التنظيري والجهد الاستفهامي / علي حسين الخباز
للأسئلة نبوغ مدروس في المساحة الابداعية تحمل بين طيّاتها دلالات تشكل عنصر دهشة وتنوعا إحساسيا استثمرها الباحث والفنان المسرحي (مهدي هندو) في كتابه (طقوس عاشوراء… الدرامية واشكالية التنظير المسرحي) ليعمق دلالات المفهوم باستفهاميات ترتكز على جمالية مبهرة، فهو يسأل لِمَ لا نبحث في تراثنا الزاخر بالتاريخ عن مادة خصبة نخلق منها مسرحا عراقيا عربي الخصوصية؟ ولاشك ان للجواب مفاتيح تفسيرية وتوضيحية عليها ان لا تأخذنا صوب مسارات رديفة تعبر عن وجهة نظر واحدة وليس عن بحث له سمات متعددة متباينة نستطيع من خلاله ادراك المفهوم بعدة أوجه، فقد استشهد برأي الدكتور ابراهيم الحيدري الذي يرى ان الطقوس الشعائرية تلعب دورا مهما في المعتقدات الروحية في الإسلام حيث تخلق أجواء دينية وثقافية يمكن توظيفها اجتماعيا وسياسيا.
ركز الباحث في ايضاحه بأن (هذه الطقوس يمكن ان توظف اجتماعيا عن طريق مسرحتها) ولا نعرف ماذا يعني بالتوظيف الاجتماعي وحسب منظور الاستشهاد نفسه ان هذه الطقوس تمثل ظواهر اجتماعية وسياسية وفلكلورية، فنحن بحاجة ماسة الى دراسة البحث الاجتماعي داخل هذه الطقوس كظاهرة مسرحية وخاصة انها تعد وتمول بجهد شعبي اجتماعي، ويرى اننا بحاجة الى خلق مسرح من هذه الطقوس، واستكشاف هويتها الحقيقية وليس اظهار ملامحها وتحديد هويتها، ثم يتواصل الجهد استفهاميا لترميم أسس استفهام جديد معد بتهيئة فنية مقننة من خلال عرض تأويلات مؤدلجة امتلأت بها تنظيرات اليوم بما ان البكاء والعزاء والنواح سمة اسطورية سالفة؛ فعشتار تنوح على تموز، وجلجامش يبكي ومعه أهل اوروك على انكيدو، والكهنة يحزنون ويبكون على مردوخ، وذكر جميع هذه التماثلات التي اثمرت واستثمرت من قبل التنظيريين، فيسأل:ـ” هل ان طقوس الحزن والبكاء في هذه الأساطير هي الجذر التاريخي لطقوس الحزن والبكاء في عاشوراء؟ “ومثل هذا الاستفهام يسعى لعرض المعنى التاريخي حسب مضامين رؤيوية أولت تاريخيا الى حركة التوابين كأول حركة مقاومة ضد الحكم الأموي على اغلب الاحتمالات تشكل أول نواة للاحتفال بذكرى استشهاد الحسين عليه السلام بيوم عاشوراء، وهذا الانفتاح لمفهوم الاشكالية التنظيرية يقودنا لسؤال مهم هل استطاع الباحث (مهدي هندو) الخلاص من براثن الاشكالية التنظيرية لكونها تجاوزت اساسا مهمتها وراحت تبحث في روايات تاريخية خاصة برجل التأريخ… والمسرحي رجل فنان بطبيعته ليس مؤرخا فنجد ان الاستعانة ببعض الآراء النقدية كونت مفاهيم قسرية جعلت من نهضة التوابين اسقاطات ندمية وكان في الامكان مراجعة مسندات تاريخية توضح ملامح البنية لهذه الطقوس والتي هي من مكونات جذرية ثورية لاعلاقة لها بالندم، ويستشهد برأي آخر يربطها بمرجعية التطهير الارسطي وقد عرف الباحث مفهوم التطهير بمرتكزيه (الخوف ـ الشفقة) وجعل من الحالة أي فعل البكاء ما يقابل حالة التطهير…
وركز على ان البكاء على الحسين (ع) يلعب دورا مهما وكبيرا في الشفاعة والتبرك كما يرى الباحث لكنه اضاف لها عملية (الإحساس بالذنب) التي اقسرت كي تلاقي فعل التطهير.. ويتدارك تداركا جزئيا اذ يرى ان لا دلالة لمفهومي الخوف والشفقة في بعض الطقوس العاشورائية كضرب الجسد واراقة الدماء ـ ثم يبدأ اشتغالاته الاستفهامية الفاعلة في النص البحثي ـ فنسأل هل هذا المنظر يساعد على فعل التطهير لو اراد احد ما ان ينظر اليه؟ هل يمكن ان يستوعب أي مسرح مهما كان اسمه هذه العملية؟ ليصل الى نتيجة محورية بأننا نحتاج الى من يؤسس لتنظير مسرحي يستوعب كل هذه الطقوس ويشذب كل ما يحتاج الى تشذيب وصولا الى عناصر درامية صحيحة مقبولة، ونحن مع الباحث نطمح الى تأصيل المسرح العاشورائي الى البحث عن سمات ترسيخه لكون هذا الترسيخ أصبح ضرورة ثقافية تدفع نحو نهوض المسرح الملتزم… لا ان نرضخ للمستنسخ الذي يسعى الى جذر دون هوية؛ فالمسرح العاشورائي له سماته الخاصة التي تميزه وهذا هو مسعى الباحث (مهدي هندو) سعيا لتحقيق المواصلة ومعالجة ومراجعة هذه الطقوس الموروثة بمقاربات نقدية تكشف عن وعي جمالي يتوائم مع الموروث الانساني؛ فالموضوع الرئيسي يعبر عن موقف الحسين عليه السلام وصبره على حتمية القدر وتعد مقاربة الى القسم الثاني من التراجيديا اليونانية المخصصة لقصص الابطال قابلة للتماهي مع بقية الاقسام بقدر المعالجة الفنية.
وهناك مقاربة أخرى مع المسرح الاغريقي، ويرى الدكتور (مناضل داود) هناك اوجه التشابه بين الجوقة اليونانية وجوقة طقوس التعزية متمثلة في سمات عمومية الشعب ومعرفة القصة سلفا، وامكانية التدخل في الاحداث والتدوين الشعري واختلاف البطل التراجيدي في الطقوس العاشورائية عن البطل الارسطي الكلاسيكي بكونه يبتعد عن الندمية والتعويض، ويستدرك البحث برؤية فنية إذ يرى ليس من الضروري ان تطبق قوانين ارسطو تماما على بطلنا الحسين ليجعلنا نتنازل عن تسميته بطلا تراجيديا، ولا يمكن ان نبعده عن بنيته كصراع تراجيدي يحمل بين طياته صراعا اجتماعيا فكريا، وبعد توضيح بنية هذا الموروث وطبيعة وجوده يسعى لإظهار هويته التي هي الاقرب الى المسرح الاحتفالي حسب رؤيته لوجود الابعاد والدلالات الايمانية المستلهمة من التراث المبلورة لموقف معنوي يمثل الثورة ضد الباطل ويحمل سمات شخصية محورية للشهادة والاستشهاد، ومن ثم يحمل الطقوس الشعائرية كمشاركة شعبية رافضة لكل احتواء ايديولوجي، ورافضا لأية قولبة مكانية للعرض المسرحي، فسعى لتأصيله من خلال مكانية عامة منفتحة كالأسواق والشوارع والساحات، ولا تتعامل مع الديكور المسرحي إلا ما يقتضيه الجو العام للعرض ودون الاعتماد على تقنيات الانارة، واما مؤثراته الصوتية فهي ادوات ذات خصوصية معروفة كالصنوج والطبول والابواق والنقارات، ولدى الممثل الحرية الكافية للتعبير عن تلقائيته، فتتكون النظرة الاجمالية للبحث مرتكزة على ايجاد هوية مسرحية معبرة عن هذه الطقوس عبر معنى التنظير لصياغة مشروع فني ثقافي يحافظ على بنيتها ويبرز القيم الجمالية والفلسفية في النتاج المسرحي.
والايجاد يعني ضمن هذا المنظور التجديد المطور دون المساس في البنية بل قراءة الفعل المسرحي المتضمن في تلك الطقوس، ولعزوف المنظرين عن التنظير اضافة الى ما ذكره الباحث من ردع سلطوي هناك قيم حداثوية تخلفت عنها الاجيال لعدم انفتاحها على النتاج الانساني وغياب التدوين التوثيقي الجاد فلذلك نجد ان أغلب النظريات الحديثة الموجودة تستعين برؤى المستشرقين او المتأثرين بهذه الرؤى والتي لايمكن لها احتواء وجدانية هذا الموروث.. إذن نحن نحتاج الى استقلالية بحثية لبلورة المفهوم التاريخي المكون لهذه الطقوس كي نصل الى تأسيس صحيح؛ فتلك الطقوس لاعلاقة لها بمعظم التنظيرات الموجودة والمعروضة في الساحة الاكاديمية، وانما كانت اسقاطات ايدلوجية مقنعة بالموضوعية الحسينية، ورغم كل هذا يمكن الاستفادة من هذه التنظيرات لترميم قنوات التوصيل، وهذا ما توصل وآمن به الباحث بعد جهد بحثي مضني، عبر استفهامية مؤلمة: كيف يمكن ان يكون نص طقوس عاشوراء الدرامي؟ هل هو حواري أم درامي؟ الى ان لايوجد نص مسرحي خاص بطقوس عاشوراء الدرامية، نقول هناك نصوص عاشورائية جادة لكن لم تصلنا للأسف فكانت خانات كربلاء القديمة تعرض مسرحا عاشورائيا يحمل الكثير من السمات المسرحية لم يذكرها معظم الباحثين ومعظم الاحداث التاريخية التي تخص المسعى الامامي المبارك رأيت مسرحا في تلك الخانات الحسينية ويقدم مسرحا طقسيا قائما بذاته.
والحديث عن التشابيه العاشورائية هو غير الحديث عن مسرح حسيني له ميزاته وأسسه القائمة في حينه، ويختم الباحث (مهدي هندو) بحثه بالعديد من الاستفهاميات الجادة هل ستبقى هذه الطقوس الدرامية تنتظر طويلا من يجعلها مسرحا مهما يحمل أسسا عراقية وعربية واسلامية؟ هل ستتطور الطقوس كما تطورت الطقوس اليونانية؟ هل ستوجه عناية الباحثين اليها؟ هل ستشهد تجارب مسرحية تابعة من خلاصات التنظير؟ هل ستنتبه الدولة لهذا الارث الحضاري؟ ونجد ان التنظير الذي يمثل بؤرة الواقع التاريخي سينتج لاشك مسرحا واعيا يحرر هذا الواقع الى العالم بسمات هويته الفاعلة.