“بحر”بين المريخي والنوه / عبيدو باشا

“بحر” مسرحية عن تجمد الحظ . لن يسمح للنهام ، أن يترك رأسه يسبح في بحر حي. هو غير البحر . بحر يخبؤه من برد القوة وهو  يرندح أغانيه ومواويله في الوقت المناسب للمضي في المضي خلف الأحلام . إنه ملك الطقس البحري ، حيث يحفز  الفم  الود بين البحر والبحار ، بين البحار والمغامرة ، بين البحار واللؤلؤ.  كيف يمكن للنطق أن يقدم الحرارة ، الدهشة ، الدعوة إلى تفريغ العصب لرجال لا حداثيين ، لا يرتدون قمصاناً أو يرتدون قمصاناً واسعة وهو يدخلون في ظلام البحر بأيد لا ترتعش ولا تخاف وهي تذهب بكامل النوايا الطيبة إلى أهدافها .
بحر تحرث في المياه بيد سلطان أحمد النوه بين النهام والنواخذة ، وهو على سفينة عبد الرحمن المريخي ( سوق الحمير ، قرية اسمها السلام / نصر البواكير /الحل المفقود / ابو ادم قادم / لص فوق العادة / حكاية ما جرى ). حرث يرى في البحر قصيدة ويرى في البحارة ما هو أبعد من البحر ، يرى في البحارة اللغة ، الأفلاك . كما يرى في البحر المجيء الدائم إلى حياة الخليجيين . البحر سماء المسرح ، يركب المسرح درجاتها ، دون أن يهاب أن ينسى قدميه في الهواء . الخسارة في أن نندم . لا في الإكتفاء بالغزل والوقوف عنده كأحد الصناعات اللازمة . الصناعات الضرورية . خيار الكتابة أولاً في خيارها العالي. أو الإنقياد إلى خيار الكتابة بالعامية الخليجية . وإذ يقوم الخيار لا تعود العفوية ملاذاً . اللغة في بحر خيار لا أُكل  عفوية . لا يعود الأمر إلى قياس الخرائط ، قدر ما يعود إلى مواجهة الأعطاب في محاولات قراءة الأعطال في تهديد اللغة العامية أو المحلية . المدهش أن اللغة جميلة ، أنيقة ، بعيدة من شيخوخة العقل أو قوة العضلات . تؤكد بحر أن اللغة لم تعد تقع في هواء القرن السريع . إنها اطول من ثوانيها . هكذا ، لم تعد  تقدم في ألعاب ازدواجية اللغة أو شرعية لغة وجسارة لغة أخرى افتقدت نوايا  مجتمعاتها الواضحة في  حماية جسارتها . لذا ، زرعت العامية نضجها بعيداً من اتهامات الرسوب الجاهزة . لذا ، لم تفرغ من موتها ، حين لن تقبل به وهي تنقض على اللحظات كطريدة لا تَفهم ، كطريدة لا تُفهم . بحر ، كعشرات المسرحيات في المملكة العربية السعودية وبعض بلدان الخليج العربي ، لا ترى ، لم ترى العامية مجازفة خارج المسرح الكوميدي الشعبي ، كما حدث في مصر مثلاً ، حين ولدت الكوميديا الإجتماعية  مع نعمان عاشور ، قبل أن يتوغل في تدرجه الدرامي . بحر تقدم لغة حدسية ، جميلة. تقدم لغة راقية . لغة قاومت حتى لا تشيخ ، وهي تواجه اتهامات تعطيل مشروع الوحدة كما درج في منتصف القرن الماضي ، في منتصف القرن العشرين . ذلك أن اللهجات ، اللغات ، لأن لكل لهجة قاموسها ، عرفت من المجازفات في تمهيد الظرف التاريخي ، بحيث خرجت من  الإتهامات . كما خرجت على أقوال من لم ترق لهم أحوالها ، لكي تتخطى الإتهام الجاهز بازدواجية اللغة . والميلان إلى اللغة الفصحى لأنها لغة الشريعة . وهي شريعة مقيدة ، من رؤية التأليفات على غير لغة القرإن الكربم تأليفات على قدر هائل من الهشاشات العظيمة في الرأس والإحساس . الواقع أن الكلام على ازدواجية اللغة لم يحدث في عصور الإنحطاط ولا في ظل التجزئة الإستعمارية . بل ولدت في العصر الذهبي للأمبراطورية العربية ، حين طوبت بغداد كحاضرة عالمية . إذن ، تقدم بحر أنموذجاً عن الأشكال الدينامية، الحيوية ، باللغة العامية . كما تقدم فهمها لمعنى تسجيل ومزج الخصائص فوق الوسائطية الكاملة في اللغة العربية الفصحى . دخول في وعي مختلف الوسائل ، لكي لا تشد لغة عضلاتها على حساب لغة أخرى . يعود الأمر إلى التناغم العاطفي مع العامية والفصحى في الأن ، من سعة المملكة على احتضان الأنساق المتميزة اجتماعياً ، كل نسق بذاته ، بدون تقسيم العالم إلى تاريخ وفنون وعلوم . ذلك أن الوعي الجماعي ادرك ان العالم الحديث عالم شديد التعقيد ومتعدد السياقات . بحيث إذا جرى العمل على لقاء أطرافها ، سوف يعيد تدفئة الأفكار الراسبة ووضعها إلى جانب الأفكار الديناميكية في معطف واحد  . ما سوف يقود إلى اجتراح أنواع من النبالة الثقافية .
لا عودة إلى شفرات النقصان ، في بلاد تجد اللغة في مستوياتها ، تأدية للإبانة على ما في النفس . هذا معنى اللسان . هذا معنى اللغة .
إذن ، البساطة ، بساطة اللغة سفينة بحر إلى جانب سفينتين بحاجة إلى موسيقى الكلام ، حتى لا تقف السفينة على حزن النتائج . توقف نمو المحكية منذ الف عام . وهاهي تعود إلى النمو . بساطة اللغة ، لا علاقة لها بقياد الحكاية إلى التبسيط . بساطة في اللغة وتبسيط الحكاية ما كاد يخنق أو يغيب وصل القسم بالقسم الآخر إلا على مراقبة التنقل من مشهد إلى آخر ، كل مشهد درب على الدرب الآخر  . ذلك أن التبسيط في استهلاك الحكاية ، كاد يقودها إلى نوع من التنميط البعيد من الصراعات المحركة . بحيث لم يكن ثمة من حاجة إلى تحريك الأحداث ، لأنها جاءت محركة من قبل أن تحرك . أي مكشوفة حتى بقيت جائعة إلى نفسها ، لا تشق طريقها بالقوى الدرامية قدر ما تشقه في نوع من الإنتشار التقليدي . تجمعت الحكاية كما يتجمع الجنود في مواقع العمليات في انتظار الأوامر . غير أن الأوامر لم تصل . حتى أن بحر أبقت نفسها ، في هذا المجال ، في الفنون المنحصرة في العادات والتقاليد ، من دون أن تدخل  في التأسيس لقضايا التغيير الإجتماعي على نحو طبيعي ، من منظور اجتماعي . إذ أن قيمة التراث تبقى في دفعه لا إلى عرض ما حدث ، بل في تفسير الواقع والعمل على تطويره ، بحيث لا يبقى مادة سياحية . بل قاعدة العمل وموجه للسلوك الجديد من خلال السلوك القديم . أن يقدم تصورات ثنائية وثلاثية ورباعية . لا كمعلم كامل. ثم ، وضعه في مرتبة الشرف فقط ، من دون تحريكه . بحيث إذا لم يجرِ تحريكه لا يفيده وجوده ولا يفيد العاملين عليه . امتلاك القدرات ، القوى ، بدون ربطها بالسياق من الاعتماد على قياس القوة ، خسارة . هذا معناه استقلال العقل عن التوجيه . او توجيهه بالإطلاق . لا إلى جهة الواقع المحددة ، وهو طرفه الأصيل . عندها ، يصبح بلا قيمة وينتهي إلى تحجير الأصول . الأخيرة جملة لا توحي بالتجانس . يزهر التراث ويصبح أعلى شرفاً ويزهو إذا ما تم توظيفه بحيث يضحي محركاً للحكمة لا عبداً لها .
بساطة في اللغة ، تبسيط في الرواية . بساطة اللغة لم تفقدها جوهرها الداخلي . عززته في بحر . بحر ميالة إلى المأساة . ولكنها بقيت في لغتها الصافية صافية ، بعيدة من كل الأرواح سوى روحها . لا فارس ولا رمزية ولا انطباعية . واقعية ، لا يهمها ان تمزج في المسرحية الواحدة الكثير من المحاولات بالإعزاز .
بحر لا تعلن عن عملياتها ، لأنها تكتفي بالنقل . لا تصعد جبلاً ولا تشق طريقاً. هذا لا يدفع القوى إلى أن تخور . خوران القوى شائعات في المسرح ، لدى المسرحيين المحيطين بمناطق المسرح ، بفهمها ، لأجل الإشتغال عليها في نوع من أنواع ما يسمى التحرير . لا شك في أن الإحساس بالتاريخ ، لا يفترض الشغل على بعده التاريخي وحده  ، حين يفترض الشغل على علاقته بالراهن . البساطة في اللغة تكثيف لمشاغل بلا حد . وصول إلى الطبيعة الثانية . وجود في المجالات الأكثر أهمية في سلام داخلي ينتج من أجل التمتع به. البساطة وهي ما ينبغي أن تحضر كواحدة من أنواع الحريات الطبيعية ، غالباً ما تحتاج إلى دراسة لاكتسابها. ما توفره اللغة لأنها حين قامت إنما قامت على فتح المغاليق لا منع التطور . بساطة اللغة من ابتعادها عن القيم المادية والإستهلاك في الحياة وفي بحر . التبسيط الحكائي والوقوف عنده ، نهام مغروم لا يلبث ان يكتشف أن اخته هي غرامه من علاقة محرمة اقامها والده بفتاة اختفت مذ حدث الأمر ، حتى جاء منافس الوالد بالخبر اليقين في لحظة التنافس على النهام نفسه . التبسيط إخلال  بالبساطة . لأن التبسيط نوع من التعقيد بين المُرسِل والُمرسَل. غرق في دوائر المدرك . بحر تسمح بإدراكها منذ المشاهد الأولى . لحظة ضد الدراما .
ايجاد الوظيفة للتراث في الواقع ضرورة. لكي لايقع في أحوال الفلكلور . ذلك ان لا نتيجة بدون سبب . لا سبب بلا توظيف . لا توظيف بلا منطق . شروط ضرورية . هكذا ، حين شاهدت فيلم وريور ، كمثال ، حين شاهدته في منتصفه لم أجد فيه شيئاً سوى هزيمة الإنسان أمام المادة حين يتقاتل اخوان وكأنهما ميفستو وفاوست بعيداً من المجانسة ( اخراج غيفين أوكونور ، بطولة توم هاردي وجويل ايديغرتون ونيك نولتي . حين تابعته منذ البداية ، شقت الشخصيات طريقها في حضرة المنطق . أخ مهدد بإخلاء منزله . وآخر محبط من قصف الجيش الأميركي كتيبته.هاربان من والد مدمن وذكرى أم مقتولة بالسرطان . لم يعد الفيلم فيلم صرخات قرود . لم تعد الشخصيات فاقدة الإحساس بالزمن ، حين بدا أن ثمة صمت غريب يحيط بها . صمت ، ثم نذر ، ثم غابة مملؤة بالصراخ والهمس لا بأصوات نائية يحملها هواء بآهات حسرات رجال ونساء يسيرون حتى وهم نائمون . إنه المنطق ، التوظيف . شيئان لا يحتاجان إلى تلسكوب لكي يريا في متاهات الفن كما في متاهات الحياة . أقول ما أقول ، لأن البلاغة تقع في مطابقة المقصود ولمقتضى الحال من الموجود فيه ، على ما قال ابن خلدون . القران الكريم بالفصحى . الف ليلة وليلة بالعامية ، وإن جرى تفصيحها قليلاً منذ طبعة بولاق . اشهر كتابين . ثم ، أن العاميات لم تعد ثلاثاً. عامية سوريا الطبيعية . عامية وادي النيل . عامية المغرب العربي . الآن ، تظهر العامية الرابعة . عامية المربع العربي . عامية الجزيرة والخليج . ذلك ان الخليج من الجنس الواحد إلى كل الأجناس ، بعيداً من حرب النحويين بحجة تقويم اللسان .
** ملاحظة: الورقة قدمها المسرحي اللبناني عبيدو باشا يندوة تعقيبة أدارها معاد الخميس وبحضور المخرج سلطان النوة. ذلك ضمن فعاليات الدورة 14 لمهرجان المسرح الخليجي (دورة الرياض)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت