القيم الفكرية والفنية الأساسية التي أصل إليها المسرح في دول مجلس التعاون/ د. مرزوق بشير
إن القيم الفكرية والفنية ارتبطت بمسار الحركة المسرحية في دول مجلس التعاون وحاول المسرحيون أن يؤصلوا لتلك القيم سواء بقصد أو من غير قصد، لأن العمل المسرحي بشكل أساسي يعتمد في بنائه الدرامي على تلك القيم لتوصيل رسائله.
هناك عوامل متعددة تساعد على وجود الفكر المسرحي في العموم وفي المسرح الخليجي على وجه الخصوص، وهذه العوامل، كما أشار إليها الدكتور محمد حمدي إبراهيم في كتابه (نظرية الدراما الاغريقية) وهي على النحو التالي:
1/ العامــل الجغرافــي:
وهو عامل مؤثر على القائم على العمل المسرحي، حيث إن المكان بمعطياته الثقافية والاجتماعية والتراثية هي أهم مقاومات كتابة النص المسرحي وتنفيذه.
ولقد انعكس أثر العامل الجغرافي منذ البدايات المبكرة على نشأة المسرح الخليجي، حيث كان المكان بما يولده من ثقافة وما يعكسه من قضايا اجتماعية هي الحاضرة في العروض المسرحية شكلا ومضمونا.
ونظرا إن جغرافية دول مجلس التعاون معظمها يقع على السواحل البحرية مع امتدادها للداخل الصحراوي، فلقد استفاد القائم على المسرح في سرد حكايات البحر، والأساطير،والمعاناة البشرية والحكايات الشعبية التي ولدها البحر بين أفراد المجتمع، كما وظف الكاتب والمخرج المسرحي الخليجي العناصر الفنية من ايقاعات وأغان وإضاءة وديكور التي استمدها من تلك الجغرافية، ولأن معظم سكان دول الخليج يقطنون السواحل البحرية فقد كان البحر هو المصدر الاقتصادي الأساسي الذي يعيشون منه، وجعل من ذلك له حضور دائم في معظم المسرحيات الخليجية، وعلى مستوى أقل قصص الداخل، التي أصبحت جزاءا من العمل المسرحي فيما بعد أن أصبح النفط هو المصدر البديل للمعيش، وعليه انتقل المسرح الخليجي إلى قضايا الداخل وما ترتب عليها من صراعات.
إذا العامل الجغرافي أسس هذا الارتباط وشكل مصدر فكري وفني انعكس على الانتاج المسرحي الخليجي.
2/ العامــل السياســي:
وهو الذي أدى إلى ظهور الصراعات الطبقية والمادية بين عموم الناس، وأوجد الطبقية المسيطرة في مصير المجتمعات أدى إلى تقسيم المجتمع إلى طبقة المحتاجين وطبقة من يملك التصرف والتحكنم في احتياجاتهم، وبالنتيجة انعكس ذلك على القيم الفكرية والفنية الذي تناولها المسرح الخليجي من البداية، وتمثلت في الصراع بين ممولي رحلات الغوص وبين البحارة، والعامل السياسي الآخر هو العبودية المباشرة التي شكلت صراعا في المجتمع الخليجي، بسبب محاولات التخلص من هذه العبودية، الذي وجد الإنسان فيها عبدا لإنسان آخر دون إرادته أو رغبته منه، وشكلت مقاومة الاستعمار البريطاني لعدد من دول المنطقة سعيا للحرية والاستقلال مصدر للكتابة المسرحية التي تم التعبير عنها فكريا وفنيا.
3/ الاستعداد الفطري للفرد الخليجي لحب الفنون:
لقد ساعد الاستعداد الفطري للفرد الخليجي بحبه للفنون المختلفة وانفتاحه على الثقافات الأخرى من غناء ورقص وسرد الحكايات وحب الطرب بكل أنواعه على تقبله لفن المسرح وممارسته له.
عموما، إن القيم الفكرية والفنية هي جزء مكون أساسي سواء في النص المحلي الخليجي أو في النص العالمي، فمن الناحية التاريخية يعتبر الإغريق هم أول من أدرك أهيمة القيم الفكرية والفنية واجتهدوا على توظيفها في عروضهم المسرحية مع أول نص عرفته البشريه، فلقد كان أساس المسرح وبدايته عندهم بالاحتفالات الدينية واشتملت على الرقص والغناء تمجيدا لإله الاخصاب (ديونيسيوس) والتقرب منه، وظل الأمر كذلك حتى استقل العرض التمثيلي عن العرض الغنائي وأخذ معه القيم الفكرية والفنية وضمنها فيما بعد في البناء الدرامي المسرحي، وكذلك فعل المسرحيون فيما مثل شكسبير الذي وظف التاريخ كثيرا في مسرحه، وأبسن الذي وظف استغلال الواقع للفرد، وهذا يؤكد بأن القيم الفكرية والفنية هي جوهر المسرح شكلا ومضمونا منذ انطلاقته وحتى اليوم.
ما المقصود بالقيم الفكرية والفنية في المسرح؟
لابد من المرور على بعض المفاهيم والمصطلحات الذي أتى بها عنوان هذه الورقة، وهي تعريفات مبدئية حاولت من خلالها أن تكون مرتبطة بإطار موضوع هذه الورقة.
أولا : القيــــم
هذا المصطلح يشير إلى المبادئ والمعايير التي توجه سلوك الأفراد والمجتمعات، ويمكن أن تكون القيم مفاهيم مثل النزاهة، والصدق، والعدالة، والحرية، والاحترام، والمساواة، وتلعب القيم دورا مهما في توجيه سلوك الأفراد، واتخاذ القرارات، ويمكن أن تكون القيم أيضا مصدر إلهام ودافع وراء الأفعال والقرارات، وتلعب دور مهما في تحديد ما الذي يعتبر صحيحا وخاطئا في مجتمع معين.
ثانيــا: القيم الفكرية
وهي الفكرة أو الأفكار التي يتعرض لها المسرح بشكل عام والمسرح الخليجي بشكل خاص، حيث يتناول في النص الواحد قيمة فكرية أو أكثر لها مدلولاتها الأخلاقية، والتقاليد، والعادات، وحكايات الواقع، وحكايات التراث، والتاريخ، وهذه القيم تأتي في سياق النص وضمن تطور أحداثه، وليست افتعالية، أو تأتي في سياقات مدرسية، أو تربوية مباشرة، فكاتب النص لا يفتعل القيم ويتباناها كغاية في حد ذاتها، ولكنها تتسرب داخل سياق العمل الفني، ومرتبطة بالمبررات الدرامية، وتتميز القيم الفكرية في المسرح بتوفير منصة لاستكشاف القضايا الاجتماعية المعقدة، مثلا العلاقات الاجتماعية، والهوية الثقافية، كما ترسل رسائل توعوية للملتلقي لكي يواجه بها السائد والنمطي في المجتمع، وبالتالي فإن المسرح الخليجي في مساراته التي انطلقت من خمسينيات القرن الماضي مرت بمرحلة تناوله للقيم الفكرية، سواء بتناوله للعادات والتقاليد، كانت مباشرة ومدرسية في الطرح ثم أصبح تناولها أكثر تجانسا وتعشيقا في سياق الأحداث وارتباطه بالبناء الدرامي ومبر راته، فمثلا في الخمسينات والستينات كان المسرح الخليجي يستعين بصيغة نمطية من خلال انتقاده للعادات البغيضة في المجتمع مثلا قضايا غلاء المهور، والخزعبلات السائدة حينها في المجتمع، سواء في قوالب فكاهية، أو قوالب جادة، وفي مرحلة أخرى أصبح يتناول العادات الاجتماعية من خلال الحكايات المركبة التي لها أكثر من مسار درامي في العمل المسرحي، وأصبح المسرح الخليجي في مرحلته الحالية أكثر نضجا في تناول قضايا المجتمع وذلك عندما توسعت معارف المنتمين إلى المسرح نظرا للتعليم الأكاديمي، والورش، والمشاركات الخارجية، إلى اتساع تناول قضايا المجتمع عن طريق استلهام التراث وانتقاء أحداثه لربطها بالواقع، أو من خلال المدارس المسرحية المختلفة كالرمزية والملحمية، واشتغل المسرح الخليجي أيضا على المسرح السياسي سواء بالمباشرة في طرحه للأحداث أو الترميز لها.
ثالثــا: القيـــم الفنية
هي التي تشير إلى المعايير والمبادئ التي تحكم الفن المسرحي وهذه القيم تتضمن ما هو مقبول وجيد في سياق الأداء المسرحي والفنون المرتبطة به، وتشمل القيم الفنية في المسرحية التمثيل الفني فهو مرتبط بجودة أداء الممثلين وقدرتهم على تقديم الشخصيات بطريقة مقنعة ومؤثرة، أيضا الإخراج يتعلق بمهارة المخرج في توجيه العروض المسرحية وإبراز الرؤية الفنية، ويتعلق التصميم المسرحي بجوانب التصميم المختلفة في المسرح مثل الديكور، والإضاءة، والملابس، وكيف تكاملهم في العرض المسرحي، وأيضا من القيم الفنية هي الكلمة المعدة على خشبة المسرح، التي تعتبر أيضا من القيم الفنية، ولقد وظف المسرحي الخليجي القيم الفنية في عروضه منذ البداية وإن كانت في بدايته الأولى قدم قيم فنية بسيطة حسب المتاح وحسب المتوفر من أدوات في ذلك الوقت، لكن مع التطور الذي حدث في المسرح الخليجي من توفر قاعات مسرحية مجهزة بكل الأدوات التقنية، نمكن المسرحي الخليجي من توظيف الأدوات الفنية في عروضه المسرحية بشكل احترافي.
رابعــا: التأصيــل المسرحــي
التأصيل المسرحي هو ربط العروض المسرحية بالتراث، والثقافة، والتاريخ مستخدما الرواية الشعبية، وقصص التاريخ، والأساطير.
التأصيــل في المسـرح الخليجي:
لا يمكن التأكيد على مرحلة البدايات الأولى للمسرح الخليجي في خمسينات القرن الماضي، إن المسرحيين قد تناولوا بشكل مقصود الحكاية الشعبي، والتراث، والقضايا الاجتماعية المحلية على أساس تأصيل القيم الفكرية والفنية، لكن حدث ذلك في مرحلة اللاحقة، حيث كانت فترة الحمسينيات هي مرحلة في معظمها قائمة على المسرح الارتجالي المبني على سيناريو شفهي غير مكتوبحتى جاءت مرحلة النص المكتوب.
لقد كانت التجارب المسرحية الخليجية في الفترة المبكرة كما يعرفها الدكتور محمد كافود في كتابه (المسرح في قطر ـ النشأة والتجربة) بأنها ناقصة. لأن الكاتب هنا اقتصر دوره على نقل الواقع، أو الجمع بين مجموعة من المشاكل، أو القضايا في إطار مسرحي.
ومع ظهور النص المسرحي، تناول المسرح الخليجي القيم الفكرية والفنية في أعمالهم من خلال تناول التراث، أما من أجل المحافظة عليه، أو استحضار لإسقاطه على الواقع، كما وظف المسرحي الخليجي القيم من أجل تنمية الوعي الاجتماعي ونشر الوعي السياسي لدى المجتمع.
كانت البداية الأولى لتوظيف التراث من أجل التعبير عن الهوية الخليجية على يد المسرحي الكويتي (محمد النشمي) بمسرحيات يغلب عليها الارتجال، كما ساهم أيضا الكاتب عبد الرحمن الصالح بنفس الإطار.
لقد تطور تناول التراث الشعبي في المسرح الخليجي في مرحلة السبعينات، حيث أصبح أكثر تنظيما وتوظيفا من خلال البناء الدرامي المتماسك، ومن أمثله كتاب هذه المرحلة المخرج الكويتي صقر الرشود، والكاتب عبد العزيز السريع، والمخرج القطري عبد الرحمن المناعي، والمخرج والكاتب حمد الرميحي، ومن اهتموا كثيرا بالتراث واستلهموه في المسرح الكاتب الإماراتي اسماعيل عبد الله، والكاتب سالم الحتاوي، وجمال مطر، ومحمد العامري، ومن البحرين خليفة العريفي، وعبد الله يوسف، وخالد الرويعي، ومحمد الجزاف، ومن السعودية محمد العثيم، وعبد العزيز الاسماعيل وسامي الجمعان، وفهد رده الحارثي، وعباس الحايك، ومن سلطنة عمان الكاتب والمخرج عماد الشنفري، والدكتور عبد الكريم جواد، وغيرها من الأسماء التي أصلت للمسرح الخليجي فكرا وفنا.
لقد مر التوظيف الفني في المسرح الخليجي من المباشرة في استخدام أدوات العرض التي تقترب من فنيات المسرح الواقعي والطبيعي إلى استخدام الرمز، والتجريد، سواء في الديكور، والملابس، والإضاءة، وغيرها من أدوات العرض الفني.
نمــوذج للتأصيـل الفكري والفني (الحالة القطريــة)
عندما تبنى المسرح القطري تأصيل القيم الفكرية والفنية في بداياته الأولى كغيره من المسارح الخليجية، لم يسع إلى هذا كغاية في حد ذاتها إنما تناولها في سياق عرضه للقضايا الاجتماعية، حيث بدأ المسرح القطري بالمسرح الارتجالي الذي هو وليد اللحظة، والاسكتشات الهزلية، التي كان يعرضها في الأندية، والمعسكرات الكشفية، حيث وجدت هذه العروض طريقها الأمثل لجذب المتفرجين، كما أن معظم القائمين على الحركة المسرحية من الهواة الذين لم يتعلموا بعد نظرية البناء الدرامي والفني في المسرح.
ولقد استمرت المحاولات الأولى للمسرح القطري حتى تم قيام أول مسرح رسمي عام 1972 عندما تولت الدولة دعمه، وأصبح له نظام إداري ومالي يحكمه، ومع هذه البداية المنظمة بدأ المسرح القطري محاولاته في الاقتراب من التأصيل الفكري والفني بتناوله للتراث بكافة أشكاله، وتوظيف التاريخ، الأسطورة، وتوظيف الحكاية الشعبية، وكانت معظم مرجعيات المسرح القطري إلى التراث البحري,
ويمثل الكاتبان والمخرجان عبد الرحمن المناعي و حمد الرميحي هما أكثر من اقترب إلى توظيف القيم الفكرية والفنية، مستلهمين حكاياته وقيمه الفكرية.
فقدم عبد الرحمن المناعي عام 1975 نصه الأول (أم الزين) الذي تناول فيه التحول في القيم الفكرية والفنية التي صاحبت مرحلة الانتقال من اقتصاد البحر إلى اقتصاد النفط، والذي أحدث مجتمعا متحولا من نمط حياة إلى حياة أخرى في السلوك والمعيشة.
ووظف المناعي القيم الفنية المتعلقة ببيئة المكان والزمان الذي تدور فيها أحداث المسرحية، حيث استعان بالأغاني والأشعار والرقصات والديكور والملابس والإضاءة.
عموما يعتبر عبد الرحمن المناعي من أكثر المسرحيين الخليجيين اشتغالا على التراث وأبراز القيم الفكرية، كما استعان من خلاله بالاسقاطات على الحاضر.
إذا كان عبد الرحمن المناعي قد استلهم التراث في معظم أعماله المسرحية تأليفا وإخراجا ليقدم من خلاله القيم الفكرية والفنية والتأكيد على التحولات الاجتماعية من علاقة الفرد الخليجي بالبحر وتحوله لاقتصاد النفط، فإن الكاتب والمخرج القطري حمد الرميحي اجتهد هو الآخر باستلهام القيم الفكرية والفنية للتراث والتاريخ ليضمنها اعماله المسرحية، وهو كما وصفه الدكتور محمد كافود في كتابه (المسرح في قطر ـ النشأة والتجربة) بأن مسرح حمد الرميحي يختلف عن مسرح عبد الرحمن المناعي من حيث إن مسرح الرميحي يتسم بشيء من العمق الفكري، وفلسفة المواقف، وتغريب الواقع، أي بمعنى أنه أقرب إلى المسرح الفكري، ومن أهم أعماله الذي حاول الرميحي فيها أن يقترب من توظيف التراث هي مسرحية (أبو درياه) التي تناولت من خلالها فكرة الظلم عندما عرضه للصراع بين النوخذة والبحارة وما يصاحبه من قسوة التعامل، كما استعان الرميحي بالتاريخ من خلال استحضار شخصية أبي حيان التوحيدي، ليسقط من خلالها وبشكل غير مباشر المعاناة والتشرد والملاحقة التي يواجهها المثقف العربي عموما كما يراه الرميحي، كما وظف كافة الأشكال الفنية لإيصال فكرة العرض وأحداثه من خلال إخراجه لأعماله المسرحية.
عموما لا يعني استدعاء التاريخ والتراث عند كل من عبد الرحمن المناعي وحمد الرميحي مقصودا بذاته، بل لتمرير رسائل ومضامين لم يتمكنا بتمريرها مباشرة إلى المتلقي لأسباب رقابية، أو اجتماعية، وهي كما يصفها الناقد الدكتور إبراهيم غلوم في كتابه المسرح والتغيير الاجتماعي (هي القدرة على التخفي بنعومة الحمام سلسلة الرقابات السياسية والاجتماعية).
في الختام، يجب التأكيد بأن القيم الفكرية والفنية التي يسعى المسرحي الخليجي تأصيلها في أعماله المسرحية ليست غاية ومقصدا بذاتها، وإنما هي متطلبات البنية الدرامية منذ فجر التاريخ المسرحي الذي قام على تبني القيم الفكرية والفنية، وهي جوهر العمل الفني شكلا ومضمونا، وهذا ما يقوم به المسرحي الخليجي باستعارة كافة المدارس الفنية لتأصيل القيم الفكرية والتأكيد على هوية الفرد الخليجي.
* د. مرزوق بشير بن مرزوق/ أستاذ نظرية الدراما والنقد بكلية المجتمع/ قطر
************************
* ملاحــظــة: هذا بحث د. مرزوق بشير الذي قدمه في الجلســة الأولى من اليوم الأول التي ناقشت موضوع “القيم الفكرية والفنية الأساسية التي أصل إليها المسرح في دول مجلس التعاون” بالندوة الفكرية: «البنية الأساسية للمسرح في دول مجلس التعاون الخليجي» ضمن فعاليات الدورة 14 لمهرجان المسرح الخليجي التي احتضنها مدينة الرياض (10 ـ 17 سبتمبر 2024) ، وذلك يوم الخميس 12 سبتمبر 2024، بقاعة المؤتمرات (بإقامة المهرجان).