تحريضٌ أم تعويلٌ على الذاكرة في (أُفق مفاهيمي)؟ / جبّار ونّاس
ماذا يعني حين ينفلتُ العرضُ المسرحي من آسار الجدران المغلقةِ ومن بطنِ الخشبةِ بغيةَ التجلي تحتَ اضواء كاشفةٍ وبين أنفاسٍ ومشاعرَ ساخنةٍ ليتجولَ بين أحضانِ الجمهور؟
وماذا يعني أيضاً أنْ يلجأ رجلُ المسرحِ الى التعويلِ على مايمكنُ تسميتُه ب (العرض الأبيض) والذي يخلو ويتجردُ من كلُّ ممكناتِ التعضيدِ المتعارفِ عليها حين الشروعُ أو تقديمُ عرضٍ مسرحي يراد له أنْ تكون كلُّ مثاباتِه حاضرةً بدأً من النصِ ومخيلةِ الإخراجِ إلى الديكورِ والموسيقى والإضاءةِ وسائرِ ما يجعلُ ذلك العرضَ ناجزاً لتكتملَ صورتُه النهائيةُ عند جمهورٍ قارئ ومفسرٍ ومتفاعلٍ في إنتاجِ الهدفِ النهائي لما جاءتْ به مراماتُ العرض؟
ولماذا التقشفُ والبساطةُ والإقتصادُ والميلُ إلى تعضيدِ كفةِ محمولاتِ التأليفِ النصي وجعلِها أكثرَ حظوةً وهي تَفْرِشُ بشذراتِ مفرداتِها ولاتتوانى عن مداهمةِ اسماعِ وابصارِ وأرواحِ مَنْ يكونون داخلين بين تفاصيلَ ومجرياتِ (العرض الأبيض) وهو يخلو من تلاوينِ اللونِ ومن كلِّ ملحقاتِه؟
وبعد فهل يمكنُ أنْ نقولَ عما يأتي به (العرض الأبيض) والذي يتجردُ إلاّ من نيّاتٍ صادقةٍ أنَّ ثمة تحريضاً أو تعويلاً على إستنهاضِ الذاكرةِ؟
فالذي شاهدناه من عرضٍ أدائي كان عارياً إلاّ من أثوابِ الكلامِ المباشرِ والخطابِ الذي يصولُ عنوةً نحو اسماعِ وابصارِ مَنْ حضروا في الباحةِ الأماميةِ لبنايةِ إتحادِ أدباءِ وكتابِ العراق في بغداد ضمنَ عرضٍ مسرحي تحت عنوان(أُفقٌ مفاهيمي) من تأليف وإخراج(ثائر هادي جباره) وتمثيل (ثائر هادي جباره وزهير الجبوري) وقُدِّم العرضُ في يومِ الأربعاء 4-12-2024 ويأتي مسايراً لفعالياتِ مؤتمرِ النقدِ المسرحي في العراق والذي عُقِدَ بالتاريخ آنفاً
وإذا ما أردنا أنْ نُدققَ فيما فاضتْ به تفاصيلُ خطابِ هذا العرضِ المباشرِ فسوف نلمسُ توجهَ المؤلفِ والمخرج معا(جباره) نحو الإعلانِ وإشهارِ مضموناتِ مايريدُ البوحَ بها وبإسلوبٍ مسرحي يميلُ إلى التكرارِ والتفصيلِ وهو يعرضُ أمامَ جمهورِه صوراً لأغلفةِ كتبٍ لكتابٍ ومؤلفين عراقيين في المسرح، القصة، الرواية، التشكيل، النقد، الشعر
ومحاولة تكوين صورٍ تستند إلى مضمونات ما حوته هذه الكتب عبر سياق حركي سمعي وبصري ومبتغاه أنْ يجعلَ من ذاكرة مَنْ يشاهدون هذا العرض وجلهم من الأدباء والكتاب والنقاد في العراق وجعل تلك الذاكرة تتشعبُ وتكون متواصلةً مع إبداعاتٍ جسدها هؤلاء الكتاب والشعراء مثل(ناجح المعمري، عبدالرحمن مجيد الربيعي، عمر السراي، جمال الاسدي، موفق محمد، جواد المرشدي) وعن طريق ذلك التشعب ستكونُ لعمليةِ التلاقحِ والتذكرِ الآني في تواصلٍ مع ما جاءت به مناخاتُ وافكارُ تلك الكتبِ وفي تداولٍ مفاهيمي حاول المؤديان لتلك المهمة(ثائر هادي جباره) وهو يجري ويتداخل مع ابصار واسماع الحاضرين في شرح مفاهيم ما جاء به كل كتاب ومن خلال غلافه ويصاحبه بشرح لتفاصيل الشكل التخطيطي لكل غلاف وطريقه إخراجه فنياً وفي المقابل نرى أنَّ مهمة المؤدى الآخر (زهير الجبوري) قد تمثلت بتوطئة شارحة للمحتوى الفكري والفني لكل كتاب يُعرض وفي هذه المناوبة يكون الجمهور الحاضر وقد صار على حصيلة وافية من حضور مؤثر لفعل الذاكرة لديه.
وفي جانبٍ آخر مما جاء به فعل التأليف وجدنا أنَّ المؤلفَ قد تطرق إلى حوادث مأساوية كان العراق قد عاشها أيام حكم الديكتاتوريةِ وايضا في أيام ما شهده العراق من إرهاب منظم ومدمر بعد إزالة حكم الديكتاتور المقيت وما حصل من عمليات التفجيرات الإرهابية والقتل على الهُويةِ وقطع الرؤوس.
وهذا الإصرار من قبل الفنان(ثائر هادي جباره) لتقديم عروض قوامها الخطاب المباشر المنفلت من ممكنات الأناقة في التأليف القائم على حيازة اللغة وماتمتلكه من قدرة الإلمام الحصيف بما تتطلبه الجملة داخل النص المسرحي سيعطي لهذا الفنان المثابر قدراتٍ من مساحات التميز والإشتغال المسرحي سيما وأنَّ عروضه ومنها هذا العرض تحاول أنْ تعيد لنا بعضا من مناخات التحريض وإثارة النقمة كما شاهدنا وقرأنا في نصوص وعروض مسرحية كانت سائدة في المسرح العربي
وقد جاءت محرضة وغاضبة ومثيرة لشجون من يقرأها أو يشاهدها إزاء ظروف غير ملائمة لقيم وحياة الناس وإحساسهم وتأملهم في حياة أكثر آدميةً للإنسان بعيدةً عما قامت به قوى الطغيان والتسلط وسلب إرادة الناس ونزع طموحاتهم في رؤية حاضر مستقر للعيش يمهد لهم لأنْ يروا مستقبلاً فيه من مقدرات الأمان والعيش بسلام..