نص مسرحي: “شهيد على قيد الحياة” / تأليف: علي حسين الخباز
(يفتح المسرح على فضاء مفتوح / صحراء قاحلة، تسلط الإضاءة على جدران منزل فقير، جدار علق عليه سيف قديم، وبندقية مركونة في مشجب على زاوية ظاهرة / وعربة معوقين مركونة في زاوية ظاهرة، وبعض الأحذية رتبت باعتناء)
(في أحدى زوايا المسرح موضع قتالي صغير / صديقان يرتشفان الشاي في استراحة البيت يرتدي مجاهد عبد الله الدشداشة البيضاء ويرتدي علي عبد الرحمن قميصا وسروالا، يقرأ مجاهد في دفتر الذكريات منزعجا / يرمي الدفتر جانبا، على طول المشاهد كلها أصوات قصف بعيد وأصوات رصاص ومجاهد يؤدي الدور عن جلوس)
مجاهد: (بأسف) ما عادت الذاكرة تسعفني بشيء لأرى الضوء الساكن في أعماقي، أو علني أسمع صوت أذان
صوت: (أذان) الله أكبر … الله اكبر
علي عبد الرحمن: (يرفع المفكرة ليقرأ فيها) لا أحدا ينكر الصبح والوجد المعرش بالوجدان
مجاهد: مد كفيك لغربة روحي، للفجر الذي تتغزل فيه.
علي: (ينظر بمودة) كل همسة من همساتك وجدان أنت كنت دليلنا وقد عشنا الكثير ورأينا الكثير من المحن، كنت تجتازها بما تحمل من صبر وايمان.
مجاهد: (يأخذ المفكرة يقلب بها يبدو أنه غير مقتنع) لا أدري
علي عبد الرحمن: كنا نبحث في عينيك، لأننا نرى فيها العالم كله. نرى مواقدنا المخبوءة بين الضلوع، نرى فيك الصبور المجاهد الذي يزيل البؤس ونيران الأحزان ويقاوم.
مجاهد عبد الله: (يستعيد الذاكرة / بممثل بديل يقف عند ساتر الخيمة حاملا سلاحه) إياكم والعدو، تيقظوا من صدف الغفلة فهو كالشيطان دائم البحث عنها ليتسلل منها إلى قلب المعركة، (برهة صمت) ضعوا بين أعينكم كل الاحتمالات فهو من كل الجهات قد يأتي، صرت أخشى أن يخادعنا بالنهر الذي يسري.
علي: النهر يا مجاهد؟
مجاهد: لم لا ربما سيأتيكم مع الفرات، فمن خان مرة له القابلية أن يخون، ليذبح ثانية لنا القمر الذي استعاد عافيته وتجاوز الجرح بصبر المؤمنين، ولينهض سهم حرملة هذه المرة بدمع الأمهات.
علي عبد الرحمن: (يمسح دمعة مجاهد، يغسل وجهه) يقظتك كانت بمنزلة الشمس يعيش فيك حب الله ويعلو صوت الشهيد
مجاهد عبد الله: وأنا أين كنت عني، ساعة التي هربت بها من الحرب؟
علي: (يرفع المفكرة / يقرأ فيها) الشمس حين تغطيها الغيوم لا يعد مكوثها خلف الحجب غيابا، بل ستظهر أقوى وأجمل
مجاهد: أنا كنت أؤمن بعمق الوجد والوجدان، عند هيجان النخيل ستفتح الجنة أبوابها للنور القادم من وثبة شهيد.
علي: (يعمل لمواساته) وكنت بعضه في كل حين
مجاهد: الشهيد هو أجمل صوت تألفه أبواب الفقراء بكف الدعاء ويفاعة الحنين، ها أنا أبحث عنه في داخلي الذي مات. (يرجع يقلب بالمفكرة) خذ اقرأ… بعد تلك الليلة التي هربت بها من الحرب، بدأت مأساتي الكبيرة تطغى على حياتي
علي عبد الرحمن: (يقلب بالأوراق بقدسية ومحبة وحنين) أنت ما عدت كما كنت تحشد في مفكرتك روح الحماس، ما عدت ترى ما نراه من معاناة ثائر توج هامة كل حرف من حروف هذه المفكرة.
مجاهد: مفكرة لا تختلف عن بقية مفكرات الحشد، هي مفكرة، فلا تلفظ اسمها وأنت تنفخ أوداج الزهو
علي: (بحزن شديد / يضرب كفيه) كنت تبكي خشية أن تفقد يوما روح الثورة التي فيك، تحمل أحزان الصابرين (يرفع المفكرة) اقرأ رعشات الغضب حين كنت تسمع صرخة أم تستغيث، والأكوان كانت تبتسم بوجه العراق، لأنه شيد من دمه مرتقيات السبيل
مجاهد عبد الله: (يضحك بمرارة) وكإنك تشفق علي، تواسيني، تواسي انكساري عن المواجهة وانسحابي إلى الوراء هاربا، تحت عناوين تواسي الخائبين، (يضحك) أكيد ستسمي انسحابي لحظتها بالانسحاب التكتيكي
علي عبد الحمن: لا، لقد تجاوزت لمرات عديدة مواكب الرحيل. كنت تروح لتأتي كثرت الجراح المميتة في جسدك تنهض لتعود.
مجاهد: إنها الحرب
علي: لها قوانين معلومة في ضمير الكون
مجاهد: (ينظر بحزن إلى المفكرة) تحدث ما شأت، فلغة العطف قد تسكت وجعا لكنها لا تقدر أن تأوي مرابع النزيف
علي: عمر الشهادة ما كانت لغة عطف
مجاهد: (صمت عميق / يبكي / يعلو البكاء) هذا الدم الصارخ في منبع كل شهيد يصرخ وجدانا لا يهدأ، ولا يسكت أبدا فهو لا يرحمني لحظة. (يسلمه المفكرة) تقرأ ماذا؟، والمواقف كلها حلقة تربط حلقة، أي حلقة فيها لو حذفت لانهارت كل المواقف وانكبت على وجهها دون مغيث
علي: أنت البطل مجاهد
عبد الله مجاهد: أي بطل هذا الذي يهرب يا علي، أنا هربت قبل أن أصل إلى كربلاء
علي: (يحدق في المفكرة / وكأنه عثر على شيء مهم يبتسم / يقرأ بصوت مسموع) أقسم بالله العلي العظيم وهذا العهد مني إلى يوم الدين سأقاتل حد النفس الأخير، والله لن أسلم للخائبين نخيل العراق.
مجاهد: وماذا بعد؟
علي: (يقرأ في المفكرة) لا أحدا فيهم مثلي يعرف الدرب نحو قلب العراق، ضيع الخائنون الطريق
مجاهد عبدالله: كنت طفلا صغيرا أصطف هادئا أردد بخشوع وطن واحد.. أم كبرى شعب واحد.. يأبى الشرا (يعزف النشيد) وطن واحد هدف واحد شعب واحد وطن واحد ربما اكتشفت ببراءتي ان النشيد مجرد كلمات
علي: فطنة مبكرة
مجاهد: تآمروا على العراق، وخانوا ثم عادوا ليكثروا فينا الشقاق،
علي: (يقرأ في المفكرة) هناك الكثير من تآمر على بلدي
مجاهد: حين يسفك دم شهيد لا يسأل أحد عن هويته عن دينه ومذهبه سني ــ شيعي ــ مسلم ـــ مسيحي ــ صابئي من الاقليات ليكن ما يكون يقال سقط اليوم من شجرة العراق شهيد
علي: لقد أدرنا ظهورنا عن الزيف، ولم نبال يوما بمن باع ضميره وخان، كنا ننظر بعشق إلى نخيل العراق (يقرأ في المفكرة)
مجاهد: نخيل العراق أصدق النخيل
علي: هكذا علمتنا.. أصدق نخيل الكون نخيل العراق، كنت تعشق اللون الأبيض كونه يمثل الموكب الأبيض الافق لذلك كنت تعشق الكفن
مجاهد: أصدق الألوان لون الكفن أبيض كالحليب
علي: سالتك لحظتها عمن يموت ولا يملك الكفن قلت لي
مجاهد: ما أجمل الانسان حين يكفنه التراب يكون لحظتها هو الوطن
علي: ما أنبلك
مجاهد: من؟
علي: أنت
مجاهد: (هستيريا عالية يهدأ شيئا شيئا) أنا لم أتذكر الحرب
علي: ذاكرة الشعوب
مجاهد: ولا أعرف معنى الحرب
علي: أنت كل معناها
مجاهد: وما الذي قدمته لإنسانيتي ولمعنى انتمائي (تتحرك بقع ضوء احمر تتوزع الخشبة، زعيق يملأ المسرح) آخ…آخ …آخ
علي: (يعانق مجاهد) أسم الله، اسم الله، اسم الله، ما بك ما الذي حدث
مجاهد عبد الله: (يفتح عينيه مرعوبا) أنا لم أرك في حلمي، كنت وحدي، لا تتعب نفسك معي، أنا جبان، جبان (بصوت عال) جبان مهزوم، هارب من المواجهة خائف من الموت
علي عبد الرحمن: الحلم اليافع يكون ظلا لكل الجراح
مجاهد: (يريد أن يتكلم) علي
علي: (يقاطعه) حتى البلابل كانت تقاتل معنا، وهي تستنكر الحرب، تصرخ في وجه الشمس لأنها تحب الحياة
مجاهد: أين انا؟
علي: الليل لا يمكن أن ينسي العالم فضل الشمس وأنت حملت الألفة معنى من أسمى معانيك، مقاتل عجيب
مجاهد: أنا؟
علي: نعم أنت من دون كل مقاتلي العالم، تقاتل والحب يسع عندك أحداق المصير
مجاهد: لكن ذهبت ولم أعد
علي: النصر أول أحلام الشهداء، لهذا ميز الله الشهداء عن الموتى
مجاهد: (يثور تارة يضحك وينقلب الضحك إلى بكاء) وأنا بأي زاوية تضعني يا علي؟
علي: الربيع الدائم الذي تحسده الفصول
مجاهد: (يستذكر) عشنا في الجبهة سنوات، كنا نشعر أن السماء كانت قريبة عنا، وخاصة عند المعارك تكون السماء أقرب بحيث أننا نستطيع أن نقطف من السماء ما نشاء من النجوم
علي: يستغرب العالم كيف يوفق العراقيون لامتلاك الحزن والعشق والطيف.
مجاهد: تذكرت.. إني كنت في الحلم أركض حافيا، ولا أعرف بأي اتجاه كنت أركض ربما باتجاهات عديدة، كنت أرى الأرصفة تركض معي (برهة صمت) لا أعرف معنى أن يركض الإنسان حافيا في الحلم
علي: (يبتسم كمن يحلم) تفسيره خير، بمعنى أنه ينزع عنه شيطانه ليصبح ملاكا، والتحفي يعني نزع الشر.
مجاهد: وهل يعني ذلك أن الله يغفر لمن يدير الظهر للحرب مثلي، ويرجع دون أن يخاف الله، الوطن، التأريخ الذي لا يرحم الهاربين، وخاصة نحن في أول الدرب، ضاع صوتي وسأذهب إلى الثرى أحمل أناي جرحا لا يهدأ.
علي: هي هواجس ثائر عرك الدرب، وعرف حزن الرمل حين يشرب دم الجرح، أنت ملأت الفضاء صرخات بطولة
مجاهد: (يجلس على الأرض يرفع بيديه التراب يشمه / يبتسم) علي لقد كان على مقربة مني رجل النور، وأنا أحاول أن أرفع قامتي المتعبة، وهي تريد أن تنام على عشب الأرض، وأنا أرفعها كي لا أطيح، كنت أنثر الروح خلفه، وأناديه سيدي انتظرني ارجوك، استحلفك بدم كل شهيد خذني معك (مع علي) رحل رجل النور ولم ينتظرني، لماذا لم ينتظرني؟، وأنا منذ أول يوم وطأت قدماي الجبهة، أنتظره لأرحل معه، ربما لم يحن يومي بعد؟
علي عبد الرحمن: (ينظر بدهشة) تلك الهواجس التي هي قلب ثائر، وهج الشهادة في صحوة الضمير.
مجاهد: أنت تحمل الحلم والأماني بلوعة روحي، نسيت أن أخبرك، كانت هناك حمامة بيضاء بقربي، أداعبها فتلاعبني، تحط قريبا عني ثم تطير بعيدا لتعود إلي، كنت أرى الدموع بعينيها أشعر بالأنين
علي: تفسيره خير ان شاء الله
مجاهد: (يقاطعه) كل التفاسير تسكب ضوء البهجة على قلبي وتمسح دموع العين، أنا سأستشهد قريبا، سألم الندى وأفتح شرفات القلب لهذا السمو القادم مع الصهيل (برهة صمت / يمسح دمع عينيه) كانت أمي تقول حين تصعد روح الشهيد لله سبحانه، تنزل على شكل مطر يسقي الزرع فيثمر الشجر
علي: لقد أظهر التأريخ أن الشجر كربلائي
مجاهد: (يبتسم) كربلائي
علي: أي وعيونك.. لذلك ترى ابتسامة الطين على جذر الشجر
مجاهد: (برهة صمت وابتسامة) وهل هناك جذر شجر بلا طين
علي: إلا في كربلاء، فالطين المعرش في جذر الانتماء صلى معه الدم حتى صار يسكب الضوء في مقل الناظرين
مجاهد: ولهذا جئنا إلى هنا
علي: من أجل أن تحيا كربلاء في ذاكرة الشمس، وتغسل قلوب المدن كل صباح (برهة) جئنا إلى هنا لنستشهد
مجاهد: لكني بقيت من دون صحبي كلهم رحلوا وتركوني
علي: أنت شهيد
مجاهد: شهيد؟
علي: نعم شهيد
مجاهد:شهيد وعلى قيد الحياة؟
علي: منذ أول الجرح وأمك تتصل لتطمئن على وجودك (يقلد صوت الأم) ألو مجاهد… (شلونك) قلقت عليك، ألو مجاهد لماذا لا ترد
مجاهد: أمي؟
علي: عيونها لا ترى غيرك في هذه الحياة أسمعها تنادي ولدي عساك بخير
مجاهد: وأنا أين كنت.. لماذا لم تخبرني حينها؟
علي: لأنك كنت دما يسري في وريد شهيد، كنت جرحا ينهل من دمه الفرات، أنت لم تهرب يوما من المواجهة بل غيبتك الجراح، (برهة) دون دمك لما كان في الكون عراق، ولما كانت كربلاء، ولا رأيت قباب المجد تبتدأ الزائرين بصباح الخير، لمات حتى السلام،
مجاهد: سأروي لأمي الحلم (برهة) سأحدثها عن رجل النور، كيف كان ينظر إلي، وأنا أركض خلفه، فلا أصل إليه أمي.. كنت أركض خلفه حافيا علي: لأنك كنت تسمو ارتفاعا كما الشهداء
مجاهد:تذكرت (برهة صمت يستذكر من خلالها) كنت أركض خلف رجل النور وقدماي لا يمسان الأرض، يا إلهي كأني كنت أطير خلفه، ذاكرتي بدأت تستعيد المشاهد مشهدا مشهد، تستعيد كل همسة في محاور القتال، كل صبر عند الشدائد، كل قبلة وضعتها على خد ضريح (مع الجمهور) جئتك كربلاء بعدما زرعت قدمي على خاصرة المدن والقرى المحررة بالصبر والصمود، زرعتها راية شامخة كربلائية الوجود في كل المدن المحررة وجميع القرى والمزارع والحقول، لي هناك قدم تطوف بعين البلاد لكني ما زلت أسأل لم عجز الجميع عن تفسير حلمي؟
علي: الحلم واضح ولا يحتاج إلى تفسير، وإنا جئت اليوم من أجل هذا الحلم، (برهة صمت) سأجلب لك العربة (يجلب عربة المقعدين) اليوم موعدك مع الطبيب ليوقف النزف ويجدد لك الضماد.