قراءة تحليلية لمسرحية “أم البلدان”.. عندما يكتب التاريخ من جديد بإمضاء عزالدين المدني وحافظ خليفة / حافظ الشتيوي – تونس
من جديد يضرب المخرج حافظ خليفة موعدا مع الأعمال الكبرى وموعدا مع النجاح والتميز والتفرد من خلال مسرحية “ام البلدان” لعميد الكتاب المسرحيين العرب عزالدين المدني التي قدمها يوم الاثنين 1 جويلية/يوليو 2024 بقاعة الجهات بمدينة الثقافة .
ومن جديد يتصدر الكاتب عزالدين المدني المشهد الثقافي ويهدى المكتبة المسرحية عملا متميزا ينضاف إلى سلسلة أعماله الخالدة الباحثة عن جماليات ممكنة لمسرح عربي يجمع بين الحداثة والتأصيل وليحطم الرقم القياسي في التعامل مع التراث ومع أجيال مسرحية متعددة منذ ستينات القرن الماضي.
وبالرغم من حرارة الطقس إلا أن القاعة شهدت حضورا جماهيريا كبيرا قدموا من كل الاعمار والمستويات وكل واحد يبحث عن ضالته في هذا العرض الأول
فمنهم من يبحث عن استعادة أمجاد المسرح الكلاسيكي لعزالدين المدني زمن الستينات والسبعينات والثمانينات مع عمالقة المسرح التونسي أمثال علي بن عياد والمنصف السويسي ومحمد كوكة والفاضل الجزيري. ومنهم من يبحث عن الجمالية والصور المشهدية والسينوغرافيا المغايرة التي عود بها حافظ خليفة جمهوره وصنف مغاير قدم لاكتشاف نوع جديد من الاعمال المسرحية الناطقة بالعربية والتي تختلف عما هو موجود على الساحة المسرحية.
أبو زكريا الحفصي وتأسيس مفهوم الدولة في تونس لأول مرة
على إيقاع الطبول انطلق العرض المسرحي بإعلان السلطان ابوزكريا الحفصي عن توليه السلطة ليبني تونس على أسس العدل والانصاف والعناية بالرعية وبالبلاد وبالناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الفكرية ومن هنا تتحدد وجهة المسرحية التي أرادها عزالدين المدني نحو مسرحة أهم فترة من فترات تاريخ تونس يستلهم أحداث الماضي للتعبير عن الحاضر وبين الماضي والحاضر ينتصب جسر التراث بوصفه ممرا يوصل بين العالمين البعيدين عن بعضهما البعض مبديا استمرارية الماضي في الحاضر وفق علاقة جدلية تعري الواقع، وتكشف عيوبه
وتروي فصول المسرحية كيف أصبحت الدولة الحفصية في عهد أبي زكرياء الحفصي مستقرة سياسيا وحققت رخاء ماديا محترما وأصبحت مرهوبة الجانب، تسعى الدول الأوروبية إلى كسب ودها، خاصة التي تربطها بها مصالح اقتصادية وسياسية وقد استقبلت دولته مسلمي الأندلس الفارين من غزو النصارى، وكان من بينهم مهندسون وحرفيون ، يحملون عناصر حضارة راقية، فنقلوا إلى الدولة الحفصية مكونات حضارتهم وثقافتهم، كما تولى بعض الأندلسيين المناصب القيادية في الدولة، مثل ابن الأبار الذي تولى الكتابة لأبي زكريا الحفصي ولكن إثر وفاته خلف ابنه المستنصر بالله الذي لم يحافظ على هيبة الدولة وانغمس في الملذات وترك الحكم بين أيدي هواة السياسة .
في تعريف سابق لعزالدين المدني للتاريخ يؤكد بأن (التاريخ، بمعنى الماضي والحاضر والمستقبل، يعمل عمله في الكتابة. يكفيها، يصقلها، يخيلها، يرفعها، يهتم بها، ينفخها، يكسرها، يخفضها، يثريها، يصبرها، يضخمها، يحفظها، يختزلها، يمططها، يجودها، يجملها..)
ومن خلال مسرحية أم البلدان ظل عزالدين وفيا لفلسفته ولفكرته ولطريقته في الكتابة ذات الايقاع السينمائي التاريخي مع المحاكاة و الاستعارة التاريخية للحديث عن الراهن في التحول من مشهد الى اخر و من حوار الى اخر ومن خلال كذلك رفع التراث التاريخي إلى مستوى حداثة الرؤية تلك الحداثة التي تنزع عن التاريخ طابع الجمود لتبرز قدرتها على الإيحائية في التعبير عن الحاضر والمستقبل .
سينوغرافيا رقمية ورؤية اخراجية مبتكرة
هذا على مستوى النص وعمق الفكرة والطرح أم على مستوى الإخراج هنا تكمن الطرافة وصدمة المشاهدة إذا اعتمد حافظ خليفة على سينوغرافيا رقمية أشبه بمقاطع سينمائية على خلفية الشاشة و لوحات راقصة مرافقة للمشاهد التمثيلية تتقاطع فيها الإنارة مع الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية وملابس مبتكرة تعطي للحقبة التاريخية مكانتها ولبعض الشخصيات رموز وايحاءات
وقد ارتكز حافظ خليفة في عملية اللعبة الدرامية على امتداد ساعة والنصف على التمازج بين الممثل والشخصية انطلاقا من نص ثري مربك يحيلنا بشكل مباشر الى وضعنا الحالي و ما فيه من تقلبات سياسية و صلابة الكيان السياسي والجهود التاريخية التي عرفتها بلادنا إبان تأسيس الدولة من ابو زكريا الى عهد بورقيبة .
وانطلاقا من فكرة توظيف المادة التاريخية وليس التأريخ نزع حافظ خليفة إلى تجريد جميع الشخصيات من الجانب التأريخي و تمت محاكاتها كشخصيات درامية فاعلة في أحداث خطيرة ومعاصرة لوقائع تاريخية صحيحة وقدمها كشخصيات سياسية تحاول الاجتماع من اجل بناء اللبنة الأولى لدولة جديدة .
هذا بالإضافة إلى السينوغرافيا الرقمية المتحركة والمبتكرة التي ساهمت بشكل كبيرة أولا في ابراز القيمة الجمالية للمشاهد التمثيلية والتي بينت مدى ثراء الصور الرقمية في ملء الفراغ الركحي وإحداث الفارق مع امتاع العين .
وثانيا في الأبعاد الرمزية للوحات من حيث تثمين التراث المعماري لتونس انطلاقا من أبواب تونس العريقة باب بحر وباب سعدون وباب الخضراء وباب بنات كذلك سيدي محرز وجامع القصبة ، والابعاد الرمزية للأحداث المتواترة مثل لوحة الخفافيش عند دعوة أبو زكريا للتصدي للإرهاب ولعنة الإرهابيين أو في اللوحة الأخيرة عند تعذيب وقتل الشاعر الاندلسي ابن الأبار .
وطبعا صورة الختام علم تونس المفدى للدلالة على ان تونس تظل أم البلدان منيعة سالة على مدار الزمان ورغم تعاقب الحضارات .
فنطازيا تاريخية على مستوى الملابس والحوار والكوريغرافيا
من نقاط القوة أيضا المسرحية الملابس المبتكرة للمصممة امال الصغير من خلال التصاميم المميزة لكل شخصية وحسن اختيار الإكسسوار والالوان المرتبطة بالأحداث ومواقع الاضاءة علي الركح والتي ساهمت في تكوين الصورة المرئية للعرض وجعلت من الشخصيات السياسية ذات فخامة وهيبة وأعطت لبقية الشخصيات أبعادا جمالية مما يدل على أهمية البحث الذي قامت به لمحاكاة لباس تلك الفترة من التراث الإسلامي العربي والتراث التونسي القديم .
إضافة إلى ما سبق فقد جعل حافظ خليفة من العرض المسرحي فنطازيا تاريخية وذلك من خلال المراوحة بين الدراما والكوميديا وبين اللوحات الكويغرافية الاحتفالية الراقصة واللوحات الكوريغرافية الدرامية ذات المنحى الرمزي وقد تم تقديم رقصات كوريغرافية جماعية أمنتها شيماء العوني وقام بالأداء هيثم البوغالمي ، ياسين القاسمي ، نورة الخماسي ، حليمة الدريدي و سلمى بهلول.
ورقصات كوريغرافية فردية الأولى رقصة التنورة وهي رقصة ايقاعية تؤدى بشكل إما جماعي أو فردي بحركات دائرية، تنبع من الحس الإسلامي الصوفي ذي أساس فلسفي ويرى مؤدوها أن الحركة في الكون تبدأ من نقطة وتنتهي عند النقطة ذاتها ولذا يعكسون هذا المفهوم في رقصتهم فتأتي حركاتهم دائرية وكأنهم يرسمون بها هالات يرسخون بها اعتقادهم يدورون ويدورون كأنهم الكواكب سابحة في الفضاء.
ورقصة السطمبالي ( أحمد روين) وهي ما يعبر عنها بموسيقى الزنوج وهي من أرثنا الموسيقي القديم وتعتبر تطهيراً روحياً من قرقعة سلاسل العبودية التي رافقت رحلة السود والأحباش القادمين من جنوب شرق إفريقيا وبحيرة التشاد إلى أسواق النخاسة وقد كان هؤلاء يطرقون سلاسل الحديد ويرافقون الإيقاع بهمهمات تكتنز ألماً وغضباً
حوار متين وموسيقى تصويرية تعتمد عنصر المفاجاة
أما بالنسبة للحوار فقد جاء بالثراء الذي أعطى عزالدين المدني للمخرج حافظ خليفة أجنحة حلق بها عبر أزمنة الماضي والحاضر إذ عمد مرة أخرى ( بعد تجربة نص رسائل الحرية ) الى تنقية نصه المسرحي من فائض الأفكار والكلمات فبدا نصه متماسكا إذا حذفت أو أضفت كلمة أو جملة يحدث خللا في البناء الدرامي وهذا ما يسميه هو شخصيا بحوليات النص المسرحي ومن هنا كانت لعبة حافظ خليفة في المسك بزمام الأمور ليحدث التوازن بين الرؤية الاخراجية المعاصرة وبين اللغة المعتمدة من حيث الكلمة الدرامية (المباشرتية) المؤثرة وبين الكلمة الدرامية متعددة المستويات والمعاني ( التأويل)
وبين هذا وذاك تم الاعتماد على مفردات هي مزيجا من اللغة العربية المتينة ومن المصطلحات ذات الإيقاع العصري إضافة إلى تعمد انتقاء بعض الحوارات الطريفة باللهجة الدارجة المحلية والتي تفاعل معها الجمهور بالضحك والتصفيق
أخيرا تعتبر الاختيارات الموسيقية من أسباب نجاح هذا العرض إذا اعتمد الدكتور رضا بن منصور على فكرة النص الدرامي والنفس الموسيقي وفي كل لوحة ومشهد ثم اشتغل على عنصر المفاجئة في رؤية فنية تتضمن موسيقى تصويرية وموسيقى ايقاعية وموسيقى تسعى نحو البحث في الثقافة الفرجوية والموسيقى البدوية والتراثية والايقاعية والكلاسيكية وما تمثله كرافد من روافد الثقافة الوطنية والعربية .
ولا يفوتني التنويه بالمرافقة الموسيقية الحية على امتداد ردهات المسرحية والتي أمنها الفنان ابراهيم بهلول ضابط الايقاع وأستاذ الموسيقى والباحث في التراث .
نجوم المسرح يحلقون في سماء الابداع
اختار المخرج حافظ خليفة قامات في المسرح التونسي وشباب قادر على أخذ المشعل والتحليق مع القامات عاليا في سماء الابداع فلم يكن من السهل على حافظ خليفة اختيار الأسماء التي ستؤدي شخصيات مسرحية ام البلدان وبعد بحث وتمحيص نجح في اختيار مجموعة متكاملة متجانسة متحدة شكلت نسيجا دراميا متكاملا فوق الركح وهم على التوالي عزيزة بولبيار وجلال السعدي ومحمد توفيق الخلفاوي ونور الدين العياري وعبد الرحمان محمود وجميلة كامارا ونزهة حسني وشهاب شبيل وكمال زهيو وآدم الجبالي وعبد القادر الدريدي وفاطمة الزهراء المرواني وعبد اللطيف بوعلاق وعبير بن صميدة وأحمد روين وشيماء السماري ومجدي محجوبي ومحمد يوسف وبن عزيز وسيف الدين الوجيهي .
عندما يكتب التاريخ من جديد
بإمضاء عزالدين المدني وحافظ خليفة
لئن انتهى العرض المسرحي على الركح ولكنه أشعل فتيل البحث وشرارة التفكير وفتح أبواب والتأويل والتساؤل حول الوضع الراهن لهذا الوطن الحبيب الذي كان بالأمس منارة عالمية ومركزا للخلافة وقوة سياسية يقرأ لها ألف حساب .
صحيح أن مسرحة التاريخ ليست غاية عزالدين المدني وحافظ خليفة معا وإنما هدفهما الحقيقي هو إعادة التفكير في التراث وفق آلية الهدم والبناء ان صح التعبير أي هدم وجهة نظر تاريخية، وبناء وجهة نظر بديلة بوعي فكري متأمل
محاورين كل المفاهيم ومسائلين كل الشخصيات بشتى انماطها و اختلاف اغراضها حول هذا المفهوم الا و هو “السلطة” و مفهوم بناء دولة جديدة بمجتمعات لا تملك الخبرة الكافية في اللعبة الديموقراطية و تستظل احيانا بقوى خارجية مع ابراز المخاطر التي تحيط دائما و ابدا بتونس قديما و حديثا.