“لير يحاكم القدر”…المسرح المغاير وخطوة في سلم العالمية/ د. سعد يونس

قبس من لهيب الابداع

يقول الأستاذ حاتم عودة :”يجتهد الكاتب والمخرج منير راضي في تقصي وتحري وتأمل وفحص المكنونات المخبوءة والمستورة والدفينة لاستخراج الخلاصات العميقة التي غفل عنها الدارسين للأرث الشكسبيري وهو اليوم يستوقفنا في لحظات ليست عابرة في حكاية الملك لير المعروفة ويأخذنا لينير زوايا مظلمة في غفارها العميقة”

مسرحية :لير يحاكم القدر

تأليف واخراج :منير راضي

تاريخ العرض : 2024/12/7,6,5

مكان العرض : مسرح الرشيد

حين دخلنا صالة العرض وجدنا أجواء مفعمة بالترقب عن ما سيدور في العرض…حين ابتدأ وشاهدت الاستهلال ذهبت  في عالم اخر الى حيث The courtyard Theatreفي ستراتفور،آبون آفون كما قرأنا ،حيث عرضت مسرحية الملك لير عام 2006-2010 كجزء من افتتاح المسرح المؤقت اثناء تشديد مسرح شكسبير الملكي..Royal shalespear Theatre

لكن وقع الموسيقى اعادني الى العرض في مسرح الرشيد…فوجدت اجواء…جديدة مغايرة لما قرأناه في نص شكسبير الاصلي الملك لير.

لقد اندهشت من اللغة العالية التي استخدمها الكاتب المبدع’منير راضي’وحسن اختياره للعبارات والكلمات والتقطيع في الجمل وقد ابهرني جمال الوصف وقوة ووقع العبارات وعمقها ومدلولها واختيار اماكنها في الحوار وبصورة متناغمة وسلسة،حيث ابدعنا’راضي’ بلوحته’الملك لير’والتي رسمها بريشة خاصة بها وبذل جهد ليفهمه من يعرف ماهو النص وما هو العرض وما جرى اثناء التدريبات وخلف الكواليس اثناء العرض، انها لحظات تشبه لحظات الاحتضار لما سيكون شكل العرض وردود الافعال عليه، فاستخدم حرفيته في اختيار ابطاله ليتحملوا هكذا ثقل وكما اسلفنا من اللغة العالية والاداء الذي حسب له ‘منير’ كل خطوة وكل حركة بدقة.

لقد حاور ‘لير’ القدر…باسلوب فلسفي وترك انطباع لدى المتلقي…مشحون بالتساؤلات وعلامات الاستفهام وحملها معه حتى بعد العرض،فللوهلة الاولى حين نرى الشاشة وما عرض عليها من مادة فنية في الاستهلال نرى روعة الحداثة التي ادخلت على العرض من خلال استنطاق الاحداث ولفترة زمنية قليلة اسست لحوار وافتتاح المسرحية.

حين تقرأ العنوان’لير يحاكم القدر’ يتراءى لك انه نص قديم وخصوصا بعد السرد الاستهلالي في الداتا شو…ومن لم يصبر (المتلقي)سيقول..ماهذا…جئنا الى لير شكسبير التي تناولها الكثير في كل انحاء العالم ، ومن المؤكد لاحقاً سيجيب المتلقي على سؤاله في نهاية العرض…انها مسرحية مغايرة…وهي رؤية جديدة وطرح جديد’ليست شكسبيرية بل منيرية’.

المسرحية مملوئة بصراعات دامية وانعطافات نفسية تستقرء وتحاكي ما يجري في عالمنا الحالي،فنجد فيها المتضادات كالظلم والعدالة والجهل والعلم، القوة والضعف الجنون والعقل…وغيرها تترا،وحوت على حوارات واسئلة تحتاج الى مناقشات وندوات للاجابة عليها…لا شك ان المسرحية تضمنت رموز كثيرة وصور أدبية،حيث تم تصوير التدهور النفسي  والعاطفي للملك لير(يظهر وهو ساجد امام العكاز: ساءت عورة جراحي مذ ابصرتك،اليك عني،ينبغي ان نظهر انفسنا بما يتصل بنا من ادران ودنس العقوق…)(1)، وكان هذا التصوير في قالب مأساوي ملغلم بالتوترات على جميع الاصعدة.

وهناك من الرموز المهمة كالجنون والذي يعبر عن الزلزال الداخلي والذي تولد عن الخيانة والندم حيث اباح بنفسه لإبنتيه ‘جونسيا وريغان’،الذي جعل عقلة يتهشم نتيجة الجنون الذي اتى من التفكك الاخلاقي والادبي(ريغان من كوه في الكهف :الكل يكره الكل السن والخرف لم يستطع ان يميز الصدق من الرذيلة)(2)

انه الخداع…الذي ولد الجنون، وكذلك نجد من الرموز العمى والذي يعبر عنه انه كان اعمى عن رؤيته للحقيقة رغم انه اكتشفها لاحقاً ولكن بعد ان ذهب كل شيء… (الظل :انك لا تستطيع ان تبصر ما تراه انا، انا احيا في ملكوت القدر، اما انت فقد اصبحت اسير ضحاياك الموهومين)(3).

ونجد كذلك رموز اخرى مثل الشرف والخيانة وهذا يظهر جلياً لدى ‘جونسيا وريغان’حيث قدمن انفسهن على انهن وفيات للملك ولكن الحقيقة غير ذلك،بينما كورديليا تمثل الطهارة والعفة والشرف وهذا مصداق للصراع بين الخيانة والشرف في العلاقة الاسرية للملك رغم  ان’لير’لم يشملها بالارث ونعيم المملكة…

(كورديليا: لكني أضرع إلى جلالتكم حتى وإن يعوزني فن المداهنة الذرب بالكلام دون نية الفعل ، فأنا ان نويت على فعل فعلته قبل الكلام فيه ) ، أن تعلنوا للملأ أن ما حرمني عنايتكم وعطفكم لم يكن لوثة من الرذيلة في – جريمة قتل أو فحش ، أو تخلياً عن عفة ، أو فعلة تخل بالشرف ، بل لأنني لا أملك ما أنا أغنى بافتقاري اليه : عيناً تستجدي كل لحظة ، ولساناً يفرحني أنه يعوزني ، وإن يكن افتقاري اليه قد أفقدني مودتكم))(4)

قد قدم الكاتب والمخرج’منير راضي’ ‘لير’ ليس كشخص اخذ فسحته الملكية وانتهى وانما عن معاني اخرى علاوة على انه بشر وعلاقته بالقدر الذي تحول الى حاكم يحاوره ويجادله على مايفعل ضده وضد الاخرين.

لمح ‘راضي’الى افكار كالحتمية والصراع مع القدر ،وترك النقاش مفتوح فيما اذا ما آل اليه لير جاء كنتيجة لما يريد او انه ضحية لمؤثرات اخرى خارجة عن إرادته.

من مجريات الاحداث نلاحظ ان الحبكة في هذه المسرحية لها ميل فلسفي والتركيز على الصراع الداخلي بين لير والقدر وادواته،فأظهر ‘منير’ في بداية المسرحية ‘لير’ وهو في حالة الضعف والتذمر من كل شيء ،واصبح مكتوف اليدين لهول الخيانة من اقرب المقربين  ثم يبدأ الصراع بالارتفاع ومحاولة ايجاد نفسه من خلال محاكمة القدر والذي  قدمه ‘منير’ ككيان يمكن الحوار معه ومحاكمته،وهنا يبدأ السؤال هل سيتمكن من محاكمته او يبقى ضحية له…وهنا جعل كاتبنا المبدع هذه التساؤلات تنتقل الى المتلقي ويدخله  في دائرة التفكير والحيرة والحوار مع نفسه محاولاً الاجابة على الاسئلة التي تطرح في المسرحية،وهنا الدربة اخذت وقعها حيث ترك ‘منير’المتلقي ليصل الى نتائج المحاكمة ومن هو الذي سيسيطر ،فجعل منير من العمل ورشة وحوارات داخلية لدى المتلقي فكان في حوار دائم ولذلك جعل النهاية مفتوحة.

تناولت المسرحية ثيَم كالخيانة والسلطة(غورتل من فتحة الكوة في الكهف :انت اب عاق تقاسمتك السلطة)(5) وكذلك ثيمة العلاقة بين السلطان والفرد.

اتحفنا ‘منير’باللغة التي اخذت من الحوار الشعري وقد كان هناك كثافة في الحوار التي فيها تهجدات فلسفية والتي تتطلب من المتلقي التأمل والتفكير لعمق مفاهيمها…

ومن ناحية اخرى تمكن’منير’ وببراعة اخراجية اشغال الفضاء المسرحي بتصميمات وديكورات نابعة من تصوراته والتي نفذها كادره الفني وجعل لها رمزية تتواشج مع الاحداث ومتناغمة مع بقية ادوات السينوغرافيا والصوت وقد توج جمال المسرحية بالرقصات الصغيرة التي تحكي حدث وليس كرقصة مجردة.

مزج’راضي’بين الحداثة الكلاسيكية والفعمة بالرمزية والحوار الفلسفي لذا احتوت المسرحية على افكار وموضوعات لها من العمق والاهمية.

كانت شخوص ‘منير’جميعها فعالة تشاركت البطولة حيث صنع لكل شخصية عالمها واعطاها القوة في الحوار والتأثير في مجريات المسرحية حتى كلوديريا التي لم تتكلم اثناء العرض،فكانوا جميعم ابطال وليس لير فقط رغم انه الشخصية المحورية،فصنع لير والقدر والظل وبنات لير فناً قدم على طبق من ذهب وترجموا افكار ورؤية الكاتب والمخرج للعمل ‘منير راضي’وباعتقادي ومما اعرفه عنه ليس كل ما يريد او يفكر به ترجموه بدقة ومع ذلك ابلوا بلاءً حسناً.

ان الفكرة الرئيسية للعمل هي الصراع بين الانسان والقدر.

لقد كانت المسرحية خطوة في سلم العالمية لما تملكه من سمات نصاً وعرضاً وخصوصاً انها تمتلك رؤية موجودة في كل زمان وكل مكان رغم ان المسرح فيه الخيال ولكن براعة و ذكاء الكاتب اخذ شيء من الواقع واذابه ودلقه في افكاره ويمكن ان نرأ ذلك حين نستقرأ الاحداث والافكار والتي يمكن مسها وفهمها فيما لو فسرت بمستوى ماطرحه بصورة حضارية.

ان مجرد طرح التساؤلات خلال احداث المسرحية نستنتج ان راضي يروم معالجتها من خلال اشراك المتلقي في تفسيرها وفق ما يفهمه منها.

لقد كانت الايام الثلاثة مهرجاناً واستفتاءاً وبجهود الاستاذ الكاتب والمخرج المثابر’منير راضي’ ويظهر ذلك من خلال ضخامة الانتاج والجهود للاعداد للعرض.

نتمنى من الكتاب وانا منهم والمخرجين ان يدرسوا هذا العمل وبتجرد مع الاحترام لمقامهم وعلمهم والوقوف على سر النجاح كما اعتقد.

لقد ختمت المسرحية بإيحاء ايجابي حيث غادر ‘لير’ مع ‘كورديليا’وهي نرترتدي ما يعبر عن النقاء حاملة الورود وهي رمزية بأنها رحلة للفردوس وقد يكون تطهيراً لخطاياه رغم اثرها، وهذا الرأي متواشج مع رأي ‘ناحوم تيت'(قد حورها ناحوم تيت عام١٦٨١ بحيث جعل نهايتها فرحة)(6).

فكانت نهاية فيها امل ودرس لمن هم يغرقون في الخطايا وان الرب يحثنا على تطهيرها من خلال تطهير انفسنا من الرجس الذي صنعناه بأنفسنا او فُرض علينا،ومصداق ذلك يقول الكاتب والمخرج ‘منير راضي’في خاتمة نصه(انا لير الاب والملك النبيل سيبقى وهج ظلي هنا لا ينطفيء،سأعود،نعم سأعود وسأتربع على كرسي الشرف من جديد…اما انا وحبيبتي ‘كورديليا’ سنهرب من رُسل القدر والقتلة…ها انا ارى اضواء ساطعة كأجمل ما يمكن ان تراه من اضواء دفئاً وحناناً ولطفاً،لن يسقط السراج من يدي بعد الان)(7).

“ما لم يستطع المسرح أن يعظمك، ويجعلك شخصاً أفضل، فعليك الهروب منه”.

(قسطنطين ستانيسلافسكي، مخرج وممثل مسرحي روسي).

المصادر:

(١)منير الراضي،لير يحاكم القدر،نص غير منشور،عرض على مسرح الرشيد في بغداد للايام٥-٦-7\2024

(٢)(٣)منير راضي،لير يحاكم القدر،مصدر سابق.

(4)الملك لير،ترجمة جبرة ابراهيم جبرة،دار المأمون للترجمة والنشر،وزارة الثقافة والاعلام،مطبعة دار الحرية،١٩٨٦،ص23.

(٥)منير راضي،لير يحاكم القدر، نص غير منشور،عرض على مسرح الرشيد في بغداد للايام٥-٦-7\2024

(٦)الملك لير،ترجمة جبرة ابراهيم جبرة،دار المأمون للترجمة والنشر،وزارة الثقافة والاعلام،مطبعة دار الحرية،١٩٨٦،ص١٦٢.

(٧)منير راضي،لير يحاكم القدر،نص غير منشور،تم عرض العمل في مسرح الرشيد في بغداد بتاريخ٥-٦-٧/2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت