تمسرحات على شفاه الذاكرة / علي حسين الخباز
يتجلى المسرح كفن تعبيري موجه، بما يملك من ابداع مؤثر، يساهم في تطوير الفكر، ويسهم في بناء الهوية الوطنية، ولعالم الابداع العراقي أسماء وأجيال حية، عمرت وشائج الفكر الإنساني مع التجربة العراقية، بدءاً من الجيل الأول لرواد المسرح العراقي مثل: إبراهيم جلال، وجعفر السعدي، واسعد عبد الرزاق، وغيرهم.. الذين شكلوا بداية الوعي الاخراجي وفق أسس علمية اكاديمية، ثم جاء الجيل الثاني الذي بلور التجربة العالمية مثل: بدري حسون، وسامي عبد الحميد، وخليل شوقي، وقاسم محمد، وعوني كرومي، وفاضل خليل، وأسماء كثيرة.. والحديث عن عوني كرومي يشكل ميزة المسرح الملحمي البرختي (برتولد برخت) والذي يرسم لنا عوالم تجربة امتدت بواقع (71) عملاً مسرحياً وأعمالاً أخرجها اكثر من مرة، واتسمت اعماله بطابع الحداثوية والتجريب، وتماهى مع الانتماء الإنساني بما امتلك من تجربة جماهيرية، بعد استلامه الجائزة الأولى لاستفتاء المشاهدين، قال: ((سأضع هذه الجائزة فوق كل الجوائز)).
وتعامل مع النص المسرحي بأكثر من احتمال، فهو عنده حمّال أوجه، وله اكثر من قراءة، وكل قراءة تختلف عن الأخرى، يرى القراءة تناصاً مع روح النص ليس خارجه، وكلما قرأ النص قراءة مختلفة، سيكون بمثابة إعادة الحياة الى الكاتب، ومنحه أكثر من حياة، فخلود الكاتب لم يأتِ من ذاته، بل جاء نتيجة التأويلات الخلاقة، والقراءات المتعددة.
تعامل الكتاب والمثقفون مع هذا المبدع كظاهرة مسرحية، فاصدر الكاتب الدكتور علي جواد الطاهر، كتابا بعنوان (عوني كرومي والمسرح الشعبي) درس فيه سبع مسرحيات (غاليلو غاليلية، كوريولان، كشخة ونفخة، الانسان الطيب، ترنيمة الكرسي الهزاز، بير وشناشيل، رقصة الأقنعة)، هو لم يكتب عن اعماله باعتبارها منجزاً فردياً، وانما كتب عن مخرج عراقي وعن المسرح العراقي، كانت عبارة عن شهادة وطنية. ولو تأملنا في منجزه الإنساني، لوجدناه ينظر الى مسألة الربح بأنها ربما كلمة وجدان منصفة او ابتسامة ضمير، لكنه للأسف هو اكثر انسان تعرض للطعن والتشويه، هرب من بلده خائفاً، ليحتفي به مركز (بريشت) بندوة تكريمية استغرقت ثلاث ساعات، ومنح لقب (وسيط الثقافات).
علينا أن نجسد الإشكالية الإنسانية، وننفعل بها بهذا المستوى الفني، فهو يريد أن يوقف الحرب بكل الوسائل المتاحة للارتقاء الى ذائقة الانسان المثقف والمتحضر، حيث يرى الناقد مروان ياسين الدليمي له رؤية ترتكز على سلطة النقد في رؤية السياق العام، فهو يرى ان عمل المسرح البريختي على مفهوم التغريب، تخلى عن وحدة الزمان سعيا لتعميق وعي المتلقي.
ويرى الدليمي ان عوني كرومي انزوى وراء ظل الأستاذ لحد افقده طريقه الخاص الى حد ما، ربما هذا توصيف مختص لا يعنينا منه شيء، فهو اشتغل لفاروق محمد، وعباس حربي، ومحي الدين زنكنة، ولصلاح عبد الصبور، ورفائيل البرتي، والبير كامو، مسرحية (ترنيمة الكرسي الهزاز) التي هزت اركان النظام، بما امتلكت من جرأة ومغامرة فيها الكثير من التحدي، فهو يمزج بين التجريب المنفلت والأكاديمية الصارمة، وعنده البطل هو المجموع، وليس الفرد. وفي رسالة حزينة أرسلها الى د. فاضل خليل: ((كل يوم احلم بالعودة، واحزم حقائبي، وانهي متعلقاتي، واكثر من مرة اصل الى المطار أو محطة الباص في القاهرة ودمشق، ولكن القدر أكبر مني.. اتراجع، وانا اعرف جيدا سلطة الخوف؛ لأن ثقتي كبيرة كبر هذا الكون، وان الذي يحدث لا يمكن ان يكون حقيقة؛ لأنهم يسرقون زماننا، ويدمرون روحنا وذاكرتنا)).
ويرى الدكتور عامر صباح المرزوك انه تبنى المنهج الواقعي التجريبي القائم على امكانية خلق مدركات جمالية من خلال التعبير الفني للغة الجسد والمعنى، قدم عوني كرومي مسرحية فيها مفاجأة، شيء جديد، ابتكار، عندما قدم مسرحية (انشودة للعمل) في مسرح الستين كرسيا، والذي كان في الطابق الثاني من عمارة صغيرة تقع مقابل سينما بابل، وكان طول العمل اكثر من 3 ساعات لم يشعر الجمهور بمرور الوقت، وكان من تمثيل طارق هاشم، نماء الورد، وميمون الخالدي.
وقدم مسرحية (فوق رصيف الرفض) في قاعة بلا خشبة، أجلس الجمهور على الأرض، وجعل التمثيل يدور حوله مستخدما ديكورا بسيطا يمثل شواهد قبور وغطاء اسود السقف، وبعض الحبال، ليوحي بالخيمة.
في مسرحية (قصائد ممسرحة) جعل الخشبة على شكل صليب داخل القاعة، واشرك الجمهور مع الممثلين في ردود افعالهم أو اجاباتهم الآنية. وفي مسرحية (تداخلات الحزن والفرح) استخدم العباءة السوداء (دال) لتعطي عدة دلالات، استخدمها تارة سجن وأخرى الى خيمة وكفن، كان سعيه لنشر قيود مسرح العلبة في مسرحية (صراخ الصمت الاخرس)، ازدحم فضاء العرض بالملحقات واسلاك وأجهزة راديو وتلفزيون وكمبيوتر، شعر الجمهور بجو خانق يضغط عليه من كل جانب.
في مسرحية (الانسان الطيب) استخدم اللهجة العراقية الدارجة، ديكور متحرك عبارة عن سلم، وعانى كثيرا من الظروف الصعبة وهيمنة الثقافة الواحدة، رفض اخراج نص لأحد رجالات الدولة، بأمر من قيادة ثقافية كانت تترصده، فشنوا ضده حرباً لا هوادة فيها، فكانت تطفأ انوار القاعة عند عرض مسرحياته قسراً..! مسرح مهمل حوصر في الدرس الاكاديمي في جامعة بغداد، قلل نشاطه..! ولأن نشاطه لا ينضب قرر مغادرة العراق.
عمل في جامعة اليرموك الأردن بعد هروبه من العراق منذ بداية التسعينيات.. وفي الأردن عانى من همجية كل المتعاطفين مع نظام الطغاة، فغادر الى ألمانيا، شنت عليه الدكتورة (حياة الحويك عطية) كاتبة لبنانية مقيمة في الأردن، هجوماً صاعقاً بأسوأ المهاترات، تهم شتى؛ كونه صفق للتغيير..!
المشكلة ان الكتاب العرب لم يدركوا محنتنا نحن العراقيين، لم يشعروا بهول المأساة سابقاً أو لاحقاً كما يقول سيار الجميل، لم يقل عوني كرومي سوى كلمة واحدة: “سامحهم الله”، هل هي جريمة ان يعود عراقي الى وطنه..؟!
وأخير.. وقع عوني كرومي وهو يقدم العرض الثاني لمسرحية (مسافر ليل) لصلاح عبد الصبور، مات الرجل الذي كان يقول: “الموت لا يخيفني إلا اني أريد أن أموت في بغداد”، هذا الرجل الذي كان يتمنى أن يقدم عملاً مسرحياً للمسرح الحسيني، وهو المسيحي الذي حمل هويته باسم أبو حيدرة، وانا كنت اسميه عون بدل عوني، هي دعوة استذكار لقامة عراقية ازدهت بالخير والجمال.