النص المسرحي العماني بين التقليد والتجديد/ د. سمير العريمي

قراءة عابرة لتحليل مضامين

الإصدارات المسرحية لوزارة الثقافة والرياضة والشباب

 

تمهيد

يرى الكاتب المسرحي المصري الراحل علي سالم أن “المسرح ليس أدبا بل هو فن من حيث أن الأدب أداته اللغة أما الفن فأداته الفعل مع الاعتراف بالمساحات المشتركة بينهما من هذا المنطلق فالكاتب المسرحي في رأيي لابد وأنه في الحقيقة فنان عاشق للتمثيل أو مارس التمثيل في مرحلة من مراحل من حياته”(1).

ويشير مضمون المنجز الكتابي الذي يؤلفه الكاتب المسرحي إلى المعنى الذي يقدمه العمل الفني وما يريد ايصاله من أفكار والبعض يراه مضمونا تاريخيا اجتماعيا يعكس الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ظرف تاريخي معين انها علاقة جدلية إذن بين الواقع المعيش والعمل الفني وليست انعكاسا ميكانيكيا له بالضرورة وعلى الإطلاق.

المضمون إذن وفق إحدى الرؤيتين خطاب فكري وفق معالجة معينة ينقلها النص المسرحي الي المتلقي وتحليل هذا المضمون يستخرج القيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية لزمن كتابتها. وصاحب هذه الورقة سعى لقراءة تلك المضامين في بعض الإصدارات العشر قراءة انطباعية ذاتية لا نقدية علمية منهجية بالضرورة.

خصائص تحليل المضمون

بشكل عام فإن لتحليل المضمون كمنهج نقدي – كما هو معلوم – خصائص من بينها أنه:

ـ يستهدف توضيح الدوافع والأهداف التي يرمي إليها الكاتب.

ـ يتعرف على مدى تأثير المحتوى على أفكار الناس واتجاهاتهم.

ـ ينطلق من أن السلوك اللغوي الكتابي يعبر عن هوية وميول واتجاهات الكاتب.

ـ يصف المضمون الصريح أو المحتوى الظاهر للمادة المكتوبة.

ـ يحلل المحتوى والجوانب الشكلية وأهم أفكار المسرحية.

ـ يحلل البناء الداخلي والخارجي للنص.

عناصر تحليل المضمون في النص المسرحي

أما العناصر التي يعنى بها تحليل المضمون في النص المسرحي فهي:

الحوار الدائر بين الشخصيات وهل يوجد راوي ينمي الاحداث ويطورها.

الشخصيات: أدوارها صفاتها أساسية مثل البطل،  أو ثانوية مساعدة له.

نوعية العلاقة التي تربط الشخصيات هل هي رسمية واضحة أو علاقات خفية وهل العلاقات سلبية أو إيجابية.

عنصر الصراع الدرامي الذي ينشا نتيجة الاشتباك بين الشخصيات المختلفة او الصراع النفسي بين الشخص ونفسه وهل الصراع ظاهر خارجي أو داخلي بين المرء ونفسه.

دوافع الشخصية وتطورها طوال المسرحية وعلاقاتها مع الآخرين، واسهامها في تقديم الرسائل العامة للمسرحية.

الأفكار والمفاهيم المتكررة بالمسرحية.

أهم التقنيات الدرامية المستخدمة داخل النص.

-الزمان والمكان في النص المسرحي.

– الحبكة والعقدة التي يريد الكاتب حلها أو الأحداث التي يراها الجمهور صعبة معقدة ليس لها حل.

– نوع النص هل هو مغلق ذو نهاية واضحة أم أن نهايته مفتوحة تسمح للمشاهد والمتلقي أن يحدد النهاية كيفما يشاء.

– عنصر الاستباق والاسترجاع أو(الفلاش باك) وهو من أصعب العناصر في النص المسرحي بحيث يذكر الكاتب المسرحي أحداث متأخرة ثم يعود للبداية ويكمل وهو عنصر جمالي مشوق لقارئ النص.

وحدات تحليل المضمون

والوحدات التي يعنى بها تحليل المضمون في النص المسرحي عديدة من بينها ما يلي:

وحدة الكلمة وهل تشير إلى معنى رمزي معين وهل لها تكرارات معينة.

وحدة الموضوع الوقوف على العبارات أو الأفكار الخاصة بمسألة معينة.

وحدة الشخصية تحديد نوعية الشخصية الرئيسة وسماتها سواء كانت خيالية رمزية أو حقيقية.

منهج الورقة :

لأغراض هذه الورقة الموجزة ذات المساحة الوقتية المحددة لن أطيل كثيرًا في عرض مضامين الكتب المسرحية العشرة التي صدرت بدعم سخي مقدر من وزارة الثقافة والرياضة والشباب في سلطنة عمان وبالشراكة مع مؤسسة ” اللبان” صاحبة المبادرة بالفكرة، وأذكر من جديد أن قراءتي لها انطباعية غير متخصصة بالمعنى الأكاديمي وليست نقدًا لتلك النصوص –. إذن سأميل للإيجاز الشديد والتلخيص عند الحديث عن موضوع النص الذي أتناوله عارضًا بعضًا من أفكاره العامة وعناصره وآمل ألا يكون الإيجاز مخلا. ولنبدأ باسم الله

الإصدار الأول “نصف الكأس” للكاتب محمد بن سيف الرحبي

كتاب يضم نصين الأول طويل نسبيا بعنوان زمن أبو مشاري والثاني أقصر منه عنوانه تغريبة العطش. وأبو مشاري الذي يحمل اسم بطله  نص اجتماعي ذو مضمون سياسي بامتياز شخصياته خليط من الدول العربية وعمال أجانب من المحيط الآسيوي مزيج سياسي وطائفي وجغرافي ولغوي يجتمع في فلك مقهى شعبي يصفه صاحبه أبو مشاري بأنه مقهى يعتمد علي سعر برميل البترول في إشارة واضحة جلية لإفرازات ومعاني البترودولار في منطقتنا الجغرافية والدمار الذي ساقه للبلدان والشعوب.. نص يستدعي التاريخ من الزمن الناصري وحرب اليمن الأولى ويمر في لقطات سريعة عابرة على كل ما مر على المنطقة من مآس سياسية وحروب وكوارث وتقلبات اجتماعية واقتصادية وسياسية وصولا للربيع العربي وما بعده في حوارات شخصياته وقفشاتهم ونكاتهم وتنمرهم على بعضهم البعض لاختلافاتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية نرى ذلك في أكثر من ملمح مثلا: صراعهم علي الأغنية التي سيبدأ معها صباح المقهى لأم كلثوم أم أبو بكر سالم أم فيروز وقس علي ذلك بعض العبارات الموحية وإن جاءت في قوالب فكاهية  مثل: “دائما الأجانب يورطونا كان من الغرب أو من الشرق” “وما خرب بيوتنا الا المؤامرات الدولية”(2) ونرى في العمل إشارات جلية أيضا على تأثير التحول التقني المعاصر وثورة أجهزة الاتصالات وتأثيراتها السلبية على منزل وأسرة أبو مشاري وغربة أفرادها عن بعضهم بسبب التقانة وانغماسهم في منصات التواصل الاجتماعي. إنه النصف الآخر الفارغ من الكأس صدمنا به الكاتب بعدما تغافلنا جميعا والتهينا كما يبدو بنصفه الأول الممتلئ.

أما نص تغريبة العطش فنص رمزي جميل يحيلك إلى خيميائي باولوكويلو عندما يطلب الشيخ البدوي الذي أنقذ شبابًا ثلاثة تاهوا في الصحراء وسلبهم الغريب ما يملكون أن يقرأوا الصحراء جيدا قبل أن يمضوا بها بعيدا .. فالصحراء لا تقتل محبيها من العطش.. وأنهم إنما عطشوا وأوشكوا على الهلاك لأنهم أمنوا للغريب.. الغريب الذي لا يخرج من رمالنا إلا ليعود مرة أخرى بحيلة جديدة.. الغريب الذي فرق شمل القبيلة فاختلف الأخوة وأبناء العمومة إنه نص عميق المضمون ذي مقاطع شعرية تراثية موظفة بذكاء من فن التغرود وتقنيات سينوغرافيا جديدة تمزج الفعل المسرحي الواقعي بمؤثرات صوتية وبصرية حديثة تزاوج العرض السينمائي المعروض على أكثر من شاشة بما يقدم على الخشبة من حراك مسرحي لتعميق العلاقة بين الأمس واليوم ..الماضي والمستقبل كما يقول الكاتب. في نصف كأسه المليئ هذه المرة.

الإصدار الثاني بعنوان “مجزأ:  ولادة .. النحّاتة.. الخشّاب” للكاتب سعيد بن ساعد السعدي

الإصدار ضم ثلاثة نصوص بذات عنوان الكتاب وإن اختلف ترتيبها داخله فبدأ بالنص الأول النحاتة ثم ولادة فالخشّاب. سأتناول النصين الأولين نظرً لضيق الوقت يدور النص الأول النحاتة عن أرملة تسترزق من نحت القطع الخشبية وبيعها ولديها ابنان مراهقان فتاة تهرب من مآسيها إلى الروايات والشعر تستلهم منهما الحكم والأمل.. وفتى يصغرها يتسلى بإزعاجها والتنمر عليها وعلى أوضاع الأسرة بعد موت معيلها.. النص شاعري جميل يتدفق بسلاسة وعذوبة.. تدور أحداثه في فراغ يرمز لمنزل العائلة وفي كشك لإحدى المطاعم الليلية .. تعلي الأرملة من قيم العائلة والأخلاق والسعي والكرامة.. بين ولديها ..وتبدو صامدة أمامهما تطارد الأمل.. لكنها من جانب آخر تشتكي من التمييز ضد الفن الذي تصنعه النساء تقول : “لا سماء لنساء الفن في عالم الرجال.. لن يرضوا بي لا يعترفون بفن النساء”(3) لذا تعرض مقايضة منحوتاتها بطعام ابنيها.. ويقف ضدها كل الرجال :أخو زوجها ومدير المعرض الفني ورئيس نقابة الفنانين والنجار. ويستغلون فقرها وحاجتها ويسعون لانتحال إبداعها الفني ومقايضته بلقمة أبنائها الأيتام فقط لأنها امرأة.. ويقف معها رجل وحيد هو معلم الفنون الذي ينقذها من الابتزاز إن هذا النص الجديد في موضوعه يعد بحق هرولة بين الحزن والأمل.

النص الثاني ولادة نص رمزي فلسفي من فصل واحد يقع بأكمله بداخل بطن تكمن فيه سبعة شخصيات عالقة ومتصلة بأغشية وشرايين فنرى كلا من شريط الذكريات وخوف وحَزِن وفرح ووحدة وطموح وأمل هذه الشخصيات تتحاور مع بعضها ومع الجنين الشخصية الثامنة وهي الشخصية الرئيسة أو المحورية في النص وشخصيات العمل في إطار تفاعلها على الخشبة تطرح أسئلة وجودية وتلتمس لها الإجابات المقنعة والمنطقية من وجهة نظر كل منها وزاوية نظره.. يقول (أمل) ملخصا الفكرة الفلسفية التي يدور حولها نص الولادة: “نولد من نشوة الموت ونموت من ألم الحياة”(4). ومن وجهة نظري فإن هذا النص أيضا جديد يحطم القوالب الفنية القديمة.

الإصدار الثالث بعنوان “اللي أوله شرط” للكاتب أحمد بن سعيد الأزكي

هذا النص كوميدي بامتياز كتب بالدارجة أو العامية العمانية  لكنه قدم في قالب تجديدي أبدع الأستاذ أحمد الأزكي في صياغته تدور فكرته في اختصار شديد في معضلة الأجيال الجديدة ونظرتها إلى الكون والحياة يشترط جنينان توأمان وهو في بطن أمهما على أبيهما شروطا قبل موافقتها على القدوم لهذه الحياة في مشهد فكاهي غرائبي والطبيب شاهد يستعجل في إجراء عملية قيصرية والأم في حالة مرثية من المعاناة وتحت تهديد الانتحار بالحبل السري إن حاول الطبيب توليدهما دون موافقة الأب على الشروط أولا . (5) يرضخ الأخير فالذي أوله شرط آخره نور ولكن وكما كان متوقعا لا يستطيع الأب تلبية كافة الشروط وخاصة في الجزئين المادي والاجتماعي. التوأمان يختاران اسميهما بمحض إرادتهما؛ لكن الأب لا يستطيع توفير طلباتهما المادية ولا الموافقة على خياراتهما في أسلوب الحياة المصادم للمجتمع علما بأنه هو ذاته أي الأب يعيش حالة من التناقض ما بين ظاهر مستقيم وباطن يكشفه الابنان ليبتزاه ويرغماه على تنفيذ بقية الشروط تحت طائلة إخبار الأم إنه نص مدهش جدير بالقراءة كنصوص بقية الإصدارات الأخرى.

الإصدار الرابع “رحلة إلى الطين” لكاتبه ياسر بن محمد البلوشي

يضم الإصدار نصين الأول بعنوان جنين الأرض والثاني روضة خلفان وهو الذي سأتناوله في هذه العجالة ويدور حول خلفان الشاب البدوي المهووس بعشق ناقته روضة ينقلنا النص بتقنية الاسترجاع أو الفلاش باك لنراه طفلا يتيما على قبر والده في الصحراء وناقته الصغيرة يومئذ تواسيه.. ثم وقد شب ويقضي وقته في حواراته الأقرب للمونولوج يعبر لها فيه عن تقديره لها ويشكر الله عليها ويسأله العون كيلا تسلب منه.(6) لكنها تقتل على يد قطاع طرق في مشهد مؤثر وحزين تتوالى الأحداث بعد ذلك في المدينة بين مركز الشرطة ومقر جريدة الإنسان ومع شخصيات جديدة يدور صراع ثقافي واجتماعي بينها مرده الإيمان بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان أو الرضوخ للسلطات التي تحاول قمع الحقيقة كل هذا في خلفية قصة خلفان ومحاولته الاقتصاص من قتلة ناقته تنتهي المسرحية بمأساة وبأحداث غاية في الغرابة عندما تتشابك خيوط النص وتتعقد في أسلوب برع فيه الكاتب ثم تنحل العقدة بحدث غرائبي عندما ينتقم شبح روضة الناقة ممن تسبب في مأساة صاحبها خلفان إنه نص غير تقليدي وخارج الصندوق وفي غاية الإبداع ويحتاج لمخرج متميز يعرف كيف يدير خيوط اللعبة ويتقن تقديم المغاير والجديد من الرؤى المسرحية.

الإصدار الخامس “قرية الامتعاض” للكاتب عادل بن سالم الرديني

ويضم الإصدار وهو أيضا خارج عن التقليدي وداخل في التجديد يضم ثلاثة نصوص رمزية هي العتمة وساحر البستان والامتعاض يجمع بينها خيط خفي متصل فكأنها فصول في مسرحية واحدة متعددة الأصوات والأنفاس يتخذ الكاتب من الرمز والإسقاطات حتى في أسماء أبطاله سبيلا لإرسال أفكاره المنحصرة حول الألم الإنساني في صيرورة الزمن ومشاعر العزلة والاغتراب والبحث عن الانعتاق والحرية في عالم يدوس على الفقير والضعيف ويخضع لظلم المضطهدين وأهل الاستكبار والقهر والتسلط.. يختفي المتآمر خلف قناع المصلح والمتدين ويستغل إيمان البسطاء ليودي بهم للهلاك بينما يثور الواعي من الشعب عندما ينتبه للخديعة فيرمى بالخيانة والكفر والفجور كما حدث مع فلاح وسجى وصخر وأفلح وهم بعض أبطال النصوص الثلاثة. نصيحة أبثها في أذن الكاتب أن يحيل في الهامش المضمن المقتبس من الأشعار في نصوصه الثلاثة مثال:(أنا في سبيل الله ما صنع الهوى) ومقاطع ل(فاروق جويدة) وشعراء آخرين.(7)

الإصدار السادس “الأسماء قافرة الأثر” للكاتب إدريس النبهاني

ويضم هذا الإصدار نصين هما : صاعقة هولاكو لن تعود (مقيدون) وكتب في 2002 م أي أنه نص قديم و ميلاد سيرة الحلم والوجع وكتب في 2022م . والنص الأول كما يكشف اسمه إعادة كتابة المشهد الأخير من تاريخ الدولة العباسية وسقوط بغداد بيد المغول ولكن وهنا الجمال والإبداع الفني والتجديد بإسقاطات معاصرة تربط حاضر الأمة بماضيها وما أشبه اليوم بالبارحة استخدم المؤلف تقنيات عديدة كالمناشير الضوئية والجوقة والانتقال الزمني بين الماضي والحاضر عبر شخصية المذيع والحركات الإيقاعية والاستعراضات الجماعية وتميز في استخدامه لرمزية الأسماء كالمدلهم بالله رمز السواد الحالك لقبا للخليفة أو أمير الآمنين.  النص يختصر في بيت شعري ضمنه أ/ إدريس في اللوحة الرابعة وهو للشاعر السعودي الكبير عبدالرحمن العشماوي “أموالنا هي كالسلاح بأيدي صناع الدمار .. أعراضنا هي مرتع الأوغاد  ربي أي عار”(8) ظني أن النص أعيدت كتابته بعد 2002 وقبل النشر كيف استنتجت ذلك من عبارة “دار دار.. زنجه زنجه” (9) التي وردت علي لسان المذيع في ذات اللوحة (4) وهي عبارة لم تشتهر – كما نعلم –  إلا أثناء الربيع العربي تحديدا في ليبيا بعد فبراير 2011.

النص الثاني ميلاد سيرة الحلم والوجع نص جميل يمتاز بشاعريته المتدفقة استخدم الكاتب تقنية الفلاش باك وضم نصه مقاطع سردية  وحوارية محسوبة بدقة تتقاطع مع الفعل المسرحي على الخشبة وتمازج بين العامية والفصحى إنه التطور التكنولوجي الذي يحطم القوالب الفنية القديمة للمسرح كما يقول أحمد الماجد في مقاله في صحيفة الخليج لينبثق الإبداع من رحم المعاناة ضمن (حدوتة) بسيطة قوامها رفض أب القاطع لميلاد ابنه لأنه تسبب بموت محبوبته عشيقته زوجته أثناء الولادة، لتتناسل الأسئلة عن ذنب الطفل الوليد وهل يتحمل جريرة ذلك إنه نص جديد في القالب والمضمون والأثر في الأسماء قافرة الأثر.

الإصدار السابع “أصفاد” للكاتب عبدالله الرواحي

يضم الإصدار المعنون باسم أحد النصوص التي يضمها: أصفاد وتعني القيود أو (الكلبشات) ثلاثة نصوص هي: شمعة ورسالة وخيارات عاثرة وأصفاد وسأتحدث في هذه العجالة عن النصين الأول والثالث فالأول نص شمعة ورسالة نص (مونودرامي) بطلته امرأة حائرة وغارقة بين ثنائيات متعددة بين عودة وفراق حزن وأمل فناء وخلود جنون وعقلانية حب وكراهية ومنذ اللحظة الأولى يكتشف القارئ أنه أمام نص فريد حيك بذكاء نص فلسفي يطرح أسئلة عن أدق العلاقات الإنسانية عمقا وحميمية من قبيل لماذا ننجذب للورود؟ لماذا نخشى الفقد؟ لماذا تنتحر الفراشات بوميض النار؟ وهل تحب هذا الموت الجميل؟ (10) المرأة حائرة بين الاحتفاظ برسالة الحبيب العائد بعد فراق أو إحراقها بوهج شمعة. تتساءل ماذا تظنون أني فاعلة برسالته المتشفعة بعودته باسم الحب؟ أأحرقها وأكمل حياتي أم أطفئ تلك الشمعة وأذهب إليه؟ وفي حوارات ذاتية متتابعة مؤثرة وموحية تمضي البطلة تصارع مشاعرها وتقاوم كبرياءها وتتقمص دور الحبيب على طاولة العشاء الأخير قبل الفراق فتحاور نفسها إذ تحاوره تدافع عن خياراتها إذ تستمع لدفاعه وفي لحظة فارقة وقبيل إحراق الرسالة تطفئ الشمعة في رمزية قرار العودة وتغادر الركح لتعود بعد لحظات في قمة الغضب وتمزق الرسالة في رمزية الانحياز لكرامتها الأنثوية المجروحة ولو على حساب مشاعر الحب.

أما النص الثاني أصفاد  فهو نص (ديودراما) يمثل مسرحية من فصل واحد بطلاها شاب وفتاة يتحاوران في صراع إنساني بين الجلاد والضحية الخاطف والرهينة نكتشف من حواراتهما أن ديدن الرجل الفنان الرسام راقص الباليه أو البطل كما يحكي لأسيرته اختطاف فتاة بين فترة وأخرى وسلب إرادتها وابقاءها رهينة في غرفته أو مرسمه بالأحرى دون اعتداء ثم بعد فترة يطلق سراحها ويعيدها للحرية هكذا ببساطة ليأسر واحدة جديدة..  إنه يعد أسيراته ضيفات عنده لذلك يحترمهن ويتقبل ما يأتيه منهن من سب ولعن واعتداء أحيانا كما نرى مع الرهينة الأخيرة الفتاة البطلة الموازية في العمل والتي تحاوره وتحاول استرضاءه ليطلقها بل وتهاجمه لفظيا وجسديا في سبيل الخلاص دون فائدة هي تراه مريضا مجنونا مجرما وهو يراها متبلدة الإحساس متغطرسة مخملية مغرورة متكبرة على خلق الله من الطبقات الدنيا. المفارقة تحدث عندما ينقشع الظلام في الدقيقة الأخيرة من النص أو يستفيق البطلان من الكابوس أو الوهم الذي عيشّانا أو صفدّانا فيه لنكتشف أن المأسور والرهينة في المرسم إنما هو الرجل بينما الخاطف هي الفتاة الرسامة الفنانة راقصة الباليه!!! إنه نموذج آخر من النص المسرحي العماني الجديد في سحره وجماله. (11)

الإصدار الثامن “الرزحة والتعويبة” للكاتب عبدالله البطاشي

ويضم الإصدار نصين هما: الرزحة والتعويبة والرزحة هو النص الحاصل على جائزة أفضل نص مسرحي في مهرجان المسرح العماني الرابع عام 2011م وهو نص مسرحي تاريخي يدور موضوعه حول المقاومة الشعبية العمانية ضد الاحتلال البرتغالي للساحل لكنه أي النص لا يقدم التاريخ بأسلوب وثائقي على الخشبة إنما يمزج التاريخ والتراث المروي بخيال الكاتب وقد استقي عنوان النص من فن الرزحة  التراثي العماني فاحتفى النص بهذا الفن واستحضره وأداه غير مرة طوال مشاهد النص ليكون خلفية لأحداث مقاومة العمانيين رجالا ونساء و خصوصا العنصر النسائي متمثلا في شخصية عزة للغازي البرتغالي كما استحضر اسم (ناصر) ذي الدلالة الرمزية والمقترن تاريخيا بالإمام اليعربي الذي وحد عمان وطرد البرتغاليين من معظم معاقلهم بعد قرن ونيف من الاحتلال. (12)

أما نص التعويبة فيحتفي بفن شعبي غنائي آخر تؤديه النساء بالصوت أثناء رعي الأغنام والاحتطاب في بعض ولايات السلطنة ويثار من خلاله الشجن والذكريات وكما فعل المؤلف في نص الرزحة يستحضر التعويبة وأشعارها العامية مرارا في نصه هذا والذي يضم مشاهد تعبيرية موحية تكسر إحداها الجدار الرابع حينما تركض مجموعة من الممثلين المذعورين ويختفون في الصالة بين الجمهور والنص يعلي من قيم  الحرية والعدالة والانتفاض ضد الظلم والقهر والاستبداد المتمثل في زعيم القرية وأعوانه الذين يستغلون حالة الجفاف والقحط في السيطرة على الأبرياء وابتزازهم بمنع الماء عنهم مقابل رجال آخرين يثورون عليه ويرفضون الخضوع لهذا الواقع فينشأ الصراع الذي ينتهي بانتصار الخير علي الشر ممتزجا بالأهزوجة الشعبية المحتفية بنزول المطر وانتهاء القحط سيل سيل سيليه وحمامة فوق لوميه. (13) إن نصوص عبدالله البطاشي تزخر دائما بشاعرية جميلة وقد أجاد مزجها بمفردات تراثية وشعبية تتمثل بالفنون الممارسة أو المغناة ليبدع نصوصا غير تقليدية .

الإصدار التاسع “رشحوني” للكاتب محمد بن خميس المعمري

ويضم الإصدار نصا مسرحيا وحيدًا مكتوبا بالدارجة المحلية أي العامية العمانية وبذات العنوان أي (رشحوني) والنص كوميدي اجتماعي يقع في فصلين يدور موضوعه الأساس وكما هو واضح من العنوان في الأجواء الحماسية التي تسبق عادة الانتخابات النيابية وما يدور فيها من مواقف وأحداث إيجابية أو سلبية حيث تناول النص حياة المرشح النيابي عمود الحليان وحملاته الانتخابية أثناء فترة الترشح للانتخابات ثم ما طرأ عليها من تغيير بعد الانتخابات النواحي الإيجابية والسلبية. حيث تم التركيز في كتابة النص على الحملات الانتخابية للشخص المترشح قبل وبعد تلك الانتخابات، والوعود الوردية التي تقدم للمواطنين لجلب أصوتهم وصرفها عن المترشحين المنافسين وما يحققه المترشح من فوائد ذاتية من عملية الترشح والفوز بمقعد نيابي والهدف من الترشح المعلن عاما والمخفي في الأهواء والنوايا الخاصة جدا للأشخاص المترشحين، وانعكاس ذلك على المواطن الضعيف الذي لا ناقة له ولا جمل .(14) الجدير بالذكر أن هذا النص قدم فعلا في مسرحية عرضت بعنوان (رشحوني وشرشحوني) قدمتها فرقة الرستاق العام (2017م) ولقيت  صيتا عاليا وتجاوبا وتفاعلا كبيرا من الجمهور.

الإصدار العاشر “شهادة من الميدان” للكاتبين محمد خلفان وجلال جواد

هذا الإصدار وهو الأخير ضمن قائمة الإصدارات التي ظهرت بدعم وزارة  الثقافة والرياضة والشباب العمانية العام (2024) وهو فريد من نوعه تنبع فرادته في أنه يضم نتاج كاتبين اثنين النص الأول شهادة للأستاذ محمد خلفان والثاني الميدان للأستاذ جلال جواد نص شهادة باختصار يدور حول شخصية محورية يمثلها حنظلة وللاسم دلالة معروفة تخرج عن السياقات الوطنية إلى أفق قومي لا يخفى على ذي لب وكأنما الكاتب يتناول مشكلة الوطن العربي الكبير وتعامل أنظمته وسلطاته الدينية والثقافية والاجتماعية مع الأجيال الجديدة  وأحلامهم ورؤاهم ومنظورهم الجديد للحياة حنظلة الطالب الجامعي له زملاء معلول ومرارة يسكنون شقة يتقاسمون مشاكلها كشقة الحرية. حنظلة تائه في عالمه وفي البحث عن هُوية يصطدم بالمسلمات الدينية والأنظمة والقوانين المجتمعية في الشارع والجامعة ينتقل من طور إلى طور باحثا عن الحقيقة أبدع الكاتب في لعبة الفلاش باك أي تقنية الاسترجاع خاصة في مشاهده مع المحقق الذي يحصي عليه أنفاسه ويدفعه إلى حافة الجنون نرى حضورا لافتا للفعل المسرحي في ثنايا النص حينما يلجأ البطل حنظلة للخشبة كي يعري الواقع ويكشفه كما يلجأ للصحافة الحرة فتخذله وفي مشهد مؤثر في الختام يقر بكل الجرائم المنسوبة إليه أمام القاضي وخاصة إحراقه لشهادته الجامعية ويعللها بقوله : “لقد كنت جائعا يا سيدي” (15). وليس الجوع جوع البطون فحسب. هذا النص الجميل المتماسك والمكتوب بحساسية عالية من النصوص المتميزة وفيها من معاني التجديد في الموضوع وأسلوب الكتابة والتقنيات ما هو جدير بالإشادة وهو قطعا نموذج للنصوص العمانية الجديدة .

النص الأخير الذي أختم به هذه القراءة بعنوان الميدان للكاتب جلال جواد وهو مسك ختام كُتّابنا يكتب نصا متوازنًا و” مدوزنًا ” كلحن موسيقي جميل بين الواقع والرمز دلالاته لا تخفى وابتداء من المشهد الأول والتوجيهات المتعلقة بطريقة توزيع الديكور تتضح الفكرة الرئيسة القائمة على الصراعات الطبقية بين بناة الحضارة الحقيقيون من الفئات البسيطة من الشعوب وبين الفئة المسيطرة بالمال والجاه والسلاح والتي تقطف ثمار هذه الحضارة والتطور وتحرمها على الفقراء والمعدومين بل وتسحقهم تحت وطأتها كما ظهر في المشهد الرمزي لاصطدام السيارة بعامل النظافة تتوالى أحداث المسرحية / النص مع بطلها حمدان الشاب وينتمي للطبقة البسيطة وكيف يصطدم مع النظام القائم الذي يمثله رئيس البلدية وللاسم دلالة رمزية كما نرى وله مستشاران أمني وسياسي بالإضافة إلى ممثلي جمعيات تمثل تيارات متعددة:  التيار الديني والنسوي والمثقفين والأطفال ومنظمات عالمية لحقوق الإنسان وأخرى للدول العالمية المتحدة هذا الصدام والتنازع والصراع بين كل هذه التيارات يقود حمدان للاستجواب من قبل محققين بدعوى قيادته لإضراب عمال النظافة والتعاون مع جهات ومنظمات أجنبية لنتفاجأ به في نقلة غرائبية من غرفة التعذيب والتحقيق إلى مكتب رئيس البلدية مباشرة بالمشهد الثامن الأخير  وكأنه حلم أو رؤيا لا حقيقة تأتيه مطالب الجمعيات الفئوية التي تعاون معها في الإضراب ليقرر الانحياز لعمال النظافة المضربين من جديد بدل العمل على إنهاء الإضراب لينتهي النص بعبارة موحية ذات دلالة يرددها بهستيريا : وجدتها وجدتها الحل عند العمال الحل عند العمال. لنسمع أصواتا تردد في خاتمة وقفلة النص عمال البناء أضَربوا / عمال المنازل أضرَبوا/ عمال الحدائق أضرَبوا/ عمال المصانع أضربوا.(16) وكأنما تعيد إلى الأسماع صدى البيان العالمي الشهير: يا عمال العالم اتحدوا.!!

الخلاصة:

النص المسرحي العماني يفرض نفسه بقوة وبرؤى متجددة وآفاق منيرة وتجارب جريئة تستفيد من موروث ثقافي وحضاري غزير، لكنها لا تقف عنده بل تغوص في محيطات الإبداع العالمي وتستخرج منه كنوزًا فريدة على أيدي كتاب شباب ومخضرمين يستحقون كل تقدير وإشادة، والمؤمل منهم أن يعيشوا تجارب هذا العصر ويبدعوا أعمالا تلامس هم أبنائه وآمالهم وأحلامهم.

 

هامش المراجع

1/ علي سالم (2015). غرفة القراءة المسرحية، مقال منشور في صحيفة الشرق الأوسط، عدد الاثنين 5/ 10/ 2015، نسخة إلكترونية على الرابط :https://aawsat.com/home/article/467966

2/ محمد بن سيف الرحبي (2024). نصف الكأس، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (1)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص ص 4-5.

3/ سعيد بن ساعد السعدي (2024). ولادة.. النحاتة.. الخشاب، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (2)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص 7.

4/ المصدر السابق، ص59.

5/ أحمد بن سعيد الأزكي (2024). اللي أوله شرط، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (3)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص11.

6/ ياسر بن محمد البلوشي (2024). رحلة إلى الطين، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (4)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص 48.

7/ عادل بن سالم الرديني (2024). قرية الامتعاض، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (5)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص 16.

8/ إدريس النبهاني (2024). الأسماء قافرة الأثر، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (6)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص35.

9/ المصدر السابق، ص36.

10/ عبدالله الرواحي (2024). أصفاد، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (7)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص8.

11/ المصدر السابق، ص75.

12/ عبدالله البطاشي (2024). الرزحة والتعويبة، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (8)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص 7.

13/ المصدر السابق، ص136.

14/ محمد بن خميس المعمري (2024). رشحوني، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (9)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص 8.

15/ محمد خلقان، وجلال جواد (2024). شهادة من الميدان، نصوص من المسرح العماني، الإصدار (10)، مسقط: مؤسسة اللبان للنشر، ص76.

16/ المصدر السابق، ص15

 

************************

* ملاحــظــة: هذه المقالة كانت مداخلة د. سمير العريمي بالندوة الفكرية: “نحو مسرح عُماني فاعل” المنعقدة صباح الأربعاء 25 سبتمبر الجاري بمسرح الردهة بالجلسة الأولى لليوم الأول. وذلك ضمن فعاليات الدورة الثامنة لمهرجان المسرح العُماني (22 سبتمبر 2024 ـ 1 أكتوبر 2024) بمسقط. الندوة تتناول واقع المسرح العماني في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، ورصد تحوّلاته.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت