإعدادها وإخراجها عبدالله آل علي لدائرة الثَّقافة بالشَّارقة. وهذه المسرحيَّة من بطولة ماجد المازمني ونصر الدين عبيدي، وعبدالله الشعسائي وراشد الزرعوني وسيدرا الزول وحليمة عيساوي.
ويُمكن ملاحظة أنَّه منذ بداية مسرحيَّة (الخيار الأخير)، فإنَّ الفعل المسرحيّ تمركز في منتصف خشبة المسرح، حيث كانت تتجمهر معظم الشَّخصيَّات… وسط ضبابيَّة المسرح وجماليَّة الأزياء، حيث ارتدت الشَّخصيَّات أزياءً تعود لقرون سابقة، وغلبت عليها الألوان الدَّاكنة التي تماهت مع الفضاء المسرحيّ المتَّشح بالسَّواد.
وجاءت المشاهد المسرحيَّة وكأنَّها لقطة لأحد الأفلام السِّينمائيَّة الغربيَّة؛ حيث ظهرت الشَّخصيَّات تتحلَّق حول المائدة المستديرة، وظلَّت تتحدَّث عن الحمية الغذائيَّة، وعن أهمِّيَّة أنْ يتَّبع الجميع برنامجًا غذائيًّا… وسرعان ما دخل الحضور في سجالٍ لفظي، اتَّضح من خلاله تأثُّرهم بصرعات الموضة والتطوُّر والتحضُّر.. والمتغيِّرات والتَّحوُّلات العالميَّة والعولمة… ابتداءً من أسلوب الحياة، وانتهاءً بالمراحيض كنوعٍ من التَّهكُّم على التقليد الأعمى…
فضلًا عن ذلك، فقد أُدخِلت في العرض بعض الأغاني والرَّقصات الغربيَّة التي حاولت محاكاة الآخرين… كما غلب على العرض الطابع الكوميدي السَّاخر من خلال القفشات والمواقف الكوميديَّة السَّاخرة… وتوظيف الدُّمى في المسرحيَّة، متأثرة في ذلك بملامح من المسرح البرختي، ومحاولة كسر الجدار الرَّابع… وفق رؤية بصريَّة… تباينت الرؤى بين المنصَّة والنَّقلات البصريَّة التي أدخلها المخرج على منصَّات العرض. وتتابعت الأحداث لرصد حالة ذوات الشُّخوص المتغيِّرة، وعدم الرضا بواقعها، والرَّغبة في مُسايرة العالم بأسلوبٍ معاصر. وصاحبَ ذلك كسر الجدار الرَّابع؛ لتحقيق التَّفاعل والتَّواصل مع صالة المتفرجين. وبذلك رصد العرض مدى التَّأثير الغربي على المجتمع.
وبشكلٍ عام، يشكِّل العرض تجربة مسرحيَّة، مفتوحة، قابلة للإضافة والتَّغيير؛ كون الموضوع متحوِّلًا ولا يتَّصل بفترةٍ زمنيَّةٍ محدَّدةٍ، ويُمكن تقديمه في أي زمانٍ ومكان؛ لأنَّ التَّغيير والتَّجديد والاختلاف من السِّمات الإنسانيَّة.
4- مسرحيَّة (الطَّارق الأخير): من تأليف وسينوغرافيا وإخراج علي جمال، لمسرح دبي الوطنيّ. مالت أحداث هذه المسرحيَّة إلى الواقعيَّة، ومسرح الجريمة… واتَّضح ذلك من خلال قصَّة الأُختَيْن اللَّتين ظهرتا، وهما تعانيان من ويلات الحياة وقساوتها بسبب حياة البؤس والفقر… فضلًا عن تكشُّف الأبعاد الاجتماعية للأختين، فإحداهما عانس لم تتزوَّج بعد… أمَّا الأُخرى فقد تزوَّجت ولكنَّها ترمَّلت… وبدت كأنَّها حامل بهموم وقساوة الحياة!
جسَّدت السينوغرافيا حياة الأُختَين، وواقعهما من خلال الدِّيكور الواقعي الذي ظهر في منتصف المسرح بصورةٍ تُحاكي البيئة التي تعيش فيها الفتاتان…كما ظهرت خطورة شبكة العنكبوت تدريجيًّا… وهذا يتوافق مع تطوُّرات الأحداث وتأزُّمها… وصولًا إلى حادثة ارتكاب الجريمة!
ومع طرقات الباب تغيَّر مسار حياة الأُختَين، حتَّى أصبحتا تعانيان من جريمة موت الطَّارق الأخير/ جابي الضرائب والإتاوات… الذي زارهما على حين غرَّة، وطلب منهما الطَّعام لأنَّهما لا تملكان سواه. ولكن من سوء الطالع أنَّه تُوفيَّ…وبذلك وقعت الأختان في ورطة!.. وكيف تتصرَّفان في الجثَّة؟!
وبعد تفكير… توصَّلتا إلى أنَّه إذا قالتا الحقيقة فلن يصدِّقهما أحد!.. لذلك قرَّرتا إخفاء الجريمة وتحويل المُتوفَّى إلى تمثال!!… ووضعتاه على هيئة مشجب للملابس… وعندما أتى الأمن، فإنَّه في البداية لم يلحظ التِّمثال، لكن سرعان ما انكشف السِّر … الذي حرصت الأختان على إخفائه.
وناقشت مسرحيَّة (الطَّارق الأخير) الطَّبقيَّة في المجتمعات، وغالبًا ما نجد أنَّ هناك طبقتَيْن؛ فئة غنيَّة، والأُخرى فقيرة، تقتات على اللَّمم… هكذا كان واقع الأختين اللتين وجداتا نفسيهما بلا مُعيل!… ودخلت الأختان في جدال مع جابي الضرائب؛ لأنَّهما تعيشان وضعًا مادِّيًّا مُتردِّيًّا، فلماذا تتحمَّلان دفع الضريبة؟!… وهناك إسقاط معاصر حول العلاقة بين الحكومة والشَّعب البائس، الذي يعاني من شظف الحياة وبؤسها، ورغم ذلك يُطلب منه دفع الضَّريبة!
اتَّسم الأداء التمثيليّ للأختين بالواقعيَّة، ومحاكاة حياة البؤساء، كما أكَّدت الأزياء والإكسسوارات واقع حياة الأختين، فضلًا عن النَّقلات السَّريعة التي حدثت في حياتهما بعد وفاة جابي الضرائب البائس!… وهذه المسرحيَّة من بطولة كل من بدرية محمد وبدرية أحمد وأحمد يوسف وحمدة الظاهري وسما.
بشكلٍ عام، إنَّ عرض مسرحيَّة (الطَّارق الأخير) يوجِّه رسالة للأنظمة العربيَّة التي تكرِّس الطَّبقيَّة بين شعوبها، وعدم مراعاة الطَّبقات الفقيرة… وهذا جعل فئة من النَّاس تتحوَّل إلى فئةٍ ساخطة، تسعى للانتقام… وهي مثل شبكة (العنكبوت) التي تنتظر فريستها، لتفتك بها!
5- مسرحيَّة (اصطياد): السِّيناريو المسرحيّ من تأليف مهند كريم وإخراجه، لجمعيَّة دبا الحصن للثَّقافة والتُّراث والمسرح، ومن بطولة كل من شريف عمر وعبدالله الخديم ونبيل المازمي وآلاء حماد وأحمد عرادة… وغيرهم. إنَّ تداخل المسرح مع السِّينما أصبح ضرورة في ظلِّ تنافس المسرح مع الميديا بأشكالها المختلفة كالسِّينما والتَّلفزة ووسائل التَّواصل الاجتماعيّ… ونتج عنه الكثير من الأعمال التَّجريبيَّة والحديثة، ومسرح ما بعد الدراما، ومسرح الصُّورة، والمسرح التَّسجيليّ… وأخيرًا المسرح الرَّقمي ودراما اليوتيوب…
وفي عرض (اصطياد) اصطاد كاتب السِّيناريو الوسائل غير التقليديَّة؛ لتكون وسيلة للتَّعبير عن قضيَّته، التي أراد تقديمها بصورةٍ بصريَّةٍ حيث شاهدنا “الشَّاشة” تتوسَّط خشبة المسرح، وتصطاد القضايا المُثيرة للجدل والنِّقاش… وتضمَّنت الشَّاشة صورًا رمزيةً دالَّةً على الأحداث على خشبة المسرح، كما أكَّدت التَّعليقات بالخط العريض على الموضوع، والتي وضَّحت مجريات الأحداث على خشبة المسرح.
وقامت الشَّاشة بوظائف عدَّة جاءت أقرب إلى الرَّاوي في المسرحيَّات الحداثيَّة، ذات الطَّابع الملحمي، وتتابع لقطات الشَّاشة التي تبث عنوانين شتَّى، ذات الصِّلة بشكلٍ عضويٍّ وصريحٍ حول ما يدور على خشبة المسرح. وتناقش المسرحيَّة ظاهرة التحرُّش بالأطفال، وهو موضوع شائك، متعدِّد الأوجه، إلا أنَّ هذا العرض، نقل قصَّة “شاب” تُوجَّه إليه تُهمة الاعتداء على طفلةٍ قاصر!.. ولم تظهر مشاهد الاعتداء، لكنَّنا شاهدنا الوالدين وهما يتحدَّثان عن حادثة الاعتداء؛ للتَّأكيد على أنَّ ابنتهما تعرَّضت للتَّحرُّش… ثمَّ يقومان بمطاردة المُتَّهم، ومساءلته والتَّحقيق معه ومحاكمته… وظلَّ ذلك الشَّاب يعاني من الاتِّهامات الموجَّهة ضدَّه، ثم يقوم المجتمع باتِّهامه زورًا وبُهتانًا وكذبًا، إضافة إلى ظهور بعض التَّعليقات الكتابيَّة حول ظاهرة التَّحرُّش ضد الأطفال؛ بعضها مأخوذ من تقارير منظَّمة اليونيسف.
وكشفت الأحداث النَّقيض بأنَّ الاتِّهامات الموجَّهة ضدَّ الشَّاب مجرَّد تلفيق وافتراء، وأسهمت في تحطيم مستقبله، وإنهاك صحَّته، والإساءة لسُمعته… وأنَّ الشكوك والاتِّهامات حول شخصه باطلة. نُقلت تلك الحقيقة بعد فوات الأوان…! وتطوَّرت الأحداث لمحاولة قتله!.. لذلك نشاهده وهو ملطَّخ باللَّون الأحمر.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنَّ هناك مَن يستغل الأطفال، ويوجِّهون اتِّهامات باطلة للآخرين لتحقيق مصالح ماديَّة كالحصول على تعويض، بعد أن يتسبَّب ذلك في ضياع مستقبلهم… وظهر المحامي في هذا العرض وهو يقف في صف الأبوين ويُصرُّ على محاصرة المتَّهم، وتأكيد التُّهم وإدانته!
وتمكَّن المخرج وكاتب السِّيناريو البصريّ، من تخطيط الفضاء المسرحيّ، حيث لاحظنا أنَّ “الشَّاشة” وُضِعت في عمق المسرح، واستُخدمت كأداة مكمِّلة للأحداث على المنصَّة، كما ظهر عدد من الصَّناديق الزُّجاجيَّة؛ الصندوق الأول وُضِع بداخله فستان طفلة… وبذلك اختُزل كيان ومفهوم (الطِّفلة)
بالفستان الذي وُضِع داخل الصَّندوق…كما أنَّ الشَّاب عوقب بالسِّجن داخل “الصندوق الزُّجاجي” وكان يتلقَّى التُّهم ويحاصره المحامي والمجتمع… وبذلك يكون “الصَّندوق” رمزًا للسِّجن والقمع، كما ظهرت أيقونة أخرى على خشبة المسرح وهي (الدَّلو أو السَّطل) الذي يحتوي على مادَّة طلاء… للدَّلالة على قبح الجرم الذي ارتكبه الأبوان والمجتمع؛ لكونهما اتَّهما الشَّاب بالجرم (حادثة التَّحرُّش بقاصر) زورًا… لذلك نلاحظ أنَّ “الطِّلاء” ظلَّ عالقًا بأيديهما والمحامي.
واختُتمت المسرحيَّة بتحوُّل المتَّهم إلى وحشٍ كاسر، يهاجم النَّاس، وينتقم من الآخرين ويُمارس العنف عليهم… ليكونوا هدفًا مرتدًّا بعد اصطياده وتلفيق الكذب حوله، لذا أراد هو أنْ يصطادهم أيضًا، ويتخلَّص من شرورهم والنَّيل منهم… وسرعان ما ظهرت صورة (عين تدمع) في الشَّاشة؛ للتَّعاطف والدَّلالة على الشَّاب المتَّهم بحادثة التَّحرُّش!
6- مسرحيَّة (مرود كحل): من تأليف محمد سعيد الظنحاني وإخراج إبراهيم القحومي، لفرقة جمعيَّة دبا للثَّقافة والفنون والمسرح. استوحت المسرحيَّة مفرداتها من واقع البيئة الشَّعبية، ورجعت بالزَّمن لعصورٍ مضت، عندما كان الأجداد يعيشون في المنازل المبنية من الطِّين والعريش؛ المصنوع من سعف النَّخيل لحماية الإنسان القديم من تقلُّبات الطَّقس وخصوصًا في الأوقات الحارَّة.
وظهر المسرح وهو يمثِّل (الفريج) الشَّعبي بكلِّ حكاياته ومنازله وأزقَّته… والأشجار والعرشان، فضلًا عن ظهور “الكورال الغنائي” الذي كان يتغنَّى على الألحان الشَّعبية، وتتراقص على أنغامه النِّساء والأطفال…كما شاهدنا بعض نساء الحيّ في المرجوحة يتراقصن، ويتوسَّطن خشبة المسرح.
وتتحدَّث المسرحيَّة عن قصَّة الشِّيخة شمَّة، هذه السَّيِّدة الجميلة، العمياء.. وكان مفتاح والجارية يعملان لديها…كما برزت شخصيَّة (مفتاح) المتمرِّد الذي خدع السَّيِّدة، واستفرد بمالها… واستغلَّها كونها عمياء فقام بسرقتها، وكان يخبرها بأنَّه يصرف النُّقود لخدمتها!!… وظهرت أيضًا شخصيَّة (الأهبل) عبدالله الذي حوَّلته صدمات الحياة لمجنون، بعد أن هجرته زوجته وأخذت ابنته بعيدًا عنه، وبدأ في مطاردة “طواحين الهواء” ويبحث عنها بين أهل (الفريج). وهكذا اجتمعت جميع مفردات (الأحياء القديمة)، لتسرد لنا قصَّة من الماضي، حيث النَّاس والمعتقدات والفكر الشَّعبي.
تمركزت أحداث المسرحيَّة في وسط المنصَّة… وظهرت شخصيَّة (مفتاح) الفاعل الحقيقي للعديد من الأفعال التي تسبَّبت في إلحاق الأذى بالآخرين…كما أنَّ الكورال أسهم في أداء الرَّقصات التُّراثية الغنائيَّة باللَّهجة المحليَّة في تصاعد الأحداث، عندما بدأت تتكشَّف حقيقة (مفتاح) وكذبه، وأنَّه كان يحيك الدسائس على الآخرين، وصولًا لخاتمة المسرحيَّة عندما اتَّضح تآمر مفتاح على السَّيِّدة شمَّة، والذي كان يأكل من خيرها، ولكنَّه لم يتوانَ هو والجارية عن جعلها عمياء بواسطة (مرود الكحل)!
كما كشفت الأحداث عن تلاعب (مفتاح) بمال سيِّدته شمَّة، وأسهم في تخريب أملاك وأموال الشِّيخ في الفريج، وعندما اشتبك مفتاح مع الأهبل عبدالله تبيَّن أنَّه هو مَن جعل زوجة عبدالله تهرب عندما أخبر أباها بأنَّ عبدالله مجنون… هكذا دارت رحى الأحداث لتلتف على رقبة (مفتاح) الذي كان يعمل على تدمير وخراب مَن حوله بروح انتقاميَّة، وعندئذ جاهر مفتاح بأنَّ سبب انتقامه؛ أن سيِّدته شمَّة كانت تعامله بدونيَّة… لذا كان يشعر بالدونيَّة وضياع حقوقه، وأنَّ السَّيِّدة كانت تعامله كخادمٍ وفقير.
كشفت أحداث المسرحيَّة المواقف المتضادَّة بين أهالي الفريج، وكيف كان (المرود) سببًا في عمى السَّيِّدة (شمَّة)، لذلك فإنَّ “المرود” لم يُستخدم من أجل الزِّينة، إنَّما استغله مفتاح لإيذاء سيِّدته بوضع مادَّة سامَّة فيه، واستمرَّ في ذلك من أجل الاستيلاء على أموالها، وجعلها عمياء للأبد. فيما أكَّدت السينوغرافيا الخطاب البصريّ، حيث البيئة التُّراثيَّة لحياة الفريج… الأكواخ والمنازل الخشبيَّة والأبواب والبئر… فيما كان الكورال الغنائي يقبع في المستوى الثاني… واكتفى المخرج بأنْ يجعلنا نستمع لهم.
كما أمتعنا عرض مسرحيَّة (مرود كحل) بالخطاب الشِّعري حيث تتحدَّث الشَّخصيَّات بلغة الشِّعر الشَّعبيّ، حيث كانت الشِّيخة شمَّة تقصد الشِّعر الشَّعبي، وتردّ على الآخرين بقصائد شعريَّة… وهناك أيضًا أكثر من شخصيَّة تقرض الشِّعر… وهذا جعل المسرحيَّة تتَّسم برؤية جماليَّة وشعريَّة، تؤكد هويَّة العرض الثَّقافيَّة والفنِّيَّة للمجتمع الإماراتي.
عن: التكوين