البناء الفني في مسرحية ديو دراما “في الاثر” أو “باع دنياه بآخرته، فضمن الدارين” للكاتب جبار القريشي / طالب عمران المعموري
عند تتبع مقومات نص مسرحي يتبين لنا ان النص وحده بتركيبته ولغته وصوره واستعاراته هو وسيلتنا الوحيدة لفهم ما يهدف اليه الاثر الفني من معنى، وهو في نفس الوقت مفتاحنا لفهم الشخصية وتحليلها، وابراز ملامحها وخوالجها النفسية .. وان الحوار الذي يجري على السنة أشخاص المسرحية ليس مجرد وسيلة للتعبير، وانما هو رموز تنبئ عن مكنون هذه الشخصية أو تلك، وصور تبسط مكنون النفس الانسانية أثناء اصطدامها بالأحداث والوقائع التي تجري في حياتها..
هذا ما نلمسه واقعاً في مسرحية ثنائي الأبعاد، او ديو دراما بعنوان ( في الاثر).. للكاتب جبار القريشي ..
مصطلح “ديو دراما” (بالإنجليزية: Duo Drama) يُشير إلى نوع مسرحي يعتمد على ممثلين اثنين فقط على خشبة المسرح. ومن خصائص هذا النوع من المسرحيات هي:
الحميمية: التي تُتيح قلة عدد الممثلين إمكانية خلق تجربة مسرحية حميمية ومكثفة، حيث يركز الجمهور على تفاعل الشخصيتين فقط.
التوتر: غالبًا ما تكون مسرحيات ديو دراما مشحونة بالتوتّر، حيث يُجبر الممثلان على حمل عبء السرد وتطوير الحبكة وإثارة مشاعر الجمهور.
الاستكشاف النفسي: تُتيح مساحة المسرح المحدودة فرصة للتركيز على الاستكشاف النفسي للشخصيتين، ودراسة دوافعهما وصراعاتهما الداخلية.
التنوع: على الرغم من بساطة الشكل، يمكن لمسرحيات ديو دراما معالجة مواضيع متنوعة، من العلاقات الشخصية إلى القضايا الاجتماعية والسياسية.
بناء الفعل الدرامي
تُعدّ مسرحيات ديو دراما عنصرًا هامًا في المسرح العالمي، فهي تُقدم فرصة فريدة لاستكشاف العلاقات الإنسانية المعقدة، ان ما يقوم فيه الكاتب من اختيار جوانب الفعل المثيرة والمركزة، والتي تستطيع أن توحي اليك بالمغزى العظيم المليء بالمعاني .
تعد مسرحية في الاثر.. بفصليها للكاتب جبار القريشي من التجارب المسرحية التي تدور أحداثها رحلة صحابي جليل تحت مسمى الشيخ بصحبة شاب من اجل اللحاق بركب الحسين عليه السلام ومناصرته الذي لم يكن معه سوى أهل بيته الذي رفض فيها الحسين بن علي مبايعة يزيد والتي تنتهي باستشهاد الحسين عليه السلام وأهله وأصحابه الذي صار نموذجا للتضحية من اجل الحق والعدل والوقوف في وجه الباطل والظلم .
يحاول الكاتب ان يحاكي هذا النص المأثور بأسلوب فطن واستعمال سليم له، فهو لم يعد التقليد الحرفي وانما يحمل معنى الخلق الفني فهو ليس مجرد اقتباس وانما العبرة برفع هذه الحوادث المختارة والهامة الى ذروة الاثارة والفن.. فهو يخرج لنا القصة المأثورة داخل مسرح مبني له حدود وأن من يقوم بأدائها على المسرح ممثلون لهم طاقاتهم أمام جمهور وبهذا حدد لنا الكاتب المسرحي نطاق عمله المسرحي المتمثل في العناصر الثلاثة، الممثلون والمسرح والجمهور ولهذا كان فن المسرحية اكثر الفنون استعصاء على كاتبه واشد حاجة الى مهارة فنية خاصة تستطيع أن تؤلف بين عناصر هذا الفن المتشعبة من قصة وممثل ومسرح وجمهور وحوار وبتعاون كل هذه العناصر بانسجام وتناغم يصل الكاتب الى عمل فني متكامل
اعتمد الكاتب في العنصر الاول وهم الممثلون شيخ وشاب وصوت والقيام بفعل التوصيف للشخصية والذي يتبين لنا من خلال الفعل المسرحي الذي قدمه :
(يظهر لنا شيخ كبير بملابس كأنها تعود بمظهرها للعهد الاسلامي الأول، قميص طويل، وإزار، وعمامة، وسيف مغمود يتدلى على جانبه معلق في رقبته، يجوب الصحراء، مشيا على الاقدام، يرافقه غلام بدوي بهيئة جميلة، يحمل على ظهره جود ماء، وعليقة متاع، ويجري نشطا، الشيخ تبدو على ملامحه الهيبة والوقار، يحاول أن يجِّّد السيرّ، ويسارع الخُطى لكن قدماه يخذلانه، ينظر بين الحين والحين مستطلعاً مسالك الطريق واتجاهاته، يتضورُ جزعاً وينفُث سَنا الحسرات، ويجلد ذاته بسيل الأمنيات المحالة، الشاب يمشي الى جواره، ويسبقه أحيانا، كأنه يحاول أن يسحب الشيخ سحبا.).
استطاع الكاتب ان يبرز الجوانب الداخلية جانب التأثير الدرامي الذي نشأ من اختيار الحوادث الدرامية التي تهز المشاعر في رحلة التحاق صحابي جليل في أمل اللحاق بركب الحسين عليه السلام ومناصرته من خلال الحوارية التي استهلها كمدخل للمسرحية والذي يجسد ذلك الحوار والكلام من معان ومشاعر وأفكار :
(الشيخ كأنه يحدث نفسه..).
” الشيخ: واحسرتاه، ليتها المسافات تطُوى، ليتَ ساقاي تسُعفني لأحثِّ الخُطى، وأضاعف السير، عَلِّي ألَحَقُ بركبِّ من ساروا الى كوفان، ومعهم سار مركب الإيمان كله.
الشاب: لا أمل في اللحاق بهم ما دمت أنك لا تقوى على الجري يا جداه.
(الشيخ يهز رأسه وينظر الى الشاب متحسرا، لكنه لا يجيب، ويبدو عليه أنه حزين موجوع، يرفع هامته وكفاه للسماء، وعيناه مغرورقتان بالدموع.):
الشيخ: رباه.. إن لنا أرواحا تعلقت بِّهِّم، وقلوبا تقطرُ شوقاً للِّقائِّهِّم، فأعِناّ على السيرِّّ لنلحقَ بركبِّهِّم، ونحظى بشرف خدمتهم”
ومن ذلك المثل يتضح للقارئ والمشاهد المضمون الخاص للتأثير الدرامي والتي تستعمل لوصف المشهد الذي يتضمن هزة خاصة في المشاعر ويثير ألوانا من الاحاسيس أقوى مما يثيره مشهد عادي
وهكذا فان المسرحية تمدنا بسلسلة من الهزات الوجدانية التي تختلف احداثها باختلاف حدة الانفعال الناشئ عن هذه الاحداث ومسرحية كمسرحية (في الأثر) أو..(باع دنياه بآخرته، فضمن الدارين) التي تضمنت المسرحية فصلين تناولت حادثا تاريخيا مؤلما، مليئة بمثل هذه المشاهد الدرامية الحزينة والمؤثرة التي تهز الضمير الانساني من هول الفاجعة والمقتلة العظيمة لحفيد المصطفى وابناءه واصحابه :
“- وا أسفاه!!، ما منعني سيدي، ليس خوفا من موت، لا والله، ولا طمعا في دنيا فانية، لكن الاقدار حاكمة، والأمر كله لله، ولله مشيئة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.”
واما العنصر الثاني وهو مكان العرض الذي يحدد نطاق العمل المسرحي يبرز لنا الكاتب بابراز جوانب من قوى الطبيعة والذي قدمه لنا الكاتب في الفصل الاول من خلال بيئة العرض والتوصيف المكاني :
(المسرح بتأثيثه المكاني عبارة عن صحراء، تنتشر على مساحتها بعض العليقات الصغيرة، وصخرة بحجم معين تنتصب في الوسط) يحاول الكاتب المسرحي جبار القريشي أن يحصر مناظر قصته المأثورة وأفعالها داخل حدود هذا البناء .
وما قدمه في نهاية الفصل الاول
(فضاء المسرح يترآى بين إشراق وإظلام، والشيخ ومن يرافقه يظهرا بأحوال متعددة، ماشيان، راكضان، جالسان، ممددان، نائمان، مع ايقاعات تتسارع وتتهادى حسب المشهد.).
تمهيدا لفضاء مسرحي للفصل الثاني وبتوصيف مكاني وعرض مشهدي درامي لنهاية المعركة يحرك المشاعر ويؤجج العاطفة .
(يتغير فضاء المسرح، ويبدو بتأثيثه المكاني عبارة عن ميدان حرب تتزاحم على أديمه آثار حوافر خيل، وأقدام جند، ومخلفات أسلحة بدائية محطمة، نخلة نبتَّ في جذعها عددا من النبال، خِرَق ممزقة علقت في سعفها، وبعض الشجيرات هناك نبتت على ضفاف نهر جاري.).
العنصر الثالث وهو الجمهور ومن ابرز الالتزامات التي يفرضها الجمهور والذي يضعها الكاتب في نظر الاعتبار كما يضع كاتب القصة قارئ ضمني في مخيلته وهنا في النص المسرحي على الكاتب ان يحدده بزمن معلوم فلا يجوز أن يطول الزمن الذي تستغرقه المسرحية حتى لا ترهق أذهان المتفرجين وأبدانهم .. يحاول الكاتب في هذا الوقت المحدد بطريقة تكسبها القوة والاثارة والتركيز. وبتكريس الطاقة الاخبارية التي تتمثل في اختيار جوانب الفعل المثيرة والمركزة.
اللغة الحوارية
اشتغل الكاتب على التركيز على البنى النصية المؤثرة حيث تناول المادة التاريخية المأثورة وصوغها في مسرحية وهي وان لم تبلغ حد الكمال في بعض تفصيلاته، فأنها كتبت ببراعة تجذب المتلقي والمشاهد واضفاء عليها من فنه ما يستطيع ان يجعل من شخصياته حية تنبض بالحيوية والاثارة الذي يحاول فيها استخدام العامل غير المتوقع والذي من شأنه أن يؤدي الى الصدمة العاطفية أو الذهنية ويبعث في المتفرج حدة الانفعال بالأحداث، لما يسود التراجيديا للجو العام للمسرحية من مقتلة عظيمة للحسين عليه السلام واصحابه، باستعمال لغة بسيطة سهلة ومباشرة، من خلال الحوار والذي يعد من العناصر المهمة التي ينبغي على الكاتب أن يعنى بها عناية واضحة، وهو الآلية التي يصور بها الكاتب الحدث ويثبت فكرته ويحرك الصراع ويرسم الشخصيات والبناء المسرحي الذي ينمو والمواقف تتشكل من خلال تفاعل الاحداث والشخصيات فان الحوار هو وسيلة هذا التفاعل التي تتناسب مع الحالة النفسية واختلاف المواقف وكذلك في الدلالة على عقلية المتكلم ومستوى ثقافته التي تحدد طول وقصر الحوار، له صفة التركيز والبعد عن الحشو والكلمة الزائدة او المعنى المكرر، كون اللغة هي مستودع عواطفنا وأفكارنا وانها وسيلة لرسم الشخصيات وتصوير الاحداث وتحديد المغزى العام للعمل المسرحي.