القيم الفكرية والفنية في المسرح الخليجي/ د. حبيب غلوم العطـار
بداية لابد من الإشارة إلى أنني عندما استلمت طلب المشاركة في هذه الندوة استرعى انتباهي عنوان المحور وهو “القيم الفكرية والفنية في المسرح الخليجي” وتساءلت عن ماهية القيم الفنية، ما شكلها؟ فلسفتها؟ وهل هي بمعزل عن القيم الفكرية التي نعرفها؟ وفي ذات المحور يتساءل واضعه بمدى أصالة هذه القيم ومدى صلتها بروح المجتمع، ثم تساءل عن حدود التقليد والتأثير فيها، لذلك شعرت بأن من وضع هذا المحور لديه شك في تكوين هذه القيم واصالتها، فوضع السؤال والجواب معا، وأعتقد أنه مصيب إلى حد بعيد في شكه واستفساره.
كنت اتمنى أن تعنون الندوة الفكرية بحاضر المسسرح اليوم، لمناقشة وضع المسرح الخليجي الراهن، شؤونه وشجونه، وليس كما اعتدنا أن نسترسل في التأريخ لمرحلة التأسيس التي باتت معلومة للكثرين منا، لكي نصل في نهاية المطاف إلى الإشارة أو تلك، وأعتقد أنه آن الأوان لوضع إرهاصات البدايات على جنب لأنها أشبعت بحثا وتحليلا، والتركيز على حال المسرح اليوم، وعلى مبدعيه، خاصة الشباب المختلف في عطائه وفلسفته الحياتية والفنية، والتصدي لمنجزهم الإبداعي والتفكر في مستقبل الحركة المسرحية والأجيال القادمة، ثانيا كنت أتمنى أن توكل مهمة البحث لكل باحث في منطقته، لا أن نبحث جميعا في وضع المسرح الخليجي بعمومه وذلك لسبب بسيط هو أننا لا نعرف كثيرا عما يدور في الحقل المسرحي في عواصمنا الخليجية، فأنا مثلا لا أعرف كثيرا عن وضع المسرح في أرجاء المملكة على اتساع رقعتها من فرق مشتغلة وأعمال مسرحية وطاقات إبداعية وغيرها من العناصر التي تساعد في خلق مسرح نوعي نحتاجه اليوم، لذلك أعذروني فأنا سأبدأ من حاضر مسرحنا اليوم وسأنطلق من بلدي الإمارات وأنا على يقين بأن جلكم لا يعرف الكثير عن حاضر مسرح الإمارات غير العروض ومشتغليها من خلال المهرجانات المختلفة وهذا في اعتقادي لا يكفي لصياغة ورقة بحثية تلامس الواقع بمشاكله الراهنة وتطرح الحلول لها.
وبالعودة إلى القيم الفكرية في مسرحنا فهي حاضرة وبقوة ولها مبدعيها، مع التأكيد على أن هذه القيم لا تخصنا وحدنا، فهي في بداية الأمر كانت الأفكار التي تشغلنا هي القيم المرتبطة بالنشاط الإنساني أينما وجد، حتى أن جل القيم التي نعتنقها، اعتنقتها المجتمعات الأخرى البعيدة من التزام وتقاليد وحجاب وتسامح وغيرها من القيم السامية التي ما زالت تقريبا باقية في أرضنا، ولكن مع مرور الزمن لابد لها من زوال أو خفوت على الأقل شئنا أم أبينا كما حصل للمجتمعات التي سبقتنا، أما اليوم فإن القيم التي تشغل الشارع الإماراتي لم تعد كما كانت بوجود هذا الزحف المعلوماتي الدي طرأ في المجتمع مما شكل منعطفا في أسلوب حياتنا وطريقة تفكيرنا والمخاوف الجمة التي نستشعرها على مستقبل أبنائنا الاجتماعي والأخلاقي، والتطور الكبير في وسائل الاتصال المختلفة ما جعل العالم بين يديك بسلبيات وفواحش أكبر بكثير من نفعها، وبأفكار دنيوية موجهة وبالأخص للشباب مما تسبب في ضعف الوازع الديني والأخلاقي عند معظمهم، وكذلك سعي الكثير من الجاليات المختلفة والتي تعدت المائتين جنسية على أرض الإمارات بحيث أصبحنا نمثل 10% فقط من سكان الإمارات، مما يشكل حسب اعتقادي خطرا على الثوابت الوطنية والاستقرار المعيشي ومستقبل الأجيال القادمة، وأيضا تطور طرق النصب والاحتيال الدولية والعديد من التحديات التي نعيشها ونتوجس منها.
وهنا أتساءل هل نحن بصدد التكلم عن القيم الأخلاقية التي فطمنا عليها؟ وهل حدث ذلك مع الجيل الحالي من أبناء الخليج أو على الأقل بنفس القدر الذي استقيناه نحن من آبائنا؟ أم أن هذا الجيل يفكر بطريقة مغايرة لا تستدعي كل هذا الخوف وهذا التوجس؟ وهل استطاع كتاب المسرح اليوم من ترجمة كل هذه المخاوف ونسجها في أعمالهم المسرحية؟
أما عن القيم الفنية إن جاز التعبير فأتمنى كما يتمنى الجميع أو أغلبنا على الأقل أن تكون هناك ملامح فنية جمالية (كما أحبذ أن تسمى) تكون نابعة من القيم الفكرية وفلسفتها لكي تتوحد الفكرة لضمان الترابط والتكامل والانسجام في عناصر العرض المسرحي، ونحاول أن نظهرها بشكل مبتكر، إن تحقيق قيم الجمال وامتاع المتلقي على الخشبة يعني أننا حققنا الغاية الجمالية لذلك المضمون الفكري، وذلك بتعميق الفكرة التي صاغها الكاتب بقراءة جديدة للمخرج تعمق من تلك الفكرة لا أن نُلبس ذاك المضمون عباءة أو قلادة ظنا منا أنها تضيف جمالية للفكرة، بل لابد أن تتشكل القيمة الجمالية من إعادة الخلق لتظهر بصورة أعمق فكريا وفلسفيا أكثر منها تكوينات وتشكيلات جمالية متجانسة ومتماسكة، وأن يتم التوازن في استخدام هذه العناصر دون أن تؤثر أحدهما على الاخر مما يذهب المتعة الجمالية الكلية من المنجز الفني، لذلك نجد في معظم عروضنا أن السينوغرافيا تطغى على كل عناصر العرض بما فيها النص، وهذه طامة كبرى يجب علينا أن ندركها في مسرحنا الإماراتي.
واعذروني إن قلت بأننا في مسرحنا الإماراتي وتحديدا في أعمالنا التراثية التي تشكل أكثر من 80% من عروضنا المسرحية لا نعرف من قيم أو ملامح جمالية غير بعض مفردات الفنون الشعبية مثل الأهازيج والرقصات المتعارف عليها في الخليج والتي للأسف جلها واردة لنا وغير أصيلة في مجتمعاتنا وبالتالي في أعمالنا، وندعي بأنها قيم فنية أو جمالية لها علاقة بشكل مباشر بالمسرح، وأنها عنصر من عناصر العرض المسرحي، في حين أنني أرى أنها معادلة صعبة لا نستطيع أن نراهن عليها، لذلك تأتي معظم ‘بداعاتنا متشابهة، طبول ودفوف وآلات نفخ وأخرى نحاسية ولا جديد، والمعضلة الأكبر بأن هذا الفعل المتوارث أثر بشكل سلبي على خلق أو ابتكار إبداع موسيقي جديد أو أهازيج أو رقصات جمالية مبتكرة.
لنعد إلى الوراء قليلا، إلى نهلنا المستميت من مكتبة المسرح العالمي والعربي حيث بدأ حبنا للمسرح وأخلصنا له، ولا أذكر أنني قرأت تلك القيم الفكرية سواء في النصوص الأوروبية أو الروسية أو حتى العربية بدخول فرقة راقصة أو غنائية مصحوبة بالأهازيج والدفوف، بل وصلتنا بقيمها الفكرية الأصيلة وعمقها الفلسفي، فلم تكن الأهازيج والرقصات في مقدمة كل نص أدبي قرأناه أو اشتغلناه، إذا فمن أين جاءت بدعة الفنون الشعبية في معظم عروضنا؟ ولماذا الإصرار عليها؟ وتكرارها في كل عرض؟ مع أنني أؤمن بأهميتها وتأثيرها في بعض العروض على الذائقة الجمالية عند المتلقي ولكن لا ينبغي أن نقحمها في كل العروض التراثية.
إن ما نعانيه في الساحة الفنية الإماراتية أنها ساحة مفتوحة الجوانب يلج إليها المريدون من كل حدب وصوب وبالخليجي نقول:”كل من هب ودب”، يدلو بدلوه في هذا المضمار بالعمل والمشاكسة وإبداء الرأي في كل ما يقدم في الساحة الفنية، وهذا ما نود أن نؤكده في بحثتنا هذا أننا أمام حالة غير مستقرة بين الكتاب والمخرجين، لذا تأتي إبداعتنا منقوصة التأثير وضحلة الرؤى لا تجديد فيها بسبب أحادية التناول والتنفيذ في كثير من العروض المسرحية.
ومن أهم هذه التجارب الإبداعية النشطة والمؤثرة اليوم في المسرح الإماراتي وهم قلة للأسف الشديد نجد في مجال التأليف المسرحي الكاتب الكبير إسماعيل عبد الله، مرعي الحليان، أحمد الماجد وعلي جمال.
أما في الإخراج فيتربع على سلمه المبدع محمد العامري، حسن رجب، إبراهيم سالم، مروان عبد الله صالح، علي جمال، إلهام محمد، عبد الرحمن الملا، إبراهيم القحومي وعبد الله الحريبي.
زأجزم بأن معظمكم لا يعرف الكثير عن هذه الأسماء وبالذات الشباب منهم، لكنني أؤكد لكم أعزائي نحن أمام حالة متوهجة من الإبداع فتجارب المبدعين متجاذبة في قيمها الفكرية والفلسفية وملامحها الفنية والجمالية، أبدعوا في خلق حالة من التمازج بين الماضي فكرا والحاضر تأثيرا، عملوا لسنوات أثمرت عن منجز فني كبير يضاف لرصيد المسرح الإماراتي، وأدعوا نفسي وأدعوهم أن ينتهجوا الحداثة خطا ولا يحيدوا عنه، وألا يعترفوا بالحدود، وأن يطلقوا لأنفسهم العنان في فضاء المسرح، وأن يلتزموا بقضايا الساعة، وأن يعملوا من أجل مناخ مسرحي منفتح فكرا وجمالا.
وممـا سبـق يتضـح لنـا الآتـي:
أولا: إن دولـة الإمارات متمثلة في مؤسساتها المعنية بالمسرح لم تتأخر في مد يد العون للمسرح والمسرحيين ومساعدتها ودعمها ماديا، وكذلك في إقامة المهرجانات وتلبية دعوات الدول الأخرى للمشاركة في المهرجانات المسرحية المختلفة، والاحتكاك الحضاريبما وصل إليه المسرح في تلك الدول، والتفاعل مع إرثها المسرحي.
ثانيـا: إن هذا كله لم يكن ليحدث لولا رعاية سيدي صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة حفظه الله ورعاه ودعمه اللامحدود للمسرح والمسرحيين، بإقامة عدد من المهرجانات النوعية لتستوعب معظم الطاقات الإبداعية في الدولة، وكذلك بناء قاعات نموذجية للعروض وأيضا إنشاء أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية التي بدأت ترفد الساحة الفنية بالطاقات الإبداعية من ممثلين ومخرجين ومؤطرين.
ثالثـا: ظهرت اتجاهات إخراجية كثيرة بعدما تحول المسرح في الإمارات إلى علم ودراية وانتهج مبدعوها المدارس الإخراجية ومناهجها المتنوعة، من خلال الدورات والورش المسرحية التي تقوم بها إدارة المسرح في دائرة الثقافة بالشارقة وتأهيل المنتسبين بما يحقق طموحاتهم ورؤاهم.
رابعــا: اختلفت المواضيع وتباينت الرؤى في الطرح حيث أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتقنيات الحديثة وتطور وسائل الاتصال والتواصل أثرت على المفهوم العام للوضع الراهن في الدولة، فأصبح المبدع الإماراتي أكثر شمولية في التفكير وأعمق رؤية في الطرح، فاختلفت المضامين والرؤى بعد أن كانت مقتصرة على قضايا الزواج والطلاق وغلاء المهور والتربية.
وأخيرا حاولى أن أوجز الحكاية في هذه الوريقات بناء على الوقت الممنوح لنا على أمل أن نستزيد في المعرفة من خلال النقاش المفتوح ودمتم بود.
************************
* ملاحــظــة: هذا ملخص بحث د. حبيب غلوم العطـار الذي قدمه في الجلســة الأولى من اليوم الأول التي ناقشت موضوع “القيم الفكرية والفنية في المسرح في دول مجلس التعاون” بالندوة الفكرية: «البنية الأساسية للمسرح في دول مجلس التعاون الخليجي» ضمن فعاليات الدورة 14 لمهرجان المسرح الخليجي التي احتضنها مدينة الرياض (10 ـ 17 سبتمبر 2024) ، وذلك يوم الخميس 12 سبتمبر 2024، بقاعة المؤتمرات (بإقامة المهرجان).